قبور مبدعينا في كل مكان بعيدا عن الوطن / فوزي الاتروشي

الإبداع العراقي يتوزع في المنافي والشتات, يستثمر فضاءات الحرية لعطاء غزير تزدحم به الأماكن, ويحصد الجوائز لان حضوره مكثف وقادر على الإبهار. ويمكن لهذه الأماكن أن تكون ملاذات للعطاء والانجاز والتميز والانتشار، ولكن لا يجوز أن تكون مواقع لدفن هؤلاء المبدعين, فالقبور والمثوى الأخير والأضرحة لابد أن تكون في حضن الوطن. والحال أن قبور مبدعينا موزعة في كافة أنحاء العالم فـ «الجواهري وعبدالوهاب البياتي» في دمشق, و»نازك الملائكة» في القاهرة و»بلند الحيدري» في لندن, و»سركون بولص» في برلين, و»عبدالستار ناصر» في كندا، وآخرون نزفوا وأحرقوا العمر من أجل الوطن لكنهم في لحظة الرحيل مضوا وحيدين الى قبورهم دون ان نكون معهم ودون ان نلتفت لغاية الآن لجلبهم الى مسقط رأسهم والى تربتهم والى حواضن أحلامهم ومشاعرهم وحبهم وشوقهم, والى ضفاف دجلة والفرات اللذين كانا مصدر الهام لقصائدهم وخواطرهم وقصصهم ورواياتهم وأحاديثهم. إنها مفارقة مرة ان تحترق من اجل وطن وحين تتحول الى رفات تدفن بعيداً وبعيداً جداً عمن أحببت و احترقت من اجله. هذا هو مصير الجواهري صاحب البيت الشعري الشهير :-
حييت سفحك عن بعد فحييني
يا دجلة الخير يا أم البساتينِ
لقد بقي فعلاً بعيداً عن سفح دجلة وعن بساتين بغداد رغم انه اقرب ما يكون الى نبض قلوب العراقيين. وكذلك «عبدالوهاب البياتي» صاحب «قصائد على بوابات العالم السبع» و»بستان عائشة», و»أباريق مهشٌمة», و»سيرة ذاتية لسارق النار» هذه النار التي ظل حاملاً مشعلها حتى غادر دون أن نستطيع ان نقول له عن قرب وداعاً ودون أن نمنحه لغاية الآن بقعة ارض ينام فيها نومه الأبدي تحت ظلال النخيل. أما «بلند الحيدري» الأنيق والجميل كما جملته الشعرية القصيرة المكثفة الرشيقة فكان حلمه كلما التقيته في لندن أن يعود إلى كركوك والى كردستان, لكنه رحل ذات يوم بصمت ليدفن في عـــاصمة الضباب.
و»نازك الملائكة» التي أسست للشعر العربي الحديث منذ أربعينيات القرن الماضي والتي كتبت أروع رومانسياتها في «عاشقة الليل» وغيرها من الدواوين التي فتحت عيوننا على جمل شعرية جديدة غزيرة المعنى ورشيقة المبنى وكتبت بتميز عن قضايا الشعر المعاصر، فقد عاشت وحيدة منعزلة في القاهرة حتى آن يوم رحيلها بعيداً عنا.
وكان آخر المدفونين في الجانب الآخر من الكرة الأرضية القاص والروائي «عبد الستار ناصر» المبدع والمناضل حيث احتضنته مقبرة في كندا.
إننا, والغصة في قلوبنا والدمعة في عيوننا, نقول إن لا مبرر لبقاء الأضرحة هناك والذكرى هنا, ولا مجال لإيراد أية ذرائع فالمبدعون لابد أن يكونوا بيننا لان قبورهم في الواقع بساتين عطاء ومرابع تشبعنا أملاً وحباً اذ نزورها .
ان هؤلاء كلهم يستحقون ان يكون لهم متحف يوثق ويجمع ويؤشر لملامح حياتهم الحافلة بالإبداع والقادرة على التأثير في الأجيال الجديدة, فكما أن آثارنا النفيسة مسروقة ومن حقنا استعادتها, فأن قبور مبدعينا هي الأخرى تستحق ان نعيدها لتكون مزارع ثمار يانعة على تضاريس الوطن .