الشهداء يحبون الحياة !/ يوسف أبو الفوز

الصورة المعروفة عن المناضل الشيوعي، عند كثير من الناس، تتعلق بكون حياته مليئة بالمعاناة، فهي تمتد بين ما خلفته في روحه سنوات العمل السري ومضايقات الأجهزة الأمنية للأنظمة الدكتاتورية، وسنوات الاعتقال والسجون والاختفاء والكفاح المسلح في الاهوار والجبال، وكل ذلك بعيدا عن الاستقرار ودفء الحياة العائلية في ظل حياة طبيعية، فحياته تمضي بين أجواء من التوتر والترقب، وكل هذا قد يجعل صورته عند البعض جادا ومتجهما، غارقا في أمور معقدة، ولا وقت لديه للاسترخاء والمرح. لكنّ الشيوعيين، هم أبناء هذا الواقع، هم بشر مثل غيرهم، لديهم نقاط قوتهم وضعفهم وتناقضاتهم، ولكن وعيهم الطبقي وثقافتهم العالية، وإيمانهم بمبادىء سامية تهديهم للنضال لاجل كرامة وسعادة الانسان وحرية الأوطان تجعلهم يروضّون نقاط ضعفهم، ويتسامون على مغريات الحياة ومغرياتها وصغائرها، ويكونون مستعدين لمواجهة مختلف الصعوبات والضغوط، وتكون لهم مواقف متميزة تصل حد التضحية بالنفس، وبكل شجاعة لأجل صيانة لقب الشيوعي، وحياة أفضل للآخرين.
يوما في سبعينات القرن الماضي، قال القائد الشيوعي والكاتب السياسي رودني اريسمندي (1913 ــ 1989)، من الاورغواي: "نحن الشيوعيين لسنا نوعا خاصا من البشر، نحن من الطبقة العاملة ومن هذا الشعب ونحن بالنتيجة مواطنون عاديون مرحون ومتواضعون مغرمون بالحياة ومسراتها، مغرمون بزوجاتنا وأطفالنا، بالسلام وبدفء الصداقة، بالغيتار والأغاني وبالنجوم والازهار". والشيوعيون العراقيون، جزء من هذا الكلام، وشهداؤهم أيضا.
ومن بين الشهداء الشيوعيين العراقيين، ثمة مناضلون، يحفظ لهم رفاقهم، الذين عاصروهم، والناس الذين عرفوهم، إضافة الى مواقفهم البطولية وشجاعتهم، حبهم للمرح والنكتة وصنع المقالب الطريفة للآخرين. هكذا، مثلا، عرف الأنصار الشيوعيون في سنوات الكفاح المسلح الصعبة، في جبال كردستان، الشهيد العامل حاتم محمد نمش ـ ابو كريم (استشهد 1987). إنسانا ممراحا، محباً للنكتة، سريع البديهة، ويقدم ملاحظته الناقدة باسلوب ساخر، فيثير ابتسام من حوله، ويشيع جوا صداقيا ودودا وحميميا من حوله، مترعاً بالحب دون ان يغيظ احدا ما. هكذا التقيته شخصيا، لأول مرة في "كلي هصبة" (وادي الخيول) مقر أنصار الفوج الثالث صيف عام 1985، وعملنا لفترة معا، جنبا الى جنب في بعض المهمات الحزبية والأنصارية. كان شديد الذكاء ولماحا ومحبا لرفاقه والناس والحياة.
كتب النصير داود امين ـ أبو نهران، في مجلة "الثقافة الجديدة" العدد المزدوج 203 ـ 204 الصادر عام 1988 تحت عنوان " أبو كريم يعيش في قلوبنا" قائلا: (قبل التحاقي بالأنصار، ووصولي إلى كردستان، كنت أسمع عن "أبو كرّيم" فالأنصار القادمون من كردستان كانوا يتحدثون عنه بمتعة وإعجاب، يروون طرائفه ونكاته، ويتحدثون عن بطولاته وجرأته، عن إنضباطه الحزبي الواعي، وعن موقفه الأصيل من العمل، ومن المظاهر السلبية في الحياة الحزبية). ولشد ما كره الشهيد أبو كريم البيروقراطية في العمل الحزبي، فوجه نيران سخريته الى بعض الممارسات التي وجدها تعيق نشاط الحزب وتطوره، وتعيق مبادرات المناضلين المخلصين في العمل، فبعض الكوادر الحزبية التي يجدها تتحسس من طرح رأي ناقد وتشخصّن الملاحظات كان يسميها "الكوارث الحزبية". وأما مفارز الأنصار التي يصدف وان تضم كبارا في السن ومرضى كان يسميها "مفارز القناصة". كان له قاموسه الخاص، ويلعب بالكلمات ويحورها، ويحملها معاني أخرى تثير الابتسام. سماه النصير عمار علي" قارع اجراس الفرح" ــ طريق الشعب 4 أيار 2014 ـ وكتب عنه محاولا تفسير حبه للمرح: "يلتقط الأشياء النادرة، يحولها الى سخرية، ربما قسوة المكان تستدعي وجود قوة رفض الواقع العدائي الثقيل. قوة تكسير حجر القسوة. تهزم آليات الضجر والرتابة. كان يراوغ جنيات الطبيعة، يعاند موج العزلة الهائج. كان يستقبل القادمين الى جنة الوادي الموحش بالزغاريد والأغاني والحنين.". كان يمازح الجميع، اهل القرى والقادة المسؤولين من الاحزاب الأخرى والأطفال، ورفاقه الأنصار ورفيقاته. لم يكن احد يسلم من لذع لسانه، ولم يكن احد يسيء فهم مزاحه الذي لا يحمل اي ضغينة او تحاملاً. قال لي النصير مزهر بن مدلول ـ أبو هادي: (أذكر يوما، ممازحته لاحدى الرفيقات، حين قال لها "حركاتك" أجمل من كل حركات التحرر الوطني في العالم !). لم تزعل الرفيقة، لانها تفهم شخصية ابو كريم ولعبه باللغة والمصطلحات. الرفيق ابو نهران، يروي عنه: (كان الحديث عن سلاح الستريلا، المضاد للطائرات يشغل جميع الأنصار طوال عامي 1981 و1982، فالكل يتحدث ان حزبنا يمتلك كميات من هذا السلاح، ولكن الصعوبة فقط في إدخاله الى كردستان ! فهو سلاح ثقيل وحساس جداً عند النقل! وفي صيف 1982، وصلت مفرزة من الخارج، وكان بين أنصارها الرفيق "ابو عليوي" وهو رفيق بدين، وما ان شاهده أبو كريم حتى صاح: "يكولون ما نكدر ندخل ستريلا .... جا هذا الرفيق شلون دخل !؟ " ثم إقترب منه وقال له "كلي رفيق انت كم واحد، يا الله قدر يكسبك للحزب ؟ أكيد لجنة كاملة فرغوها لكسبك !" وضحك الرفيق ابو عليوي مرتبكاً، فمن المؤكد أنه سمع عن ابو كرّيم !)
مثل ابو كريم، كان هناك العديد من الشيوعيين، والعيد منهم استشهدوا، لن اذكر اسماء هنا حتى لا أظلم احدا اذا نسيته، فجميعهم كانوا يمنحون الحياة من حولهم رونقا خاصا بشخصياتهم المحبة للفرح، وينثرون المحبة والابتسامة بين الناس، مثلما ينثرون الامل بالحياة السعيدة والتمسك بالاخلاق الفاضلة والمبادىء السامية. الشيوعيون عشاق الحياة، يمنحون حزبهم ومبادئهم زهرة شبابهم، لهم مواقفهم المشهودة في عدم الرضوخ والتنازل امام صعوبات الزمن وعسف الدكتاتوريات، وفي خضم كل ذلك يمارسون حياتهم بكل مدياتها، وشهداؤهم يضحكون دائما ويحبون الحياة !