هو الذي رأى كلّ شيء / وديع شامخ

ثقافة كل شعب هي عصارة لقوس قزح، منابعه الفكرية والجمالية والشعبية ماديا وروحيا، إذ لا يمكن فصل المؤثرات بشكل جزافي على نمو الشعوب وتطورها المدني والحضاري العام.. كما أن العادات والتقاليد والقيم والأعراف هي الأخرى تشكل أحدى الدعامات المهمة في حياة الشعوب ونمط عيشها.
ومن المرجعيات المهمة في هذا الشأن هي " الملاحم، السير، الأساطير"، بوصفها بنيات ثقافية وأدلة على نمط الفكر والثقافة برمتها في حقبة تاريخية معينة، وتشكل ظهيرا موروثا لثقافة هذا الشعب أو ذاك.. وقد يستمر تأثيرها إلى حقب لاحقة وهو ما يدعى بالمؤثرات الموضوعية إلى جانب المؤثرات الوراثية الذاتية.
هذان المؤثران الحاسمان هما من سيكون لهما الفصل الأخير والقول الختام في تشكيل شخصية الكائن البشري.
...

ملاحم وسير إنسانية

واحدة من الملاحم البشرية المهمة التي أنتجها الفكر العراقي في سفر التاريخ البشري هي "ملحمة جلجامش" حيث تقف بالصدارة مع " ملحمة الخليقة البابلية " كوحدات تأسيسية كبرى في تاريخ البشرية.. وسيكون المقال هنا موجها إلى "ملحمة جلجامش" بوصفها رحلة الإنسان العراقي للبحث عن الخلود.
ربما سيقال لماذا "ملحمة عراقية "وهناك ملاحم إنسانية أخرى كتبت بنفس ملحمي كبير وصارت عنوانا وتاريخا وهوية لشعوب اخرى.. مثل "الإلياذة، الأوديسة" لهوميروس، و"الأرغونوتيكيا" لأبولونيوس الروديسي، والانياذ لفرجيل.
وبنظرة سريعة على هذه الملاحم، وبرغم أهميتها وتأثيرها بحاضنتها المجتمعية سنجد أنها تدور حول محور التاريخ والجغرافية لشعب معين " كلّ هذه الملاحم كان موضوعها الأساسي التاريخ الجمعي والجغرافية كبطولات جمعية.. وهذا ما طغى على الشخصية الرومانية.. وموضوع البطولة فيها، كما أن تأثيرها أمتد إلى التاريخ المعاصر، إذ تمثّل في تمجيد " هتلر" للجنس الألماني، و" فرجيل الشعب الروماني ".
...
هو الذي رأي كلّ شيء فغني بذكره لبلادي
لقد تفردت ملحمة " جلجامس " بوصفها سؤال الإنسان عن الخلود، والبحث عن سر الإلوهية. بطريقة مذهلة حيث يترك الملك السومري " جلجامش" أورورك.. مدينته المقدسة.. يترك الحكم والدكتاتورية.. ليهيم في براري الأسئلة بحثا عن سر وجوده المستباح..
جلجامش "الدكتاتور الدموي" الذي إستباح العذارى.. ولكنه لم يربط قدره ب" أوروك".. تاريخا وجغرافية..
جلجامش، أراد أن يكتب سفرا روحيا وجوديا عن سر وجود الكائن، حين بلغ كل شيء..
وعندما نتابع قصته عبر الألواح الطينية التي نقلت لنا " الملحمة " سنرى أن الرجل إمتثل إلى ثلثه الإنساني متحديا حصة الآلهة فيه.. كان قلقا حقا ينتظر سؤال وجوده.. قبل هواجسه " الملوكية"
....

إنكيدو المعلم الأول

تتميز ملحمة جلجامش بأسئلتها الإنسانية وخيباتها الملوكية أيضا. والرغبة العارمة في القضاء على " الدكتاتور" الكامن في نفسها.
ملحمة تعيد الصواب الإنساني إلى رشده، ولكنها مفعمة بالقلق والأسئلة.
لذا خضع " جلجامش" إلى عملية قيصرية نادرة بتهذيب هواجسه عبر " أنكيدو"
جاء إنكيدو " الرغبة " يصارع جلجامش الحلم.
تأنسن الدكتاتور بدرس إنكيدو الإنسان.
....

درس أخير

في لحظة التاريخ العراقي المديد أفرز لنا جلجامش إرثا في صناعة الدكتاتورية الوطنية وصار القائد العراقي يذهب أولا إلى صورة " الملك" الذي رأى كل شيء فيريد أن نغني له كما كانت " أورورك" خادمة جلجامش، ينظرون الى نصف كأس الملحمة ويريدون أن يسكروا في رداء جلجامش الدكتاتور" ويغضون الطرف عن النصف المشرق في حياة جلجامش.. ذلك الدرس الإنساني العميق، الذي صار درسا وجوديا لبحث الإنسان عن الخلود.. لتحوّل الرجل إلى إنسان بكل ضعفه وإنهياره أمام حقيقة الموت وفقدان الخل الوفي ، تلك الصفات الإنسانية المكتسبة من خبرة بطل الملحمة من تحديات الحياة في درس إنكيدو..
الشخصية العراقية وما ورثته من فن صناعة " الدكتاتور " لم تتفاعل وراثيا مع هذا المنعطف الكبير في حياة " ملك أوروك".
لذا لابد من مراجعة الذات العراقية لتاريخ تشكّل وإفراز قياداتها من خلال الارتواء من نبع التراث العراقي العميق بأفقه الإنساني أولا .. وفي الراهن العراقي من مناخ الحرية والتعددية الفكرية ما يجعل هذه المراجعة واقعية جدا.