ادب وفن

حوارات "عذوف" في زمن ما / ستار موزان

ما أصعب أن يدخلَ الشاعر محاوراً الزمن عبر الشعر، قاصداً ترميم نفسِه وإعادة الزمن إلى المكان، محاولاً إسترجاع أغصان الطفولة لتتنفس من جديد ذلك ليمتد الشاعر في النمو القديم الذي انقطع فجأة نتيجة إِستحواذ قوة خفية على حركته، ولما ينبجس الزمن من المكان ويضيع في الوجود تاركاً المكان في حالة إحتضار.
يأتي الشاعر متأملاً الحدث ومَنْ صنعه ومن ثم يمضي ماسكاً شعلة الشعر على أساس أن الشعر له القدرة على ملامسة عناصر الوجود كله. هنا وبدقة يمكن للشاعر أن ينثر شعره فوق افتراضاته لتتحول إلى احتمالات وبعد ذلك تترتب بفعل ضوء الشعلة على هيئة خطوط متقاطعة لكن لا مرئية، الأمر الذي يجعل الشاعر تواقاً لرؤية بدء عملية ترميم قواه وبدء رسم مسار حديث لعودة الزمن إلى المكان من ضياعه ومعنى ذلك أن الشاعر يريد استعادة طفولته أولاً من خلال ذلك الحوار المرير مع الزمن في اللحظة التي يبدأ المكان فيها بالتنفس من جديد..
إذا يمكن للشاعر أن يقفز فوق المعادلات الفيزيائية ويطرق على سطح الواقع بقوة إيحائية مدهشة مما يجعله محوّلاً للمعادلات الطردية السالبة لتصبح معادلات عكسية موجبة وبذلك تنجرف تلك القوة الخفية و أدواتها المستحوِذة في امتداد الشاعر الممتد في ذلك النمو القديم المتحرك بالفطرة.
وفق هذه البنية الحالمة يمضي الشاعر "نجم عذوف" بواسطة مجموعته الشعرية المنثورة الحاملة عنوان: "حوارات في زمن ما" نحو ذلك الزمن الضائع ليقيم معه حوارات مريرة من خلال إحدى وعشرين قصيدة نثرت جميعها على هيئة بيان إستعاري يتمفصل بين الحين والآخر مع ماهية حوار الزمن المشتت بين زوايا الموجود ويبدو أن مفهوم الزمن عند الشاعر نجم عذوف يتناقض مع مفهومه الفيزيائي وذلك ما أعطته قصائده الزمنية من معنى فار تجاه المكان الذي بدأ يتحرك بعد سبات طويل إذ علت احدى قصائده بعنوان " ابتكارات " لتؤسس علاقة دينامية بين الزمن و الشعر النثري حيث يقول :-
"في منتصف الليل زمنِ.... يفصل بين القرن و بين القِرن, بين الألق والقلق,بين الشِعر و الشَعر, بين وبين … وأنا لا أعرف منتصف الليل , لأني لا املك ساعة" .
ومع ذلك فهو يحاول ان يجد فسحة مكانية خلال بداية الحوار مع الزمن العصي لاستدراجه عند ذلك المحوّل القناتي الذي يعمل على إحالة السالب الطردي الى الموجب العكسي وكأن تلك الفسحة كبُرت بفعل المفردات الزمكانية التي انهالت على مسار الزمن لاستقصائه بغتةً أي بمعنى ان الشاعر عذوف يريد هنا ان يلعب على حركة الزمن الحذرة عبر تلك المفردات المغرية وكأنه يقدم له غنيمةً على هيئةِ مكانٍ جديد لم يألفه الوجود في ذاكرة الزمن لكن الشاعر هنا يريد ان يمنح مبتغاهُ مكاناً معروفاً ومثيراً في ذاكرتهِ وذاكرة الزمن فلو تأملنا مقطعاً نثرياً من نفس قصيدة " ابتكارات " لوجدنا تلك المحاولة المعقدة , المحّولة .. اذ هو يقول " يهرولُ ليل الفناراتِ نحو الأ نسلاخ … بينما انا استرق صمت الريح , لأ شظي كلَّ الآرقام …….
وافك، رموز الأشياء , لأجمع تعب الكلمات فتتفرد بي روحي . روحي تمارس كلَّ العنف , فجأةً … تطردني مرساة فضائاتي , اتشظى رجلاً وامرأة , رجلاً .. مرآة , رجلاً مراً … رجلاً …. مات " .
كم هي صعبة تلك المهمة التي يقوم بها الشاعر في اخراج الزمن من ثقبٍ يغور في ابعاد الوجود لأجل مكانٍ يحتضر , انها مهمة صعبة حين يبحث الشاعر عن علاقة عكسية موجبة بين الزمان والمكان كون موضوعة التجاذب والتنافر ما بين العنصريين بُنيت تحت اسقاطات المكان على مسار المفردات الأكثر حساسية المنتجة مقود الشاعر الذي يتحكم عبره بما يعطيه الزمن خلال الحوار.
العطاء قدرة عظيمة لكن الزمن لا يمنحها ببساطه إلا إن الشاعر على ما يبدو هو وحده من يستطيع ذلك فقد حاول الشاعر نجم عذوف ان يخلق المناخ المضطرب عبر محاولته الجريئة في احدى قصائد مجموعته النثرية والتي حملت عنوان " استبيان يومي " اذ يقول في المقطع الاخير من القصيدة :- كتب البحرُ قصائدَ شيطانية …. فنامت كلُّ الكائنات البحرية في ملحي … الحدث الأصغر كنوز كبيرة
والقديسون زمن الغيبة اليومي … الفردانية إفلاس الظلامات … واللا شرعية الفة يومية … ترقد الكلمات عقيمة على سرير القصائد العذراء … متى يكون الزفاف ؟
لقد ضغط الشاعر محاولته المنثورة على شكل سؤال ومضمونه الصيروري جاءَ بمعنى الجواب الذي هو أيضا عبارة عن لعبة كلامية تحللت منتصف الحوار مع الزمن حيث قصد الشاعر تغييب الزمن ككتلة حركية غير محسوسة وإحضاره كمسار مسيَر متطابقاً مع رئة المكان التي اَضْحَتْ تنفساً صعباً كما اوحيتُ انفاً وقصد الشاعر هنا هو التنقلِ بين اللغة المتنوعة في المسارات المقامة على أساس الحوار المعني فهو يقول في قصيدة اختراق :- الوهم لغة كاذبة تتوارى خلف الألسنَةَ الصمت عقم الكلمات المغتصبة.. الموت يعبر فوق الأجساد إلى قاع الذات .
هذا التنوع ينتقل الى مساحة اخرى في الحوار نفسه فالشاعر يحاول رجرجة الكلمات البائسة ليسبكها في قالب شفاف لحظة مداعبة الزمن : " امسح من جفني الفاجر … بأس الأعوام " . في محاولة أخرى لإقناع الزمن بان المكان في انتظاره ليرسم أبعادا جديدة لكليهما , يئن الشاعر نجم عذوف في تنوعٍ لغوي جديد يقول فيه ضمن قصيدة اسى :- نهر ومدينة وبستان … الكل يجمعهم تابوت . لكن الشاعر ينتقل في نفس الوقت الى جملة جديدة ليذكر الزمن بما يتعلق بالحب الغائب عن المكان والمنتظِر مرورَ الزمن " الحب رجل قصير ينام على فراش ثمل ". بموازاة ذلك يخلط الشاعر عذوف أوراق اللعبة مع الزمن من جهة والمكان من جهة أخرى فيتوتر ويّوتر الزمكان عندما يقول في قصيدة " ارصفة الرغبة ":- الساعة زمنٌ غير طبيعي , ودقائق موتانا تشيعها الكلمات … الظلمة رغبة للموت … والجنون رغبة للتناسخ .. القصائد تناسخ لشاعر … والشاعر تناسخ لموت سري .. الرغبة نزعة مجهولة يا ويلي … متى تهرب تعاستي". بمعنى من المعاني ان ضرورة هروب تعاسة الشاعر من ذاته هو دعوة صريحة لدفع الزمن تجاه المكان الذي بداْ تواً الصعود من قاع الهاوية وهذا يعني اقتراب المعنى المضغوط , المسبوك , المنحوت شعرياً , المزمن , المكنن من سطح اللامعنى المنفلت مما سيعزز العلاقة الجديدة بين الزمن والمكان المفضية الى عودة الشاعر من منفاه الى تلك البلاد التي تنافر فيها الزمن والمكان طوال اربعة عقود مضت لكن يبقى السؤال …. كيف يمكن للمكان برمته ان يتحول الى قصيدة وكيف يمكن للزمن انْ يتحول الى شاعر فيما الشاعر يتحول الى عنصر اثارة ما بين الجديدين . لولا ذلك المحّول الشعري لما تحّول الانتظار الى مجيْ :- " أدق عنق الأنتظارات … وابني أحلامي الهرمة من جديد … بعيداً عن خرافة راسي … انادي مدناً اخرى … اوروك … السماوة … جزر الكناري .. سوق الشيوخ … وقلبي المشيد يشيعه .. اخر حرف مسماري