سيناريو درامي :مقاتلون عند الفجر / د. ناهدة محمد علي

ولدت إمرأتان ذات يوم في منطقة شعبية ولدين، وكانتا قد تصادقتا وعاشتا جور الأزواج والعذابات سوية. أسمت الأولى ولدها "سفيان"، والأخرى أسمته "حسن". نشأ الصبيان مع بعض وأرضعت كل منهما ولد الأخرى ليصبحا أخوين. كانت العائلتان فقيرتين فلم يكمل الولدان دراسة الثانوية وإنخرطا في مسالك العمل المختلفة، وانتهى الأمر بحسن أن أصبح شرطياً في مركز شرطة الحي، أما سفيان فقد أصبح عامل بناء حيناً وأحياناً عاطلاً متجولاً وباحثاً عن عمل في طرقات بغداد.
المشهد الأول:
عمل حسن في مركز شرطة الحي وهو لم يتعود أن يحمل سلاحاً أو يضرب أحداً أو يلاحق المجرمين، فقد حصل أن شهد ذات يوم عملية ضرب أحد المساجين وتكرر هذا المشهد أمامه يومياً حتى أصبح معتاداً عليه. عاد ذات يوم إلى البيت وهو فرح وخائف وقائلاً لأمه لقد قمت لأول مرة بضرب أحد المجرمين الذي ضُبط وهو يقفز على جدار أحد البيوت، قالت أمه: ولِمَ ضربته؟ قال: لقد حاول الإفلات وأنا مسؤول عنه، سكتت الأم وهي ممتعضة ثم قالت: يا بني لا تؤذي الضعفاء، أنا متأكدة أنه فقير وجائع، أثار هذا الكلام غضب حسن فقال: نحن أيضاً فقراء يا أمي وهو مستحق لهذا.
ذات يوم هرع إليه زميله المناوب قائلاً: أحدهم مضرب عن الطعام وقد سقط مغشياً عليه، أظن أنه ممن "يعملون بالسياسة"، قال حسن: سأحمله إلى سيارة الإسعاف ولكن لا تنزع السلاسل من قدميه لئلا يهرب بعد أن يفيق. نظر حسن إلى وجه السجين وهو في داخل سيارة الإسعاف، كان أصفر ذابلاً وضعيفاً لا يستطيع الحركة، أحس حسن بالحزن عليه وبدأ يتمتم قائلاً "لماذا السياسة؟ الناس تريد تعيش وبس".
المشهد الثاني:
هرول سفيان إلى ناصية الشارع وقبل أن يصل لاحظ جمعاً غفيراً من الناس والكل في صراخ وبكاء، هرعت نحوه إحدى النساء مولولة "وين علي ما شفته"؟، قال لها: لقد وصلت الآن، كان الجميع خافضي الرؤوس وباحثين في تراب الأرض، وكانت هناك بقع كبيرة من الدم تترنح من حولهم، أحدهم وجد يداً فرفعها إلى الأعلى قائلاً وصارخاً هذه يده وهذا نعله، قالت إحدى الأمهات وهي تشم خصلة شعر، هذا شعره، إنه هنا وهذه قطع من قميصه، إنه هنا. أحس سفيان بالغثيان والدوار.
المشهد الثالث:
أخذ سفيان يتجول بين المحلات باحثاً عن عمل، الكل كان ينهره البعض بهدوء ولطف والآخر بصراخ وغضب. أحس سفيان أنه وحيد في هذه الأرض وذليل، لا أحد يرغب في تشغيله ولا مكان له في هذه الحياة وكادت السماء أمامه تنطبق على الأرض. جلس على قارعة الطريق وفكر طويلاً بالإنتحار، ثم فكر متسائلاً كيف سيعود لأمه وهي تنتظره وتنتظر أجرته لتدفع بها إيجار البيت، فكر وقال لن أعود ثم تخيل وجه أمه الحزين منتظرة إياه طويلاً ووجه أخواته الصغيرات وهن يقفلن باب المنزل بعد غروب الشمس خائفات. إشتهى خبز أمه الحار ولمستها الحانية على رأسه صباحاً. جرجر رجليه ومشى بإتجاه البيت قائلاً في نفسه غداً لا بد لي من العمل، سأبحث عنه وسأجده حتماً إن شاء الله.
بقي سفيان متجولاً لعدة أسابيع حتى تورمت قدماه من كثرة التجوال بين أصحاب المتاجر. قال لأمه ذات يوم بعد عودته لم تعد هناك رحمة، فالكل يصرخ بوجهي قائلاً:" إمش الله ينطيك"، وكأني أتسول منهم، ذهبت إلى سوق الحدادين فطلبوا مني المهارة وإتقان الصنعة وقالوا لي ليس لديك أية فرصة للعمل وأنت على هذه الحال ثم تساءل أين نذهب نحن يا أمي فأجابته أمه ليس أمامك إلا العمل في الجيش أو في الشرطة، غضب سفيان وقال أُفضل الموت على أن أكون معهم، إنهم يكرهوننا، أجابته أُمه ليس الجميع يا إبني إذهب إلى صديقك حسن وأطلب العمل معه في سلك الشرطة.
في مساء اليوم التالي ذهب سفيان إلى بيت حسن ففتحت له الباب أم حسن قائلة:" ليش تكطع يا وليدي ما ثُمر بيك حليبي"، أجاب سفيان ضاحكاً ليس الأمر كذلك يا خالتي ولكن الدنيا تدور بي فلا أجد عملاً أو مصلحة أعيش منها وأصرف على أُمي وأخواتي، قالت أم حسن لِمَ لا تعمل مع حسن؟ قال أين هو؟ قالت هو على سطح المنزل سأُناديه لك.
نزل حسن مسرعاً وإحتضن سفيان قائلاً أين أنت يا أخي، أجابه الآخر: لم يعد لي أمل في هذه الحياة ساعدني لأجد عملاً، أجابه حسن سأسأل مأمور المخفر علّه يساعدنا.
في بداية صباح اليوم التالي قدم حسن ملفاً لوثائق سفيان، وحينما قلبها المأمور قال لينتظر فهناك العديد من الراغبين في العمل، إمتعض حسن وشكا الأمر إلى زميله المناوب فقال له صاحبه: هناك العديد من أقرباء المأمور قد قدموا أوراقهم وهو طبعاً سيفضلهم على أولاد المساكين من أمثالنا.
المشهد الرابع:
خرج حسن من المركز غاضباً واحتار كيف سيخبر سفيان بالأمر ثم ذهب مباشرة إلى بيت سفيان. خرج الآخر إليه مسرعاً ونظر كل منهما إلى وجه الآخر، ثم قال سفيان: تعال أدخل لقد فهمت ما تريد أن تخبرني به، لا داعي لأن تقول شيئاً.
إستمر سفيان بالتجوال في شوارع بغداد على غير هدى، فلمح رجلاً أشعث طويل اللحية يراقبه من بعيد، فلم يبال بالأمر، وأحس سفيان بعدها بأن الرجل يتابعه. مشى سفيان طويلاً ثم إلتفت فجأة فوجد الرجل الأشعث متجهاً نحوه قائلاً إجلس لنتحدث، أجابه سفيان ما الأمر؟ هل أنت شرطي؟ لستُ سياسياً ولا إرهابياً بل أنا مجرد شاب عاطل، فضحك الآخر وقال: هذا ما أعرفه يا سفيان، تعجب الشاب قائلاً: كيف تعرف إسمي؟ قال الأشعث أنا أعرف عنك كل شيء. ماذا تقول لمن يعطيك عملاً كريم الأجر آخره الجنة، ضحك سفيان وقال: وأين هذا العمل؟ أهو في السماء أم في الأرض؟ قال الأشعث في الإثنين معاً، ثم قال: هل ترى ما أنت فيه وهل ترى وضع أخواتك في هذا الضياع، ألا تخشى عليهن من الجوع والفقر ومن صاحب البيت الذي قد ينتظر قليلاً ثم يرمي بأغراضكم إلى الشارع. هل ترى كل هذا؟ قال سفيان: أراه، فقال الأشعث: لنبدأ الآن، كل عملية تقوم بها أجرها "1000" دولار، بهت سفيان وقال ما نوع هذه العملية، قال الأشعث: تفجير مواقع الكفار والظالمين، أصاب سفيان الرعب وقال وهل سيُقتل الناس في هذه العملية أم سنقوم بتخويفهم؟ قال الأشعث: نعم سيقتلون "ولن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا"، هم أعداؤك أنظر إلى حالك، لن تجد عملاً بين الشيعة لأنك سني والكل يكرهك، فستموت جوعاً مع أمك وأخواتك. قال سفيان أأقتل أبناء شعبي؟ قال الآخر إنهم أعداؤك، لا تفكر بالأمر وإقبل عرضي، سيأتي اليوم الذي تُذبحون فيه ذبح الخراف.
عاد سفيان مسرعاً إلى البيت ومرتعداً من كلام هذا الرجل مردداً مع نفسه إنه مجنون ولا شك.
حينما حل المساء سمع سفيان طرقاً قوياً على الباب وحينما فتح الباب وجد أمامه العجوز صاحب البيت، دخل العجوز إلى داخل الدار وبعد أن جلس طلب قدحاً من الماء فجاءت أخت سفيان الكبيرة وقدمت للعجوز الماء لمح سفيان نظرات العجوز الخبيثة، قال سفيان خير إن شاء الله، أجابه العجوز لديكم ثلاثة أيام وسأرمي بأغراضكم في الشارع ، قال سفيان ولِمَ لا تنتظر قليلاً؟ قال صاحب الدار إنتظرت أسبوعاً كاملاً وسأنتظر أكثر في حالة واحدة، قال الشاب وما هي، قال العجوز أعطني أختك هذه لكي تخدم زوجتي أم أولادي، قال سفيان وإن رفضت، أجابه الرجل تكون قد جنيت على نفسك. خرج العجوز مسرعاً وغاضباً وبقي صوت الرجل الأشعث يتردد في أُذن سفيان "إنهم يكرهونكم ولن يكون لكم مكان في هذا البلد". أخذ سفيان يفكر بجدية بما قاله الأشعث ويطرد من مخيلته صور الموت والدم قائلاً في نفسه "العين بالعين والسن بالسن والبادي أظلم"، ومردداً أنجوع نحن ويغتنون هم؟
نام سفيان متقلباً حتى الصباح ومتسائلاً أأذهب للبحث عن عمل جزافاً أم أذهب للبحث عن الرجل الأشعث؟ خرج مسرعاً عند الصباح وتجول باحثاً عن ذلك الأشعث ثم تعب وجلس على ناصية الشارع، وإذا بجسم ثقيل يسقط بقربه قائلاً هل فكرت في الأمر يا أخي، نظر سفيان طويلاً إلى وجه الأشعث وأحس بكراهية له لكنه غالب نفسه وخرجت من فمه الحروف زاحفة، وقال: نعم قبلت، ضحك الرجل وأعطاه حزمة كبيرة وظرفاً فيه نقود، ثم وضّح قائلاً: هذه تضعها في شارع المحلات والأخرى في سوق الخضراوات عند الفجر، قال سفيان وإذا حاولوا الإمساك بي هل سأفجر نفسي. أجاب الرجل ضاحكاً وهل تظن أنهم إذا أمسكوا بك سيتركونك حياً، وفي كل الأحوال لك "الجنة".
في فجر صباح اليوم التالي خرج سفيان مسرعاً بدون أن يودع أمه كعادته وفي أثناء هذا خرج حسن باكراً إلى عمله وكان أمامه مأمورية التجوال في أسواق الحي، قاد سيارة الشرطة مع زميله وبدأ بتفقد منطقة المدارس ثم عرج بعدها إلى الجامع ليصلي الفجر ولمح من بعيد سفيان يخرج من الجامع مسرعاً. بعد أداء حسن لصلاة الفجر خرج من الجامع ليكمل دوريته وبدأ بشارع المحلات فلمح سفيان يتحرك مسرعاً ويضع صندوقاً صغيراً تحت أحد الجدران، تساءل حسن عما يفعله سفيان في هذا الوقت وفي هذا المكان. كان الشارع فارغاً في ساعات الفجر الأولى. إستمر حسن في جولته في المدينة وهو يفكر بما يفعله سفيان. طلعت الشمس أخيراً وخرج الناس إلى أعمالهم وإلى الأسواق، وإستمر حسن بتأديته لدوريته، وإستغرب حين رأى سفيان يجلس بين عربات الخضار ويضع صندوقاً مماثلاً لسابقه تحت العربات، تساءل حسن عن ما يفعله سفيان، إقترب حسن مسرعاً وقد لاحظ أن سفيان يحاول الإسراع بالخروج ولاحظ أيضاً أن صاحبه يرتدي قمصلة سميكة رغم الحر الشديد. صرخ حسن ما الذي تفعله هنا؟ فصرخ سفيان إبتعد بسرعة لا تقترب، إبتعد بسرعة، غضب حسن وقال: أقول لك ماذا تفعل، قال سفيان: قلت لك إبتعد لا تقترب مني ولا تلمسني، لكن حسن إقترب ووضع يده على قمصلة سفيان أثناء محاولته لإستدراج سفيان ومساءلته، أدرك حسن بخبرته أن سفيان يخفي تحت قمصلته شيئاً فحاول فتحها، لكن سفيان إبتعد غاضباً فأدرك حسن حينها أنه أمام أحد الإرهابيين، قال من بعيد لماذا يا أخي؟ لماذا؟ قال سفيان لإخر مرة أقول لك إبتعد وإلا، صرخ حسن لا لن أبتعد قبل أن أنزع هذا عنك، إنزعه الآن، دوّى في هذه الأثناء في المكان إنفجار هائل وترامت على مد البصر قطع الخضار مصبوغة باللون الأحمر وطار في الجو كفان متشابكان لم يعلم الجميع لمن هي ، لكن أم حسن ثم أم سفيان بعد وصولهما لمكان الحادث قد علمتا أنهما لحسن وسفيان ، وعلمنا نحن أيضاً بأن سفيان لم يشأ قتل أخيه لكنه فعل.