موتيفات.. محمود عبد الوهاب / مقداد مسعود

"1"
أقتطع هذا المفصل من مخطوطة كتابي عن العابر الاستثنائي الجميل محمود عبد الوهاب .. ترى قراءتي المنتجة أن: السجادة - الفوتو - المرآة - الرصيف - الشراشف - الستائر - النوافذ - المائدة - الأقمشة.. وغيرها من المفردات هي بحق الأثاث الضروري في البيت القصصي للقاص والروائي محمود عبد الوهاب ..
"2"
التقط في هذا المفصل بعض السمات والبصمات السردية التي انماز بها القاص والروائي محمود عبد الوهاب.. هذه عينات من القصص التالية "الشباك والساحة، سيرة، الممر، عابر استثنائي، سطوح المظلات، يحدث هذا كل صباح، طقس العاشق، سيرة".. للتأكيد على الترابط الاتصالي في مشغل محمود.
"3"
"سيد ارستقراطي من العصور الوسطى ممتط ٍ فرسه، وسط غابة من أشجار الصمغ والبلوط ، ينطلق من فوهة بندقيته دخان أزرق لا ينقطع. وراءه فارسان أحدهما غائب في ضباب أبيض خفيف، وثالث يلهب ظهر بغلته بقبعته. في المقدمة وعل مذعور، تثب حوله أربعة كلاب صيد نشطة، يقفز جدولا صغيرا، وقد بدا قرناه، في الضوء الخافت، كمقعد هزاز يستقر على رأسه. الغابة تتنفس وتراقبهم جميعا"..
للسجادة وظيفة الفضاء الثالث في النص القصصي.. الفضاء الأول هو الغرفة التي يدور فيها الحدث.
الفضاء الثاني يتوزع إلى أفضية:
* ساحة المدرسة
* داخل الصف
* الشارع من خلال الشباك مبأرا بعيني المرأة..
"4"
السجادة وشخوصها ليس فائضا جماليا بل فاعل دلالي.. فالسارد لا يراها صورة جامدة:
* ينطلق من فوهة بندقيته دخان أزرق لا ينقطع
* وثالث يلهب ظهر بغلته بقبعته
* وعل مذعور تثب حوله أربعة كلاب صيد نشطة
* يقفز جدولا صغيرا..
* الغابة تتنفس وتراقبهم جميعا.
وهكذا نرى أن السارد بتوظيفه للفعل المضارع حول نقشة السجادة الثابتة إلى لقطة سينمية مرئية.. وهي لقطة تجسد العنف بكل وحشيته .. وضمن اسلوبية السارد ستكون بصمة المؤلف.. ثمة صورة ظلية مدسوسة.. "وقد بدا قرناه، في الضوء الخافت، كمقعد هزاز يستقر على رأسه" لهذه الصورة الظلية وظيفة الخلية الموقوته في سيرورة القص.. وتحديدا تتجسد الخلية في مهارة السارد في تطويع التشبيه "قرناه... كمقعد هزاز"، وفي السطر الثالث من هذه الوحدة السردية سيفكك السارد هذه الخلية. وعلى الطريقة الظلية أيضا.. "بمرآة صقيلة ينعكس ،على جهة منها، ظهر الصبي، في التاسعة ، يطل من الشباك ، بينما تدلت، بلا حياة، ساقاه المشلولتان"...
"5"
بعد ما يقارب ربع قرن من الإبداع المتأني، ستشحب السجادة تتبزل خيوط نسيجها ستبهت فيلتقط القناص ما هو أجدى من ذلك.. ويجهد في تحريك الساكن بسردية أنتجت أعظم قصة قصيرة عراقية عربية، أعني قصة "سيرة" حيث يتحول الفوتوغراف كلمات مقتصدة وفي شبكة الكلمات سيذيب محمود تاريخ ورقة الفوتوغراف 1942 لا ليمحو لحظة، بل ليمنحها حرية التدفق الدائم في ذاكرة جسر العشار المؤدي إلى سوق المغايز ..
"6"
لمحمود رهف القديسين .. فهو يسمع ويرى ما ليس في نصه.. يتجسد ذلك كاملا في قصة "الممر".. النزيل قبل ان يدخل غرفته يسمع صوت امرأة يأتيه من الغرفة المجاورة.. وفي نهاية القصة يفتح باب تلك الغرفة:"فضاءً واسعا كما لو أن ضوء النهار يغمرها أول مرة ".. وكقارئ منتج أرى القاص يشتغل هنا على الاستعارة، فهو بتوقيت تزامني سمع صوت امرأة أعني وهو يهم بفتح باب غرفته "سمع صفق باب الغرفة المجاورة، وصرير المفتاح يدور في الداخل مرتين، وحركة أقدام لأكثر من شخص واحد تتقدم متباطئة متفاوتة الوقع، ثم صوت امرأة يأتي من الداخل: هل أغلقت الباب وراءك جيدا"؟.. ما بين القوسين يؤكد ان الغرفة الثانية مأهولة بعائلة "حركة أقدام لأكثر من شخص" لا يكتفي السارد بذلك فيضخ علاماتية ثانية "تتقدم متباطئة متفاوتة الوقع" التفاوت يحيلني الى السن اعني التفاوت العمري للأشخاص وهناك علاماتية التحصين من خلال الباب ،فالرجل لم يترك الباب مواربا، بل صفق الباب وهذا يعني استعمل قوة مخففة، ثانيا قفله بالمفتاح بشكل محكم، حيث أدار المفتاح دورتين ورغم ذلك فالمرأة ستسأله أو الأصح تستجوبه "هل أغلقت الباب وراءك جيداً"؟، وما سيقوم به السارد هو فعل استعارة ينفذه النزيل الوتر حيث يفتح باب الغرفة الثانية.. ان هذا الفعل اتصالية مرآوية، فالغرفة الفارغة والملأى بالبياض هي حياة النزيل الوتر وما سمعه من أصوات هي رغبة ملجومة بتحويل الوتر الى حالة شفعية متكاثرة..
"7"
في "عابر استثنائي". التي هي بحق درسٌ في الاقتصاد الأسلوبي، سألتقط من حوار الزوجة والزوج كلام الزوجة فقط وأنضده سرديا لنحصل على نظام معلوماتي عن العابر الاستثنائي "لقد رأيته هذا الصباح . كان كهلا كئيبا.. كان يقطع الشارع وكأنه يودع مدينته .. هل تعتقد بأنه مريض. لكنه كهل ليس باستطاعته أن يتحمل مرضه وحده".. والزوجة اكتشفت وحدة العابر الاستثنائي من خلال ما تحمل اخضرار الرؤية "من بين ورقتي شجيرة الظل التي كانت تحملها على ذراعيها، رأته: كان يرفع رأسه أحيانا ويديره بتثاقل صوب المارة والمباني بجانبي الشارع ، وينصت وهو في مشيته الواهنة... يدب مطرقا كأنه يحسب خطواته بانتظام وكأن شيئا ما في داخله ينكسر. كان يجرجر قدميه مثل حيوان جريح"..
"8"
في قصة "سطوح المظلات" يبدأ السرد بكثرة مجتمعية وهي تعبر جسر كدانسكي وثمة كثرة متنوعة: مشاة / عابرون/ مطر غزير/ أسراب من مظلات.. أما رؤية السارد فلا تكون مبللة بالمطر أو محشورة تحت المظلات ،بل عبر زجاج الترام.. "يمرقون عبر زجاج نوافذه، رجال مقطبي الوجوه وعجائز يسرن بوهن رتيب، وشابات بوجوه شمعية يحملون مظلاتهم ويهدرون في طقسهم الصباحي.. لهذا الحد الصورة طبيعية ومألوفة. لكن سرعان ما تتحول المألوفية إلى فعل اكتساح آلي على الموجودات كافة.. "يجرفون في طريقهم الأشجار والأكشاك والمخازن والحانات والعمارات الزجاجية الشاسعة وخط الترام والبشر المنتظرين في مواقف الباصات، يهرعون بنشاط وصمت متوجس لا يسمع فيه سوى حسيس أحذيتهم تخفق كعوبها على الرصيف اللامع بالبلل" من بين هذه الكثرة من المظلات المتماوجة بألوان عصير الليمون والكرز والتفاح، يلتقط الرائي عبر زجاج مبلول، مظلتين عاشقتين، ها هما "المظلتان الداكنتان تخترقان الجموع كمويجة مندفعة في محيط مائي واسع. إنهما تنسابان الواحدة إثر الأخرى، كرأسي سباحين ماهرين لا يستقران" تشكل المظلتان فجوة اختلاف في جدار الكثرة الآلية الخطوات.. الكثرة المكتسحة لكل ما يصادفها في سيرها ،الكثرة التي شكلت من المظلات.. "رئة كبيرة من المطاط".. الحركة الآلية تواصل بثها من خلال حركتي الترام والجموع بمظلاتهم.. الاستثناء الوحيد: عشق المظلتين "المظلة بجوار المظلة، تقاربتا ثم تماستا ثم تداخلتا".. الترام يسير، الجموع لا تكترث للعشق فتجتازهما "وهما متعانقين هي ببنطال الجينز، وهو بمعطفه الأزرق وربطة عنقه الصفراء أكاد أسمع مواءها كلما ضغطت شفتاه على شفتيها طوت مظلتها وبدأت تودعه"، ها هو السارد الضمني يخبرنا .. "ومن زجاج النافذة لمحته، وحده، يحمل مظلته ويحشر جسده، الذي بدا ضئيلا بين الجموع".. حالة العشق الاستثنائي تحيلني إلى قصة "يحدث هذا كل هذا صباح" لكن الروتين سيكون بنسبة مخففة من جراء اختلاف البنية الاقتصادية بين بولونيا حيث تجري إحداث "سطوح المظلات".. وبين "... كل صباح" بفضائها العراقي ، البصري، فالعاشق هو استثناء الأيام الرسمية والسارد الضمني لا يخفي دهشته بل يشهرها في سؤالين "مِن أين جاء؟ وكيف؟.. تنتهي القصة بهذه الوحدة العشقية "الآن يقفان معاً أمامي على الرصيف المقابل وسط نقاء هواء هذا الصباح عاشقين جيء بهما من عصر بعيد حالم ليشقيا بنكد الفضوليين من المارة ذوي الوجوه المحروقة الجافة، هو بقميصه ذي الأزرار البراقة وهي بثوبها الأصفر ذي الأكمام".. والجموع السائرة بطريقة آلية، سيراها سارد حيادي، لا من خلف زجاج الترام، بل من ارتفاع يتجاوز ارتفاع نافذة الترام بمقدار عشرة طوابق وستكون هذه الرؤية بمنزلة "طقس العاشق".. وستكون الآلية مخففة.. "تراءى له الشارع من شرفته في الطابق العاشر، بساطا يزحف ببطء نحو الجهة الأخرى كأن يدا لا مرئية متوجسة ومتئدة تسحبه إليها"، ثم يواصل اليوم جريان الهادئ والناس يتحركون كل الى غايته و"البساط يتجدد، تتناسخ أشياؤه وهو في جريانه إلى الجهة الثانية" ثم يخبرنا السارد إن هذا الصوفي للحركة وللبشر يكابد من وحدته المتعالية والمرموز إليها بالطابق العاشر "جميع الذين مروا عليه انحدروا الى أماكن أخرى وشوارع أخرى يتصرفون هناك غير عابئين بنظراته التي علقت بهم، بأكتافهم بخطواتهم".
ان السارد هنا ينهي كلامه بشعرنة المسرود فاضحا لامبالاة المارين وهو إحساس حقيقي لكنه غير واقعي فهم منشغلون بشبكة ضرورات الحياة اليومية ولا ينظرون ابعد من أقدامهم أعني أنهم لا ينتمون إلى أولئك "الناظرون إلى النجوم" وهذه المعاناة لم يشعرها السارد في "سطوح المظلات" والسبب أن السارد سائح التقط كل المرئيات بعين الكاميرا، والسائح غير مشارك بما يجري ، وتجربة الحدث في القصتين بينهما مسافة كالمسافة بين عهدي الشباب والحكمة في حياة المؤلف..