محمد خضير.. كاهن اليوتوبيات، صانع الأسئلة / وديع شامخ

حين دخل حانة السرد العربي، وجدها مزدحمة بالمريدين، ثملين بما شربوا من نقيع الحكاية، يقفون على زمن أملس ومكان خرب، لذا كان عليه أن يُشَرّح جثة القول ليقيم مملكة الحوار، مملكة يسطع عليها السواد كقيمة عمق لا بليّة حزن.
جاء من أقصى مدن الحضارة وتاريخ بذخها ليشير إلى إرثه المكنون في شوارع المدن، واسلفتها وخلفياتها المظلمة، بناسها وتجاعيد هذيانهم المر.
محمد خضير " بصيرياثي حَقًّا لا غش فيه "
حقّ عليه أن يكون "مختار المدينة" و" كاهن اليوتوبيات" ومعلّم النزوح إلى الحافات القصوى للحكاية. حمل جمرة الموقد وداء "القص" و"بلهارزيا العوم" في أعماق مسالك الضوء، فصاغ قلائد من شموع لم يقتف أثرها أحد. أحسن في دفن أثرها، لأنه نزع قناعه بعد كلّ نفق، فصار متوالية لا تحكمها الهندسة بمفهومها الأقليدي، ولا الجبر بدوائره المظلمة وحتمياته.
يصوغ فرضياته من ماء المواقد وغسق الشك. له مريدون لا يحسنون الإغفاءة في قيلولة رؤياه، وله حاسدون يبددون كنزه في دم القبائل. لاشك أنه فضّ عذرية السواد، وبنى هيكلاً كبرج بابل "لبلبلة التلقي" ولخروج الخبز كأقراصٍ ملونةٍ في كرنفال الخلق، لأنه ليس بالخبز وحده تستدير الرؤى.
جاء ليختلف. ممسكًا بالحلم إلى أقصاه، مصابًا بداء "الحب والقلق والتواضع والإبداع " كما أسلافه العظام. إخترق حصن السرد الأول مخالفًا "الجاحظ" في حكاية المعلم والحكمة بين الصبيان والنسوان، فأنتج حلمًا في درجة 45 مئوي ليشارك الشمس شيها للكائنات التي لا تكف عن الحلم والهذيان معًا.
محمد خضير من طراز الحكائين "الروافين" الذين يمتازون بمهارة الصانع.
أسمر طوحت محياه شموس الجنوب كلّها. عالي الشأن، معلم فاضل من أقصى الجنوب جاء يسعى بحلم وأكثر. يشبه الفلاح في حيازته للثمر، ولا يربطه مع المستقيمات أي أثر. كان بيته في محلة الجمهورية مطبخًا للممّالك والرؤى. يبدو أن القدر السردي سخّره لأن يكون فاضحًا لأصحاب القول ومؤسسي مدارسه المائعة في السرد والفكر والحلم معًا.
مُجرب كبير عزف على أوتارالحداثة وما بعدها، لينتج أجمل المعزوفات السردية، ليس من باب التطفل والتشاكل مع الدهر، بل مع الخبرة والدراية بنفائس العصر ودرر القول. فهو قارئ حاذق، له مع الأثر حوار منتج وهوامش مضيئة، يؤمن بالمقابسات عنوانًا إشراقيًّا لتلاقح العقول، ويرى العالم كحبة رمل على طريقة وليم بليك. له مختبره الخاص. لا يطلق كائناته السردية إلا بعد أن يمرّ عليها مشرط الوعي والفكر والحكمة لُيشذب الموهبة من جموحها، وليصل بمنجزه النهائي إلى مرحلة الكمال الناقص، وهو يدرك أن ثمة قراء سيدونون هوامشهم لاكتمال القصد الجمالي.
حين صادفته في البصرة - شارع الوطن-، أبان الثمانينيات، وجدته علامةً فارقةً لمدينةٍ آيلةٍ للزوال، وجدته حكيمًا جدًّا أمام عهرالأيام وصبواتها، وحين نزاول عادتنا السرية والعلنية معًا سيكون "محمد خضير" واحدًا من طقوس المدينة. لقد تمثل شمسها الحارقة في 45 درجة مئوي، وتحسس برج لغتها وطبقات حياتها في المملكة السوداء، وصنع لها كمالاً سرديًّا في "بصرياثتها".
قصّاص أثر، له حاسة شم لا تبطلها غير المكيدة. أجاد لعبة السرد وأكرم وفادة الشعرعلى أصابعه وهو يحوك قرائن القول، كان حكّاءً، خجولاً عندما تلامس الشمس حريق الفضائح وحين تنتفض الرؤيا سيصبح "شمشون" بلا أسرار.
له مع الإشارات "الجوائز" حظ وفير، فهو يسعى لنصه بالخميرة والنار ليشير الى سفن التلقي بالتوقف عميقًا عند طازج بضاعته. مقايض عصيّ على الإنصياع لقوانين التبادل، حيث يضع روحه ثمنًا لنصه ليخرجَ دائمًا محفوفًا بغبطة ودهشة وتأمل وجائزة من المتنزهين في نصوصه وعليها وبها
محمد خضير اتخذ زمن السرد درعًا لمواجهة "مرض الفوبيا"، صَهرَ القوة َ لتصبح ضوءًا مشاعًا، عَصَر المواقد لتنضح لهب شمعة، استعاد الأطياف غسقًا، والحماقة نولاً. لم يتقاعد في باب الحكاية، ولم ينصب له مائدة لكتابة عرائض الحالمين. نسف مواقد الصيارفة وعشاري الحلم، ونُساخ الزيف. وهو حكاية معلم وسبورة، حلم ومؤسس، يُشهر مجساته للكثير من "لقط الحكاية". ويظل وفيًّا للعصافير وهي تسقط فتات رعونتها للشمس حين تفخرالمسلات للملوك وهم بلا تيجان. سيبقى المعلم محمد خضير، ممسكًا بنوله، منتظرًا صوف خراف القرابين لينسج حكاية الخلاص بلا دم.