فيلم «تلك الأيام» بين النسق والجذور / نائل الزامل

فيلم المخرج أحمد غانم والمؤلف فتحي غانم "تلك الأيام", يرتكز على علاقة المثقف بالسلطة, حيث يظهر فيه الأستاذ الجامعي سالم عبيد, كمثقف ومفكر, بدا مناضلا وانهار أمام أول موجة تعذيب من قبل السلطة ليصطف معها, مشهد انهياره وسحقه كانسان, لم يفارق ذاكرته, الا ان أنانية المثقف وبحثه عن ذاته المستمر حوله الى انتهازي بامتياز, يسعى لبناء ذاته لذا تعتمد عليه السلطة, ولكن من خلال تسويقه لها, وليس عن طريق تبني أفكاره التي اضمحلت مع مرور الوقت ليتحول الى أشبه بإعلان مرموق عن سياستها, لما يملكه من خطاب مغلف ثقافيا بتجارب الشعوب, وبالدفاع عن حقوقهم, وبالتأكيد نظرية المؤامرة التي تتبناها الأنظمة الحاكمة بنكهة الديمقراطية.
سالم عبيد، الأستاذ من العقول التي حصلت على منح الدولة في مصر لإكمال الدراسة في الخارج, ثم يتزوجون من نساء أميركيات للحصول على الجنسية, ومن ثم فان نبوغه, وثقافته, وعلاقته بالسلطة خلقت له حيزا من العلاقات المهمة, التي تفرض عليه نمط التفكير وحيز البحث وجوائز قيمة, فيخرج على شاشات التلفزيون كمحلل سياسي يعمق الأزمة ويقوم بدور الوسيط الترويجي الذي يزرع على ألسنة الصحف ما تجتره من تحليلات مقنعة وفهم للازمات الآنية واليومية, وفي الوقت ذاته هو يشكل الخطاب المغري للمعارضة للرد عليه، أو مهادنة بعض طرحه التي تبدو في أغلب الأحيان بريئة وباحثة عن الحلول, وبالتالي فهو يقود خطاب السلطة في بنيته العميقة من رفض أخطاء الواقع وكارثية البديل والمعارضة في دخولها دوامة الطروحات الآنية والأزمات اليومية. فيتحول جزء كبير من حلول المعارضة الى اتفاق وسطي يفقد الحلول الناجعة شهوة الثوري الحقيقي متخذا من تبريرات مهددة لوجود الاثنين, فتفقد المعارضة جوهر وجودها, بانجرارها للوقوف مع السلطة في مشاكل كبرى أهم أسبابها هي أخطاء الحكومة المتضخمة والمبتلعة للدولة, وسحب المعارضة وراء اليومي والآني المبتعد عن فهم الأزمة الكبرى. مع تفاعلات الارهاب السلطة تطلب منه بحوثاً عن العنف والتنظيمات الإسلامية العنفية, لذا يطلب من الضابط علي النجار المستقيل ان يزوده بالمعلومات حول مرحلة التسعينات, لكن الأستاذ المروج, أمام القائد الميداني, يثير نرجسيته حول امكانية قتل المجرمين.
الضابط المستقيل علي النجار, يمثل السلطة الجنائية, القائمة بالجريمة البديلة بدورها الإجرائي, وهو دور المؤسسات الجنائية في كافة الأنظمة, دائرة حكومية بزي معين يحق لها مطاردة المجرمين الذين يهددون المواطنين, ولكن ليس من أجلهم بل من أجل دعم السلطة وترسيخها في أذهان الرعية, فيتعرضون لشتى المخاطر في حروبهم مع العصابات المنظمة أو التنظيمات الإرهابية, فيقتل منهم شهداء, ويقومون بقتل مجرمين!. هم يمثلون المظاهر المسلحة ومن يحق لهم حمل السلاح وإطلاق الرصاص, مع تأزم مفهوم الدولة القامعة بنكهة الديمقراطية التي لا توفر حلولا أبدا، بل إجراءٍ قمعي فقط, يتحول معها علي النجار الى شخصنه الصراع, فيقوم بالواجب على شكل العدو ويتحول مع زملائه الى عائلة أو قبيلة تستدعي أخذ الدم بالدم, وهذا المفهوم يعكس دائما في أفلام هوليود حول علاقة الشرطة ببعض, فما ان يقتل لديهم شرطي, الا وسعى كافة الشرطة لقتل الجاني قبل وصوله للقضاء أثناء مداهمته, أو التربص به من أجل قتله فقط, وهو ما يسمى بثأر المؤسسة الجنائية الإجرائية, وهذا بالضبط ما يحدث مع الضابط علي النجار, حيث يقوم بالتربص بمن قتل زميله, لكن الفارق انه لم يحتفل مع زملائه كما في هوليود بموت المجرم, وانما يشتعل لديه تأنيب ضمير, لم يستطع الفيلم تبريره.
أحداث الفيلم تقوم على علاقة حب, بين الضابط وبين ليلى زوجة الأستاذ سالم عبيد, وهي شابة استطاع الأستاذ أن يغريها بمركزه وتحويل وضع عائلتها الاقتصادي من صفوف الكادحين الى ناهبي امتيازات السلطة, وتقوم علاقة الأستاذ بزوجته ليلى من خلال الاتصال التليفوني, على الرغم من كونهما يقطنان معا, الا انهم يمارسان علاقتهما الزوجية من خلال ادعائه بأنه شخصية أخرى "تفاحة" في الهاتف بميزات شعبية ذكورية ثورية, وهي تعلم بذلك, ويستمتعون بهذا الخيال الرقمي, شخصيته التي يفتقدها في الواقع لصالح أنانيته الطامحة للشهرة البطولية المزيفة, يستعيدها رقميا مع ذكريات التعذيب الأولى في أجهزة الأمن, ليلى الزوجة الشابة النافرة من زوجها الانتهازي وقشره الثقافي, تعشقه ككائن رقمي يتحدث بعيدا عن التخطيط والحسابات للوصول, تبدا الأزمة حين يرشح الأستاذ سالم عبيد لمنصب وزاري مهم, فيسعى للتخلص من الاثنين معا, شخصيته الرقمية التي تحمل فحشه وأدرانه فضلا عن شعبويته وثوريته, ومن زوجته التي لا تحبه ولا تحترمه، وانما تعشق اتصالاته التي تجسدت في شخصية حقيقية وهي الضابط علي النجار, يسعى الأستاذ سالم عبيد لرشوة علي النجار من أجل أن يعرضه لمحاولة اغتيال بسبب مقالات سينشرها ضد الإرهاب وتقتل زوجته بالخطأ, مع علم الأستاذ المسبق بعلاقة الضابط بزوجته, ساعيا لتفعيل دور الخيانة من خلال أسماعه اتصالاته بها بشخصيته الرقمية "تفاحة", وكيف هي خانتهما معا, دون معرفة الضابط من هو تفاحة, فضلا عن مبلغ خيالي من المال وفرصة اللجوء لأمريكا, يخسر الأستاذ كل شيء في حوار تلفزيوني يرتكب فيه خطأ فادحاً, وينتهي الفيلم بشرقية عالية بانتصار العاشقين, وانتحار الأستاذ الجامعي سالم عبيد الذي لم يجرؤ على ممارسة القتل الميداني او تحويل تبريره لشيء.
جذور الفيلم
نحن في هذا الفيلم لسنا أمام مؤلف, بل عملية توليف وتركيبات شتى, بني هذا الفيلم على مرتكز أساس, وفيلمين ساندين, وهذا لا يخفي أن هنالك حرفة في التوليف رغم الإرباك, لابد أن من قرأ التقديم لشخصية الأستاذ الجامعي سالم عبيد, وكان قد اطلع على رواية علاء الأسواني "شيكاغو" سيجد العلاقة التناصية وحتى الاقتباسية من شخصية د. محمد صلاح, الأستاذ في جامعة الينوي في شيكاغو, والذي لم يصمد أمام أول تعذيب وهاجر مصر, واتهمته حبيبته بأنه جبان, وبقيت في ذاكرته هذه الكلمة, حتى استطاع أن يحصل على فرصة الاتصال بها, وبقي كل ليلة يتحدث معها للفجر, ويركز على سؤال مهم, هل ما زالت تراه جبانا, ويعدها انها ستفاجأ في الأيام القادمة وستندم على نعته بالجبن, ولكن في اللحظة الأخيرة أمام زيارة الرئيس حسني مبارك لأمريكا, يترك بيان المعارضة, الذين اعتمدوا عليه كي يتلوه أمام الرئيس, ويخرج بياناً مؤيداً وخاضعاً للسلطة وللرئيس, ويخذل رفاقه وحبيبته بعد 25 عاما من انتظار موقفه البطولي, الذي منحه الزمن ليحذف جبنه من عيون حبيبته, وينتهي به المطاف في ليلة البيان منتحرا. بالتأكيد أن شخصية د.سالم عبيد هي شخصية د. محمد صلاح, وحتى الرابط بين سالم وصلاح, وعبيد ومحمد, له أثر دلالي, وبالتأكيد ان الشخصية الرقمية في الفيلم من خلال اتصال الأستاذ الجامعي سالم عبيد متمثلا بشخصية تفاحة بليلى زوجته. هي مستوحاة من تطوير الاتصال بين د, محمد صلاح وبين حبيبته الدكتورة المصرية التي أتعبها النضال ولم تفقد الأمل.
أما شخصية أم الدكتور سالم عبيد, فهي مستوحاة من فيلم "المواطن مصري" للمخرج صلاح ابو سيف وللكاتب يوسف العقيد, وهنا استخدام الأم الشابة, التي تتزوج بعمدة القرية وترث عنه كل شيء وتنجب منه ولدا وحيداً, تجعله يستولي على كل أراضي أبيه بدلعها وغنجها, ولابد من الإشارة الى الابن الذي يعيد سلوك ابيه ولكن ليس بما يملك من اراض زراعية بل من ارصدة واملاك في المدينة, ويتزوج بفتاة صغيرة. أما طلب طلاق ليلى من الأستاذ وطلبه للمهلة حتى يتسلم منصب الوزارة, فهو مستوحى من فيلم مصري قديم لا يحضرني اسمه, بطولة شكري سرحان الذي قام بدور الحبيب, وعمر الحريري، الأخ الذي يساند أخته للخروج من زيجة رجل ذي نفوذ كبير وطاعن في السن, يعرف أن زوجته الشابة تعشق شخصا آخر, ويطلب المهلة حتى انتهاء الانتخابات, حيث كان مرشحا, ويحاول في هذه الفترة قتلها.
ركز الفيلم في مشاهده على "الاكشن" بكثرة دون فائدة نسقية أو سياقية, وكانت المشاهد الحركية مألوفة, واعتمد على الصدفة في أحداثه لربط الجذور مع بعض, وهو يعد من ضعف النص, ومثال على ذلك: بالمصادفة يكون الضابط هو من أنقذ زوجة الأستاذ من القتل في احدى عملياته. وبالمصادفة أن يتصل أحدهم بالأستاذ في فاصل لحوار تلفزيوني مباشر ولم ينتبه الأستاذ بالصدفة أيضا انهم عادوا على الهواء, ويستمر في حواره من خلال مايك النقال, ويتحدث بصراحة عن النظام وعن امريكا ويصف الشعوب العربية بالهمج والرعاع ويشتم السفيرة الأمريكية, أي ان الصدفة تجاوزت حد المبالغة والخيال. وكذلك بالصدفة ان يدفن الضابط وهو حي ويقوم برفع التراب عن نفسه. وتكثر الصدف في هذا الفيلم.
لم يعتمد الفيلم على هامش الخلفية أبدا لتحريك القضايا, رغم ظهور الصحيفة في أكثر من مشهد لم يعمل المخرج على التقاط خبر مؤثر في الوضع العام للأحداث, وحتى في مشاهد الشارع والريف, لم تستثمر لإيصال الأزمة السياسية والثقافية, بل تم تمريرها بتركيز وجودي ذاتي في حين ان الفيلم يمتد لأبعد من ذلك بكثير.
لابد هنا من الإشارة الى أن الفيلم أثار أسئلة مهمة رغم أن السيناريو يبدو كتب بمنهج مسرحي أكثر منه سينمائي, ربما لو أتيحت لها تجربة مشابهة مع تلافي بعض الهفوات والاقتباس الحرفي لكان في مصاف أروع الأفلام المصرية, كما تجب الإشارة لدور المبدع حميد حميده الذي استطاع ان يمنح للفيلم هوية وجوده كممثل عظيم سحب معه الأدوار من اي اقتباس أو تناص, فكان مبدعا وموحيا ومؤثرا جدا, مع الحضور الرائع لأحمد الفيشاوي وصفية العمري وليلى سامي.