الابوذية.. وذاكرة الشجن الجنوبي / لفته عبد النبي الخزرجي

ارتبطت الابوذية.. ومنذ بواكير بروزها في القرن التاسع عشر.. كفن شعبي موشح بالشجن والألم والحزن.. ارتبطت بالمعاناة الإنسانية وبالهم الشعبي الموزع بين الفقر والظلم والمجتمع ألذكوري ومعاناة المرأة.. مع ما تقدمه تلك المرأة من جهد وأتعاب ومشاركة فاعلة في الزراعة ورعاية الماشية وتربية الأطفال. ومع الكثير من المنغصات.. التي تعايشت مع المظلومين والمحرومين في مجتمع تتناهبه الأفكار البالية والعادات المتردية وقيم التخلف والأمية والإقطاع وغيرها.. وهكذا كانت الابوذية.. رنين الشكوى.. وترانيم اللوعة.. وآهات الوجع.. وتراتيل الشجن الجنوبي.
الابوذية.. ورغم أنها من ألوان الأدب الشعبي الراقية.. لكنها تمتاز بقدرتها الفائقة على التعبير عن الهم الإنساني..وقد كان جنوب العراق وما زال.. مشحونا بطلاسم الابوذية وجناساتها المعبئة بالخزين الاجتماعي الذي تنخر في جرفه مجموعة من المفاهيم المتردية والبائسة..التخلف والأمية والتفاوت الاجتماعي والحرمان.. وسوء التغذية والأمراض وغيرها...
الحزن الجنوبي.. يشكل حاضنة تأوي إليها حسرات الشعراء وتطوف بكعبتها جناساتهم.. وتتمرغ في اتونها أنغامهم وترنيماتهم وأصواتهم العذبة ، وهكذا كانت الابوذية.. قد توحدت تحت خيمة جناساتها.. ترانيم الشجن.. وتعابير الأسى.. والحان الآهات.. وأنغام الأنين..
ها ناح الگلب ها نحب ها ون: الانين
ها ظعن الترف ها رحل ها ون: الى اين
ها گلبي عليه ها صار هاون: الهاون المعروف
ها يسحن صبر ها دوم ليه
ان فن الابوذية.. نشا وتطور في اهوار الجنوب.. اهوار الناصرية وريف البصرة والكوت ومنطقة الفرات الأوسط... وقد كان مرآة حقيقية لواقع مرير من المعاناة والحزن والكبت والحرمان والعبودية وضياع العدل الاجتماعي وعدم المساواة وهيمنة ثقافة الجهل والتفرد وطغيان سلطة المجتمع ألذكوري..
الدهر من يوم المفارگ شملنه: ادخلنا في حسابه
جفانه وچنه ما يدري شملنه: ماذا دهانا
المصايب شـــــتتن منه شملنه: من الشمل / الجمع
ابعزر بعض وبعض تحت الوطية
الابوذية نتاج شعبي عراقي خالص.. وهو من ألوان الأدب الشعبي كثيرة التداول في المجتمعات الأدبية والثقافية وحتى في الدواوين والمضايف.. فهو يحظى باهتمام خاص.. وله من المريدين والهواة الأعداد الكثيرة.. لانه يغازل شغاف القلب.. ويدخل النفوس لا بل يملكها.. وهو متاح للجميع يتناولونه بجلسات السمر وغيرها
ويتداولونها في ساعات الراحة والبطالة واللقاءات والتجمعات..
ابحسرتي تيهيت الغرب وشراك: الشرق
على الخده شبيه البدر وشراك: اشرق
رشفته ونازعت بالموت وشراك: من الشرك
طحت حولين بأشراف المنيه
إن الإبداع والفطرة والموهبة سمات أساسية في الشاعر الذي يتناول الابوذية وصياغة جناساتها..لان الجناسات تتشابه في المبنى وتختلف في المعنى... مما يجعلها في إطار السهل الممتنع..
ترف بهواك من مثلي وله دوم: من الوله.. العشق
بثناياها الخـلل بين والهدوم: الهدم
امل الفرس لو كبرت والهدوم: الملابس
شبصرك بردعه النامت عليه
ولان الشاعر محكوم بما يراه ويسمعه.. وملاصق للواقع بمعطياته وخصائصه... فهو لسان ناطق ومعبر عن هذا الواقع:
روحي والهوى ودنياي وعداي: العدى
الك وشلون اخف الجدم واعداي:من العدو/ المشي
صابر وانتظر لا وين وعداي:الوعد
بفرح لو دوم دانه يدگ عليه
وعادة ما يكون الشاعر مولعا بطرح همومه... والاسترسال في تبيان معاناته وصياغة جناساته.. والتواصل مع مشاعره وأحاسيسه.
ابوگفتي اعليه مني صـــار شكلاه: الشك
خزرني وبالدليل اسهام شكلاه: ادخل سهامه الى قلبه
ابد ما اشوف بارض السوگ شكلاه: صورة
ولا بالحور وارض الناصريه
ويأتي تسلسل هذا اللون من الأدب الشعبي.. بعد الدارمي.. في أهميته وكثرة تداوله في أوساط الناس من مختلف المشارب والطبقات..ولا فرق في ذلك بين الإنسان البسيط والمثقف ، الا في الفهم وسهولة التعامل والقدرة على التعاطي مع هذا اللون المتفرد من ألوان الأدب الشعبي.
وعادة ما ترى الدواوين وهي طافحة بما تختزنه ذاكرة الشجن.. وما يحفظونه من هذا النوع من الأدب.. والغالب في هذا الاهتمام والتداول ، هو هذا السيل من الحكم والأمثال والإشارات الجميلة المعبئة بالبلاغة وقوة الحبكة ومتانة الجناسات وروعتها. لكن الملفت للنظر ان الدواوين، وعندما تتعاطى مع الابوذية.. لا تنسبها لقائلها الا نادرا.. بل ان الشائع والمتعارف عليه ان الابوذية ملك للناس يتحدثون بها دون قيد او شرط.. ودون ان يعرف قائلها او الشاعر الذي نطق بها اول مرة.
يالماخذ مهجتي وانته بيها: الى اين بها / وين تبيها:مفردة بدوية
المحاسن نسل منك وانته بيها: انت ابو المحاسن
لا تحرج مهجتي وانته بيها: ساكن فيها
اخاف من اللهيب اتجيك اذية
الشجن الجنوبي.. والحزن المرافق لحياة الناس.. والملازم لهم في حلهم وترحالهم.. كان وما زال.. اليافطة التي قادت الشعراء لإنتاج هذا اللون المتميز من ألوان الأدب الشعبي.. والابوذية تسير مع الفلاحين في حقولهم وبساتينهم.. والكادحين في معاناتهم اليومية..
نحل جسمي وبگت روحي تعالي: تعالج
وهبطنا والنــذل بيها تعالى: ارتفع
يجاره الوكت ما انصف تعالي: تقربي
نخبط اهمومنا ونجسم سويه
ولا تخلوا ساعات النهار والليل من تكرار و اعادة لبعض ما قاله الشعراء في مناسبات متباينة.. مع ما كان ومازال يميز هذا اللون من خلجات الحزن وآهات الشجن ، ومع اشعاع الجناسات والمفردات..وما تضيفه من فضاءات ملونة... يترنم الشاعر بهاجس الشجن:
صرت مچمن والمشاكل علي ياون: تأوي
شعندك حيل تگصي وياي يــــاون: الأنين
صبحت حفنة شعير بچعب ياون: الجاون
ويدگ دهـــــري بمياجينه عليه
المغالاة في الوصف.. والمبالغة في تبيان المعاناة.. سر من اسرار الشعراء.. ولا يبخلون على مشاعرهم... بل يتواصلون مع الهم ويجترحون الجناسات المعبرة..
الدنيا ما لها صاحب ولا جار: الجار
ودهرك لا تون منه ولاجار: ولو جار
امشي وماطل الدنيا ولا جار: ولو جر
ولا راسك يدنچ للــــــردية
البدايات الاولى لنشأة الابوذية.. ليست غريبة على سكان الاهوار.. ومع المردي والغرافة.. ومع الزوارق وهي تشق طريقها وسط البردي والقصب والانهار والمسطحات المائية.. ومع المشحوف والغزل المكبوت.. كانت الابوذية تتردد في فضاءات لا يحجبها الا صوت الطيور والحيوانات التي تعيش مع الانسان.. وتشاركه في بيئته ومحيطه.. وتتواصل مع الانغام الملائكية التي تطلقها الطيور والتي كانت الملهم للانسان ليعبر عن همه ومشاعره واسقاطات الواقع عليه..
ثلاثة اخشوف وردن موح سدرن: صدرن
سته ازهن وسته فوگ سدرن: يتحدث الشاعر عن ستة نهود وستة سيقان لامعة
اومن لي ابسته وسته سدرن: الايماءات بستة ايدي / وهن وثلاث اواني لامعة
زهن بالسته والتسعين ليه: الابتسامة كانت متكاملة/ والأسنان مجموعها واضح.
يذكر ابن الجوزي..والذي كان منفيا في اهوار واسط سنة 1195هجري
.. انه سمع الموال في تلك البيئة.. بيئة الاهوار.. وكان الموال ينظمه الفلاحون بثلاثة اشطر يضعون له قفلا.. فيصبح قريبا جدا من الابوذية.. والتي تكتب بثلاثة جناسات متشابهه لفظا مختلفة معنى..
لكن الابوذية ظهرت بداياتها في اهوار الناصرية... او اهوار الجنوب.. وعمرها...كما يؤشر ذلك العديد من الباحثين.. لا يتجاوز المئة وخمسين عاما.. وقد كانت البدايات مع الشاعر المبدع (حسين العبادي). وهذا الشاعر من سوق الشيوخ.. هذه المدينة التي تقول الشعر على الفطرة.. وتتحدث به في مجالسها ودواوينها ومنتدياتها.. ولها رموز واعمدة مشهورة في هذا اللون المتميز من الوان الادب الشعبي.
حچت والدر تناثر من شفتها: الشفاه
سهيت وتاه عگلي من شفتها: من نظرت لها
(لاهي الحور لاهي النور)
(لاهي الطير فوگ وكور)
(لاهي النازلة من الحور)
ولاهي اللبسوها منشفتها: المنشفة
بلوه وغضب من رب البرية
وهذا شاعر آخر يحاول ان يضعنا في صورة الجمال والحسن التي يحاول ان يضفيها على حبيبته..
سهرنه ابليل هجرك وانته لاها: نلهو بذكر الهجر
ولفت آيات حسنك وانته لاها: من اللهو
مجيد الحسن عبدك وانته لاها: انت اله الحسن
امن ايدك تطلب الحور الحذية
يطول الحديث عن الابوذية.. لأنها لغة شعرية تستقطب أذهان المبدعين وهواة الأدب الشعبي.ومن نافلة القول ان يكون هذا اللون من الأدب الشعبي.. لغة الشجن.. والحزن.. والهم.. وفي الوقت نفسه، لغة الإبداع والتألق وسبك الجناسات.
وفي موقف يتذكره التاريخ... لشاعر مشهور وهو الحاج زاير الدويچ.. هناك بيت من الابوذية... والتي اشتهر بها هذا الشاعر المجيد.. وهو آخر ما نطق به حاج زاير.. ثم طوى كشحا عن الحياة.. حيث توسد الثرى.. وسط دهشة أقربائه وأصدقائه ومحبيه:
وحگ التين والزيتون والمن... المن والسلوى
اجروحي الطابن من اسنين والمن... عاد اليها الالم المبرح
السدر والچفن والكافور والمن... حضرت
ووي طرة الفجر تسرون بيه