ما يزال الدكتور المهندس حمدي التكمجي يواصل مشروعه المهم في توثيق اعلام الحركة الفنية والأدبية والفكرية والوطنية في العراق، وهو يعتمد في توثيقه لهؤلاء دقة المعلومة والصورة الدالة، في مجلدات يتوخى فيها جودة الطباعة وقوة التصميم، وربما ألحق هذه المجلدات بفصول باللغة الانجليزية تعطي مؤلفاته بعداً عالمياً؛ مثلما فعل في كتابه «قتيبة الشيخ نوري: الطبيب، والفنان المبدع»، الذي أشهره في قاعة الأورفلي مساء الأربعاء.
حفل الإشهار الذي جرى بحضور الملحق الثقافي العراقي الدكتور عبدالرزاق العيسى، لقي حضورا كبيرا من المثقفين والأكاديميين والشخصيات العراقية ومجايلي الشيخ نوري وأصدقاء زوجته الطبيبة سميرة بابان التي أدارت حفل الإشهار وشاركت بكلمات مؤثرة، الى جانب التشكيلي ابراهيم العبدلي والمسرحي يوسف العاني، وشهادات عفوية للأصدقاء، بحضور مصممة الكتاب التشكيلية كفاح فاضل آل شبيب.
استهل التكمجي حفل التوقيع، الذي تخلله معرض لرسومات الشيخ قتيبة، بإيجاز قدمه عن نهضة العراق الجديدة نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات من القرن الماضي، استمرارا للنهضة التي أعقبت ثورة العشرين هناك، متناولا مجالات أبدع فيها أولئك الرواد، ذاكرا في الشعر، قديمه وحديثه، الجواهري والسياب ونازك الملائكة والبياتي والحيدري ومظفر النواب وغيرهم، وفي الأدب والتاريخ والسياسة والاجتماع الدكتور جواد علي والدكتور مصطفى جواد والدكتور علي الوردي وطه باقر وعبدالجبار عبدالله وسلام عادل وكامل الجادرجي، وفي الموسيقى العربية منير بشير وسلمان شكر ونصير شما، وفي التشكيل جواد سليم وفائق حسن ومحمود صبري وقتيبة الشيخ نوري واسماعيل الشيخلي وشاكر حسن ال سعيد، وآخرين.
قال التكمجي إن قتيبة الشيخ نوري هو أحد هؤلاء الرواد الذي أناروا طريق الحرية والتقدم للأجيال اللاحقة بثقافتهم التقدمية الوطنية والعربية، وبأعمالهم ونشاطاتهم التي عبرت عن أوضاع الشعب وهمومه بمختلف اختصاصاتهم الأدبية الفنية والمسرحية والثقافية والسياسية.
كما أحال التكمجي حضوره الى الكتاب ليطلعوا على أعمال الشيخ نوري الفنية ونشاطاته الإبداعية؛ منذ ان كان طالبا في الطب تعددت لديه المواهب وتطور أسلوبه من الانطباعي الى السريالي الى الدائرة والبعد الواحد والجدار، وفي كل ذلك كان يميز أعماله أنها كانت ذات طابع فكري وإنساني معبر، وتناول التكمجي محاضرات قتيبة وكتاباته في العراق وخارجه في الفن الملتزم، والفن الفوتوغرافي، وفن الملصق الجداري والسياسي والنحت، والفن الحديث.
وتحدث التكمجي عن اهتمام الشيخ نوري بالفن العراقي والعربي ومقدرته في التأثير الانساني، مبيناً شهرته لدى الفنانين والمثقفين العراقيين والعرب. واتخذ التكمجي من الشيخ نوري انموذجا للفنان والمثقف العراقي في فترات سياسية عصيبة لم يزدهم الحبس والتشريد والظلم فيها إلا عزيمة وإقداما على الإبداع والتغيير.
وعرّف التكمجي بالقيمة الكبيرة في تعريف الأجيال اللاحقة بالرواد وتقديمهم أمثلة حية ثقافية إنسانية، نحو ثقافة ديمقراطية تقدمية إنسانية بعيدة عن التطرف الديني والمذهبي والتعصب القومي والتعسف السياسي، وفي ما تبقى من كلمته ذكر التكمجي قصصاً من تأثير الشيخ نوري العجيب؛ مستعيدا تحويله السجن الى مركز ثقافي فني أدبي مسرحي فلسفي، كما روى أصدقاؤه هناك، في جو من سماحة النفس واتساع الحلم والجد والمثابرة والفضاء الثقافي وانسانية السلوك.
سميرة بابان استعادت الأيام العذبة والخوالي من الإبداعات مع قتيبة الشيخ نوري الذي عرفته في الكلية الطبية منتصف أربعينيات القرن الماضي، في وقت كانت فيه شديدة الحماسة للعمل الجامعي بما يحمله من حرية الفكر، فتعرفت إلى قتيبة رئيس اتحاد الطلبة في الكلية، ومؤسس الكثير من اللجان في الرسم والموسيقى والمسرح، علاوة على اللجنة الاجتماعية، لتسرد بابان ولعها بالمسرح والتمثيل وسط تشجيع قتيبة وأخيها رافد بابان وحقي الشبلي، لتؤدي دورا في مسرحية «رصاصة في القلب» لتوفيق الحكيم، فتستمر في التحضيرات لأعمال تالية، فتتكلل الفرحة بموافقة والدها ورضاه عن تمثيلها في الاحتفال السنوي للكلية. ذكرت بابان ان قتيبة الشيخ نوري كان فاعلا في المسرح في ديكوره وإنارته وموسيقاه وتجسيده البارع في «رقصة الموت» للموسيقار العالمي كاميل سانت سان. وتحدثت عن معرفة قتيبة بيوسف العاني طالب الحقوق آنذاك، ودعمه له، خصوصا والعاني كان مخلصا للمسرح وأسس فرقة المسرح الفني الحديث في العراق.
ذكرت بابان ان قتيبة كان عضوا فاعلا في اتحاد طلبة الكلية والاحتفال به أواخر أربعينيات القرن الماضي، مبينة ان تلك الأعوام كانت حافلة بالروح الوطنية، ضد معاهدة «بورتسموث»، وقالت ان قتيبة وزملاءه قدموا اروع الأمثلة على الحس الوطني والاشتغال الفكري والثقافي واحتفالات الكلية، والترويج للنشاطات الفنية والأدبية، وتحدثت عن جهوده في دعم المسرح والموسيقى، ذاكرة أساتذة معهد الفنون الجميلة من مثل ساندو البو وجوليان هرتس والفرقة السمفونية للمعهد، مثلما أقام المعرض الأول للرسم منتصف الأربعينات لينظم تقليداً سنويا في ما بعد، وتحدثت بابان عن معرفة قتيبة بالفنان فايق حسن من جماعة الرواد، لتذكر إعلاما في هذا المجال، هم عيسى حنا وخالد القصاب ويوسف عبدالقادر واسماعيل الشيخلي ومحمود صبري واسماعيل ناصر وفاروق عبدالعزيز.
تحدثت بابان عن ذكرياتها في نقاشاتها مع الفنانين وقتيبة الشيخ نوري حول الفن ورسالته وألوانه، ذاكرة الفنان جواد سليم وتأثيره في قتيبة بأن الفكر اساس الفنان، لتتناول معارض ذات رونق خاص، منها «الجدار» الذي انطلق به في المدرسة الانطباعية نحو مدارس متنوعة، في حين كان الجدار يمثل مقاومة الإنسان المكبوت، كان معرض قتيبة الأخير «القناع» لم ير النور بسبب وفاته بانقلاب سيارة قرب الناصرية في طريقه الى الكويت، وشرحت بابان معنى القناع وقسوة الحياة في ظل ذلك. وتناولت نشاطاته وجهوده السياسية ومحبة الناس له واعترافهم بنبوغه وابداعه، لتذكر انها اقترنت به بداية خمسينيات القرن الماضي، وكانا طبيبين درسا معا وكونا عائلة واحبا الحياة والسفر معا، فضلا عن ولعهما وابنائهما بالفن والتصوير في شمال العراق وجنوبه وفي كل مكان.
بدوره تحدث التشكيلي ابراهيم العبدلي، الذي رسم صورة قتيبة الشيخ نوري غلافاً للكتاب، عن جهود قتيبة في مساندة جمعية التشكيليين العراقيين في سبعينيات القرن الماضي، ذاكرا استقطابه شريحة اجتماعية مهمة من غير الفنانين التشكيليين من أطباء ومهندسين ومثقفين وأدباء الى جمعية التشكيليين، بالإضافة الى المحاضرات الثقافية الأسبوعية عن «البوستر» ومواضيع فنية متنوعة باستضافة خبراء وفنانين أجانب.
وذكر العبدلي ان قتيبة كان يستضيف الفنانين العرب في مجال السينما والمسرح، ومنهم محسنة توفيق، ويوسف شاهين. وقال العبدلي انه كان يدعم القضية الفلسطينية، من مثل اقامته اسبوعا للتضامن مع الشعب الفلسطيني، يشتمل على اكثر من فقرة فنية وادبية وثقافية.
وتحدث العبدلي عن إقامة الشيخ نوري معرض الفن العراقي المعاصر سنويا، بدمج الفنانين الجدد مع الرواد لمزيد من الاستفادة والتدارس والخلق والابتكار والحفاظ على الروح. وذكر العبدلي مجموعة الحفلات الترفيهية التي كان يقيمها قتيبة للأعضاء التشكيليين وضيوفهم، ودعمه الإنساني بالعلاج المجاني في عيادته في ساحة النصر، وتطرق العبدلي الى ان رجل الدين طه النقشبندي هو عم قتيبة الشيخ نوري، مناقشا التأثير الحاصل بين الطرفين.
المسرحي يوسف العاني تحدث عن شذرات من حياة قتيبة الشيخ نوري لها عمق الفن، متناولا أكثر من موضوع بأسلوب ادبي مؤثر ذي ابعاد وشجون، مستهلا برؤية الشيخ نوري الى الحياة حلما ضاحكاً، يطير فوق الأرض بمشيته، يردد نغماً جميلا بإيقاع نشيط يتردد صداه، في حين كان العاني والآخر ينظرون إليه باندهاش.
تحدث العاني عن صداقته بقتيبة في الكلية الطبية، في حفلات النشاط الاجتماعي والفني في الاربعينيات والخمسينيات، وعن أفكاره النيرة اللامعة التي تفرض نفسها، وفضوله الثقافي في السؤال عما يثير في الجلسات الفكرية والثقافية والأدبية، مع حرصه على الاستماع للجميع وعدم الاستعلاء على الأصحاب والناس. وأعرب العاني عن فجيعته برحيل قتيبة الذي كان واحداً يساوي خمسة؛ إذ كان طبيبا ورساما ومثقفا وصديقا وجامعا للأصدقاء. وتناول إنسانية قتيبة الشيخ نوري وكون بيته منارة للاصدقاء والمثقفين والزوار، لحسن حفاوته بهم وتكوين الصداقات الثقافية والفكرية معهم. وذكر ان قتيبة كان طبيبا يتبع نداء قلبه الانساني، في شواهد تدل على نقائه وصفاء سريرته. وختم العاني كلمته بمشهد مسرحي حواري عمل فيه يوم 12 نيسان اواخر سبعينيات القرن الماضي هاتفا ان صديقه قتيبة مات.
من الحضور شاركت الفنانة تمام الأكحل زوجة الفنان الراحل اسماعيل شموط بتأكيدها ان قتيبة الشيخ نوري كان من اوائل من فكروا في تأسيس اتحاد الفنانين التشكيليين العرب وتوحيدهم، وكان يقوم على مجلة خاصة بالتشكيليين العرب، كما كانت له عين الفنان، فهو فنان للعراق والعرب. كما تحدثت الفنانة الموسيقية أجينس بشير عن ابداع قتيبة الشيخ نوري واحترامه للموسيقى وعنايته بها في الأمسيات والحفلات الطلابية وتشجيعه على ألوان الموسيقى بين القديم والحديث.