قيثارة أور غريبة في وطنها ! / كمال يلدو



ثلاثة يستحقون الشكر والثناء لمعرفتنا واطلاعنا على واحدة من جماليات كنوز الحضارة السومرية، وأعني بها "قيثارة أور"، الأول هو عالم الآثار "السر ووللي" الذي أدت حفرياته إلى هذا الاكتشاف الرائع، والشكر الثاني للملكة السومرية "بو آبي شبعاد" التي قامت بدفن القيثارة معها كجزء من مراسم الدفن الملوكية آنذاك، أما الشكر الثالث فيعود إلى "تربة" وادي الرافدين التي حفظت هذا الأثر وغيره لآلاف السنين، من عقاب الطبيعة وعبث السراق وحوافر خيول المحتلين الذين توافدوا على هذه البلاد.
كنوز تحت التراب
لعل من أجمل ما يتصف به علم التنقيب عن الآثار "الآركيولوجي" هو الغور في المجهول وتوقع المفاجآت في أغلب الأحيان. وبالعودة للسنين الأولى التي بدأ علماء الآثار والمنقبون عملهم في بلاد الرافدين، وانعدام المصادر الأولية والأجهزة الحديثة في التنقيب والحفر هو ما ساعد على تلك الرغبة الجنونية لدى البعض في كشف السر العظيم!
ويقينا، أن لا أحد منّا يعلم اليوم عما كان يدور في ذهن "عالم الآثار البريطاني ليونارد ووللي" حينما كان ينقب في المقابر الملكية المُكتـَشَفَة في مدينتي كيش وأور، فقد ُعثِرَ في تلك المقابر على حوالي 1850 قبراً من النوع البسيط، المخصَّص لموتى عامة الشعب. أما في الموقع السفلي فتمَّ اكتشاف ست عشرة مقبرة على عمق عشرة أمتار من سطح الأرض. تبيَّن من النفائس الكثيرة التي لا تُحصى والنقوش والأختام الأسطوانية التي كانت بين الهدايا الجنائزية، أنها كانت مقابر لملوك سلالة أور الأولى وزوجاتهم. أهم هذه المدافن هو القبر رقم 789 الذي خُصِّصَ للملك "أباركي" وقبر رقم 800 لزوجته الملكة "بو آبي شبعاد"، وقد فسر وولي هذه الظاهرة بأن الملكة بدافع حبها لزوجها الملك "أباركي" أوصت أن تدفن بالقرب منه بعد موتها، ولهذا السبب نشاهد القبرين "789" و"800" متلاصقين.
من الجدير ذكره أن اسم الملكة شبعاد اقترن بالذوق الفني الرفيع باختيار أدوات مائدتها وزينتها الذهبية الدقيقة الصنع والمرصعة بالأحجار الكريمة، إن هذه المكتشفات ستعني الكثير للعراقيين ولكل المهتمين بالسومريات، والاكتشافات الأثرية عموما. حيث ضم القبران 74 جثة من أتباع الملك وزوجته، رافقوهم إلى الموت طوعاً بواسطة مشروب مسمم أدى إلى تخديرهم ومن ثم إلى موتهم بينهم أربع عازفات وثلاث قيثارات، كانت أيدي العازفات ما تزال على أوتارهما حتى وقت الاكتشاف، الأمر الذي يدل على أن العزف استمر حتى آخر لحظة من حياة الملكة. ولعل اكتشاف هذه الآلة الموسيقية "مثار كتابتنا" سيفتح الباب على مصراعيه في مجال تطور الآلات الموسيقية الوترية، ابتداء بالجوزة والربابة والسنطور والقانون والعود والكمان وصولا الى البيانو والأورغن، اللذين يعتمدان على الأوتار أيضا. وتبين بعد تدقيق العديد من "الأختام)" والألواح الصورية من الآثار السومرية بأن هذه الآلة كانت تستخدم في الاحتفالات عامة، وقد قام العديد من الموسيقيين السومريين بكتابة النوتات الموسيقية وأرفقوها بأغان تَعزف على الحان "القيثارة". جدير بالذكر ان حصيلة كلا القبرين كانت "3" قيثارات توزعت، الأولى وأكبرها حجما في المتحف العراقي قبل سرقة رأس الثور الذهبي، والثانية "الفضية" في المتحف البريطاني بلندن، أما الثالثة والأخيرة فموجودة في متحف جامعة بنسلفانيا التي أشرفت على هذه الحفريات آنذاك.
العبقرية السومرية
في وقفة متأنية وفاحصة لهذه الآلة الموسيقية، ومقارنتها بمثيلاتها في القرون الأخيرة "أي بفارق حوالي 5000 سنة" لا يمكن لنا إلا أن نسجل إعجابنا بنباهة مخترعها وعمق فهمه للموسيقى وتردد الأوتار والصدى والتحكم بالنغم وفي كل ما يتعلق بأرقى آلات اليوم، وبهذا فهو "او هم" يستحق لقب "العبقري السومري " العراقي" دون منازع وعلى مدى تأريخ الآلات الموسيقية قاطبة. فما صنعه هذا الإنسان، كان الأساس لما قامت عليه معظم ان لم أقل كل الآلات الوترية الموسيقية تقليدا كان ام توارد للخواطر والمصادفات، اما آلتنا فتتكون من:
1- الشكل العام: وهو يتكون من ضلعين قائمين غير متوازيين ويعلوهـما ضلع قائم عليهما "مجوّف وعلى شكل أنبوب" تتدلى منه الأوتار "9 ـ 11" وهذا الضلع العلوي يوازي القاعدة المكونة على شكل صندوق خشبي مجوّف وتنتهي فيه الأوتار. وعادة ما تكون القاعدة مزينة من الخارج بالرسومات والزخارف فيما يتقدم رأس "ثور" آلة القيثارة، وقد تفنن الحرفيون في تزيينها بالذهب أو الفضة والأحجار الكريمة.
2- المفاتيح: كان من الممكن ان تمر فكرة ربط الأوتار بالضلع الموازي للصندوق، إلا أن استخدام "فكرة ـ عبقرية" المفاتيح لشد وتضبيط الأوتار، تعبر عن فهم وأدراك عال للصوت وتردداته.
3- الصندوق: إن هذا الاستخدام يعزز مرة أخرى فكرة "الدهاء" والفهم لمبدأ الصوت وتردداته وابتكار أسلوب ما لتضخيمه، إذ يندر أن تخلو أية آلة وترية من هذا الصندوق ، لكن يمكن الاستنتاج بأن مخترع هذه الآلة ربما استفاد من آلة "الطبل" التي يعتقد أنها كانت موجودة آنذاك وقيد الاستخدام، وهي ما يشير لها العديد من البحاثة عند دراستهم ل "ملحمة كلكامش".
4- الأوتار: وهذه تثبت مرة أخرى سعة العقل الذي صممها أو ابتكر استعمالها، وقد لا نكون مبالغين لو قلنا بأن "أمعاء الأغنام" هي أكثر المواد التي كانت تستخدم في صناعة الأوتار للآلات الموسيقية حتى وقت قصير، طبعا بعد معاملتها بالأملاح والمواد الحافظة واستخدام أساليب التنشيف التي تقاوم التفسخ، فيما جرى استبدالها بالأسلاك المعدنية أو المصنوعة من البلاستيك في الوقت الحاضر.
الفرق بين القيثارة والهارب
لعل واحدا من أبرز الأخطاء الشائعة أن ترجمة كلمة "القيثارة" من اللغة العربية إلى الانكليزية تعطي عبارة "هـارب" والتي تمزج ما بين آلتين وتريتين لا يجمعهما إلا التشابه في المظهر الخارجي، حدث ذلك ولم تعترض أي من الجهات الرسمية العراقية عليه! إذ كان ممكنا أن تترجم إلى ألـ "كيثارة أو قيثارة" بالأحرف الانكليزية، ومن أجل تمييزها عن الهارب. أما فرقها عن "الهارب" فهو كبير جدا، ولو بدأنا بالشكل فهو يعتمد على وتد واحد بنهايتين مقوستين، وتتدلى من نهايته أوتار عدة نحو أسفل الوتد، ولا يدخل "صندوق الرنين" ضمن البناء العام للهارب، بل أن النغمة أساسا تعتمد على قوة سحب الأوتار، أو في استخدام الريشة، ولهذا السبب نرى آلات الهارب وقد بنيت بأحجام كبيرة نسبيا من أجل الغرض السماعي، فيما برع المصممون في تنوّع أشكالها أيضا. ويمكن الاستدلال من بعض الحفريات التي جرت في بلاد فارس وفلسطين ومصر واليونان، بأنها انتشرت في الألف الثاني قبل الميلاد، اي بما يقارب "500 ـ 1000 سنة" بعد آلة القيثارة المكتشفة في أور، وهذا الفرق كبير جدا في عمر الحضارات آنذاك، خاصة وأن تواصلا ما، كان قائما بين تلك الحضارات والشعوب. ومن الجدير بالذكر، إن عدة رسوم سومرية قد كشــفت عن آلة شبيهة بـ "الهارب" كانت موجودة في بلاد سومر ولا يستبعد بأن جرى تقليدها واستخدامها من الحضارات المجاورة، ومن المفيد التذكير بأن بعض الباحثين في الآثار ينسبون آلة الهارب إلى حضارة مصر القديمة، وبالذات إلى الأسرة الفرعونية الأولى وتسمياتها هي "الكنارة: فرعونية/ الجنك: فارسية/ الصنج: عربية/ الهارب: انكليزية". أما المفارقة الأكبر فهي عن القيثارة التي لم تكشف الحفريات "لحد الآن" عن مثيلاتها سوى التي اكتشفها المنقب "وولي" في القبور المرقمة 789 و 800، فقد زُيِّنَتْ واجهةُ هذه الآلة الوترية أيضًا بعدد من المَشاهد المرصعة الموضوعة بعضها فوق بعض. في الحقل الأول نجد نسرًا برأس أسد يقبض بمخالبه على عنزتين؛ وفي الحقل الثاني شجرةً يشبُّ عن يمينها ويسارها ثوران؛ وفي الثالث بطل في هيئة هي مزيج من إنسان وثور يقهر نمرين؛ وفي الرابع صراع بين أسد وثور. لكن يبقى هناك شيء محيّر للغاية، فإذا كان فـن صناعة هذه الآلة قد وصل إلى هذا الرقي واستخدامها قد وصل إلى القصور الملكية، وأن أحفاد السومريين ما برحوا يستخدمون الموسيقى بأدواتها وآلاتها المعروفة آنذاك "الطبل، الدف، الإيقاع والمزمار" فأين موقع القيثارة اذن عند الأكديين والبابليين والكلدان والآشوريين؟
القيثارة في العراق
قد يعتقد أو يتصور البعض منّا بأن اكتشافا راقيا مثل هذا كان سيدفع المسؤولين في العراق، السياسيين أو المهتمين بشؤون الفنون والموسيقى، إلى إعادة إنتاجها من جديد، وإعادة قراءة الألحان أو الأغاني لتلك الفترة والتي اكتشفت لاحقا، أو إلى إعداد الدراسات عنها وأضافتها لمنهاج "المعهد النغمي أو المناهج الدراسية الاعتيادية" أو في المناسبات الوطنية، أو التباهي بها بين فرق العالم الموسيقية الأخرى، لأنها الوحيدة من بين قريناتها في كل ما توصل إليه إبداع الإنسان في كل الحضارات التي تلت السومرية، لكن أي من هذا لم يجر وللأسف، وفي "اضعف الأيمان" بتكليف إحدى شركات صناعة لعب الأطفال لصناعتها وطرحها في الأسواق أسوة بـ "الهارمونيكا، والكمان والبيانو والزايلفون والناي والمزمار والطبل"!، التي كانت ومازالت موجودة في السوق العراقية. ومن المؤلم حقا ان أقول بأن كل ما موجود عن القيثار هي عبارة عن صور على واجهات بعض المحلات والمطاعم والمعامل، أو علب الدخان وصناديق حفظ القمصان والأحذية أو بعض الفرق الموسيقية والإذاعات، لكن من النادر أن نسمع أن أناسا قد سمعوا أو شاهدوا عزفا على هذه الآلة في العراق! وهذا معيب بحق أبناء الرافدين الذين يفتخرون بما أنجزه أجدادهم، مثلما يذكرون باستمرار الكتابة والعجلة والنظام الستيني وغيرها من المنجزات التي أغنت الإنسانية وما تزال!
أصداؤها في لندن
تذكر الأخبار بأن الفنان البريطاني "آندي لوينغز" وبعد أن شاهد أخبار سرقة معظم مقتنيات المتحف العراقي، والتخريب الذي جرى على "آلة القيثارة الذهبية الوحيدة التي يملكها المتحف العراقي" حينما سُرق رأسها الذهبي وتكسّرت أضلاعها، بدء العمل عام 2003 بإعادة تصميم وبناء "القيثارة" وبحجم أكبر، بمساعدة عدة جهات وكانت الحصيلة 70 كغم من شجر الأرز من العراق، اللؤلوء من دبي، اللازورد من أفغانستان، الذهب عيار 24 من جنوب أفريقيا، القار هبة من متحف بغداد، الكلس الأحمر من جبال كردستان والأوتار هدية من شركة بريطانية عبارة عن امعاء الأغنام وكانت هذه بمثابة إعادة بناء النسخة الأصلية بكل مكوناتها وأكتمل المشروع عام 2006، أما أولى انطلاقات "فرقة القيثارة الذهبية" فكانت عام 2007 في العديد من دول الشرق الأوسط والعالم، وتبقى لحفل العاصمة لندن مذاقها إذ أبدعت كلتا السيدتين "الباليرينا ليغا مينا بالاشتراك مع كلارا ليفينغستون في الرقص والغناء وبأشراف آلن سينور وهو مدرس لرقص الباليه في جامعة آيوا بالولايات المتحدة الأميركية"، وأستمر عروضها في الكثير من الدول، كما أحيت الفرقة العام الماضي 2013 حفلا برعاية المركز الثقافي العراقي في لندن، فغنت "ستيف كونر" بصوتها السومري او كما نتصور صوت الهة الحب والخصب وهي تتلو تراتيلها أو تغني ضمن طقوس التعبد. "ستيف" الشابة التي غنت باللغة السومرية بطلاقة، اذ يقع هذا ضمن تخصصها في خلق الموسيقى من اللغة. ومعلوم انها حاصلة على الدكتوراه في الموسيقى وساهمت في العديد من المهرجانات الغنائية الموسيقية في مختلف دول العالم. فهي تدرس الموسيقى وتقود فرقة للغناء الفولكوري. ويمكن القول بألم، بأن تجربة جميلة وجريئة مثل هذه لم تتكرر على الأقل من قبل أحفاد السومريين هذه المرة.
أخيراً
ربما تكون فكرة "قيثارة أور" الحجر الذي القي في بركة حالتنا العراقية الراكدة، بأمل ان تتحرك عقولنا ومشاعرنا ونعيد حساباتنا في الذي نريده من هذه الحياة. فهل سننشد للموت والدمار والتخلف والعيش في الماضي كما يريدنا البعض، أم أن لنا مشروعا للحياة والأمل يبدأ باحتضان الأطفال وتهيئة المدارس والمناهج الملائمة لهم، ونعيد البسمة لوجوههم وللبنات والنساء ولجموع الناس، منشدين بأغاني الفرح والإنسان والمحبة. هل يمكن لمبدعينا الموسيقيين او الفنانين ان يضعوا في حساباتهم مشروع إعادة إنتاج هذه الآلة والاحتفال والتعريف بها في المهرجانات الموسيقية المحلية والعالمية. وهل يمكن للمؤسسات المعنية بالموسيقى أن تتبنى هذه الفكرة وأن تكون هذه الآلة شعارا لهم، مثلما تتفاخر الشعوب التي صنعت الكيتار والدرمز والبيانو والأورغـن؟