الرؤيا الإبداعية في الصورة الشعرية لشعر المنفى العراقي / مهدي الحسناوي

عندما نتحدث عن الرؤيا الإبداعية في الصورة الشعرية فنعني الوعي بالذات لدى الشاعر بتصوير الوقائع والأشياء بلغة جميلة تداعب مخيلة المتلقي، وتتميز الصورة الشعرية بأنها الإحساس أو الإدراك الحسي حسب مفهوم علم النفس الأدبي، وهذا الإدراك الحسي ما هو إلا فهم أو تعقل بواسطة الصور، أي يترتب عليه إدراك المرئيات والمسموعات، كما انه يترتب عليه جودة الإنتاج أو رداءته، بمعنى انه إذا كان قويا واضحاً استطاع الشاعر إن يصف ما يحس وصفاً دقيق المطابقة للواقع وبلغة جميلة ملؤها الشاعرية فانه شعر إبداعي، وتزخر الصور الشعرية لشعر?المنفى العراقي بالمفردات التي ترمز إلى الرحيل والنفي كـ "المرافئ، والرحيل، والبحار، والمدائن، والسفائن" كما يقول الشاعر عبد الوهاب البياتي في قصيدته الرحلة :-لو صرخت "لارا" في الشفق القطبي
وفي غابات البحر الأسود
لانتهت المرحلة
لتحطم قلب الشاعر فوق رصيف الغربة
لكن القاتل حبه
مازال يواصل دربه
في حمى دوران الأفلاك السبعة
وحريق الأسئلة الصعبة
وعلى الرغم من إن صور الشعر وظيفتها التمثيل الحسي للتجربة الشعرية الكلية، ولما تشتمل عليه من مختلف الإحساسات والعواطف والأفكار الجزئية، فان تألق الصور الشعرية ورؤيتها الإبداعية تمثل مرحلة النضوج الشعري لدى كتاب قصيدة شعر المنفى العراقي، فهذا سعدي يوسف يرثي شعراء المنفى الذين رحلوا عنه مبكرين.
يرحل الشعراء
واحد بعد آخر في آخر الليلِِ
لم يحملوا معهم غير زاد الفقير
وتذكرة لم تؤرخ...
أقول لهم :لا تحثو الخطى
انتظروا ساعةً حَسبُ يا إخواني
نحن في آخر الليل
لكنهم يرحلون...
ونجد أيضا في هذا المقطع الشعري وصوره الشعرية تكثيفا شعريا لبنية القصيدة كلها ومحور تركيزها حيث رحيل الشعراء في المنفى ودفنهم هناك بلند الحيدري عبد الوهاب والبياتي وسركون بولص ، وأحيانا تكون الصورة مرآة الشاعر كما في قصيدة مظفر النواب "مرثية لأنهار من الحبر الجميل":
يسافر في ليلة الحزن
صمتي
غيوماً
واشتريت دروب المتاعب
الوي أعنتها فوق رسغي
ليال أطول من ظلمات الخليقة
"خالٍ سوى من فتاتٍ من الصبر"
في ركن زاويتي
والدجى ممطرٌ
أأنت الوديع كساقية ٍ
من خبايا الربيع؟
يحاول البعض من شعراء المنفى الاستعانة بالذاكرة وإطلاق العنان لإحداثها المتشابكة فتمارس هذه الإحداث حضورها في اللحظة الشعرية أي لحظة ولادة النص هاربة من زمانها ومكانها المبعثرين هناك/ أمس في ذخيرة الوجدان الشخصي له وعن طريق تقطير هذه الوقائع ومزجها بما تراه العين النشطة من مشاهد يومية مملة ومكررة ألاف المرات ينطق النص بما تضمره تلك الحوادث المخزونة ليقيم حوارنا معها، حوار الرؤيا الصافية غير المشوبة بغبار الوقائع حيث إن لحظة المعاناة الحقيقية تبدأ من الكتابة فتتم المعاينة المتألمة والمتأملة فتنتج صورة شعرية?يشوبها الخيال الإبداعي يقول عدنان الصائغ في مجموعته تأبط منفى:
أطرق باباً
أفتحهُ
لا أبصر إلا نفسي باباً
أفتحهُ
أدخلُ
لا شيء سوى بابٍ آخر
يا ربي
كم باباً يفصلني عني
إن الصورة الشعرية الإبداعية تفرض نفسها على ذهنية وإحساس المتلقي بمفرداتها واستخدام الرموز والمضادات فيها بلغةٍ تداعب الذائقة الشعرية التي تسعى إلى قراءة ما بين السطور، فتكون هذه الصورة المخيلة التي تنقله إلى أمكنته وطفولته ، فهذا الشاعر كريم الاسدي المقيم في ألمانيا يقول في قصيدة موت في الريح ..
حينما تجداني
راحلاً في دمي
رائقاً كشتاء الجنوب
سابحاً في أثير الجراح
واجماً كجنوب الرياح
حينما تعرفان دمي
نابعاً من أقاصي السماء
مارقاً في البروق
ساهماً كالنيازك خاسرةٌ
فارفعاني كهودج ماء
وإذا هبت الريح
نحو الجنوب
ونحو الشروق
إذن وحداني
في الكتابة الشعرية وبشكل عام اشترك كل من اللاوعي والوعي في ولادة النتاج الشعري، فاللاوعي هو رحم القصيدة الأول والمولد للصورة أو الفكرة الشعرية عبر إلية تلقائية مبهمة أو كمنعكس لمدرك حسي، هناك في الطبقات الغامضة والمجهولة يبدأ تململ وتشكل هلام الصورة الشعرية، فشعر المنفى لا يختلف عن أي شعر عربي أخر إلا انه له خصائص تميزه عن غيره وهذه الخصائص هي موضوع بحثنا ودراستنا فهذه ابنة الجنوب الشاعرة المندائية لميعه عباس عمارة التي يراودها التعميد بدجلة والفرات فتستخدم هذه الصورة كأسلوب للغور في تفاصيل جرحها فتقول في?قصيدة "بديهيا يهانا)" يعني بن زكريا .
جميل أنت
دماؤك من عسل النحل
نقي من ماء الأردن
أحبت تعمدنا بالماء
هل يقوى شجً
عفوك..هل نحن الأحياء
أكبر من ماء الأردن خطايانا
صوتك يحيني
عمدني .. بعماد إبراهيم الأقدم
وتتميز بعض الصور الشعرية لقصائد المنفى بأنها تكون مشاهد للواقع العراقي المعاش ، وانفراد بعض شعراء المنفى بأنهم شكلوا ظواهر مميزة في الشعر العربي كالشاعر احمد مطر الذي يقول في قصيدة ( لا فتات)
لستُ إلا طائراً في قفص
لا ارض من تحتي
ولا فوقي سماء
إنا محكوم بقانون التدلي في الهواء
ليس لي أي عزاء
غير إني اجعل صوتي
معبراً لي فوق موتي
امنح السجان ما شاء
أنا أعصيه هراء
وهو يعطيني غذاء
وإنا اهجوه- في تقليده – أقسى الهجاء
إذ أنا افقه ما قال
ولا يفقه من قولي أنا.. حرف هجاء
إن ميزة الصورة الشعرية تكمن في رؤاها ودلالاتها الإبداعية، فهي تكون قراءة لذات الشاعر وواقعه المعاش، ومن هذا يتضح إن ثمة ثنائية توجد بالضرورة في أساس الإبداع الشعري نفسه، وفي أي تحليل يتصدى له، فللشاعر طبيعتان إنسانية وفنية، والشعرية عملية تختلط فيها الحياة باللغة ويتزاوج المعنى بالمبنى، فهذا شاعر المعاناة والمرض العضال إبراهيم احمد النجفي الذي أودى به المرض في منفاه يحدثنا في قصيدته "الخطوة الأولى" فيرثي نفسه وقافلة الفقراء والمعذبين :-
دمعة عند ابتداء الخطوة الأولى
وأخرى بين اشفار المسافات
وأنات الرياح
ارتدي في وجهكم كل عذابي
وجعاً ينبت في المنفى .. نذورات شبابي
أيها الغافون في جرحي ..
وأوجاع حنيني وانتحابي
هانوا لي شجوكم المرمي
على أنغام أنات السواقي وانتصابي
يغتدي لحني
وما ينزف مني في اغترابي
وثمة ملاحظة على قصائد الشعر العراقي في المنفى أنها تحمل وجع المنفى ومعاناته ،فالصورة الشعرية لهذه القصيدة تكون أحيانا مليئة بمفردات الاغتراب والحنين اليومي للتربة الأولى ، فهذا الشاعر جمعه اللامي يقول في قصيدة ( رعد صامت):-
عندما فتحت عيني
لم يكن ثمة في المدى
سوى رعود صامتة وسحب عمياء
وعندما أغمضت عيني
جلست إلى النور
ابكي
لينحب من اجلي النور
هكذا هي الصورة الشعرية الإبداعية لشعر المنفى، فمفردات "النفي، الجرح، الدمعة" تراود المتلقي القارئ لأغلب هذا النتاج الشعري ، فهذا الشاعر سلام صادق الذي لم ينم وينعم في منفاه بأحلام سعيدة لأنه سئم الترحال التشرد فيقول في قصيدة ( الواقعة الأقل رعبا) :
إنا السهران
نامت ليلتي
ولم أنم للآن
أنا السكران
جفت خمرتي
وما ارتوى الندمان
بسوى دموعي ونزيف الأمس
لعل المتتبع لنتاج المنفى الشعري العراقي يرى الوطن حاضرا في اغلب الصور الشعرية لهذا الشعر المليء بالبكائية الحادة فهذا فضل السلطاني يقول في قصيدة "زيارة إلى مسجد عقبه بن نافع"، يقول:
أتذكرُ
لا اذكرُ إلا شيئاً
فمن خط هذه النقوش
على الباب من قرأ الفاتحة
على القبر دوني
وغلقهُ، ثم نام عليه؟
ولكنني، لا اذكر ألان
كنت أدور على القصبات أجمع أجنحة ثم أطلقها
فاسمع منها الخبب
براقص بين القلوب
سلاماً على المصطفى
وكنتُ أراك
تراكض بين الدروب
لكيما تراني
وكان العراق بعيداً
وهذا الناقد والشاعر سعيد الغانمي يحن إلى القبر أو إلى الموت، وليس الموت في المنفى، وإنما الموت في الوطن فيقول في قصيدة ( قبري هنا... أو هناك )
احن إلى نصف متر بمترين
لكني لست اعرف أين سأدفن حين أموت
لعائلتي إن تسجى بأرض النجف
ولكن بيني وبين النجف
بلاد أو بحر وخمس حروب
أتخيل قبري هناك
وأرجو إذا مت دفني هنا
ففي الحالتين ..هنا أو هناك ..
سيأتي غريب غريب
وينظر ذات اليمين وذات الشمال
وإذ يتأكد إن ليس من احد غيره في هذه القبور
كم جميلة ورائعة صور هذا المقطع الشعري من هذه القصيدة المليئة بالحزن العراقي، وبالرغم من هذا الحزن إلا انه ثمة أمل بالمستقبل وعودة الفراشات إلى المزارع والحقول كما يرى الشاعر هاتف الجنابي:
اكتفي بكلامٍ مرير
سنبلةٍ واجفة
أكتفي بغصونٍ كسيرة
أقول سيرحل هذا القضاء الخشب
اكتفي مرة بالحساء، وأخرى بماء العنب
اكتفي مرة بالرجاء لعل صدى العاصفة
يتأرجح بيني وبين السكون
اكتفي بصرير الظلام
أقول قريباً سيأتي
ويغسل وجهي نثيث الندى
إن الرثاء لشعراء المنفى العراقي ميزة أخرى لقراءة الذات الشعرية، وثمة ظواهر برزت في الأجيال الشعرية وهي بروز ظاهرة التمرد على المألوف والسائد الحياتي فحسين مردان وقصائده العارية وجان دمو وأسمال المنفى، ما هي إلا ظواهر شعرية انتقلت بهذه الميزة إلى المنفى فجان دمو الذي عرفته طرقات عمان وحاناتها وساحاتها، انتقل من هذا المنفى إلى منفى أخر جنوب شرق العالم ، فهناك رحلة الموت الأبدي وكتب مرثيته الأخيرة وهي مهداة إلى الشاعر رشدي العامل:- حتى في الأنهار التي لا قيلولة لها
ستبقى موسيقى صمتك أكثر صخباً وغرابة من جدل الرعب الذي
يلفنا
وما جدوى أن يعود المقامرون
إلى رؤاهم القديمة
والمجنحون إلى طرافاتهم
أو الشعراء إلى خرافاتهم الخصبة
بين الخطوة والخطوة خطواتك بيننا
ثمة رؤى إبداعية ميزت الصورة الشعرية لقصائد شعراء المنفى العراقي ، وهذه الميزة هي حالة الحرية التي تمتع بها شعراء المنفى ، بالإضافة إلى انفتاحهم على الثقافات الأخرى ، والبعض منهم اخذ يكتب الشعر بلغات أجنبية أخرى ،بعد إن أتقنوا هذه اللغات للبلدان التي يقيمون فيها ،واتخذوها مأوى لهم . إن الصورة الشعرية ما هي إلا مشاهد انفعالات وتأثر بما هو حسي وجمالي يشوبه تدفق الصورة أو المقطع الشعري بصورةٍ انفعالية لا إرادية فيكون الشعر على لسان الشاعر بمثابة تدفق لغوي مليء بالصور الشعرية وهذه سمة الشعر الإبداعي، وشعراء النفى العراقي في اغلب قصائدهم.