ادب وفن

اذا دخلت بيت هاتف الجنابي فستقبل قدميك العتبة / د . مؤيد عبد الستار

يعد الشاعر هاتف الجنابي، المقيم في بولندا منذ ثلاثة عقود، أحد أعمدة الثقافة المهاجرة ، فهو الذي شيد مجده الشعري والأدبي، لا كشاعر فقط، وإنما كوسيط بين الثقافة البولندية والعربية، من خلال ترجماته الكثيرة ودراساته في الأدبين العربي والبولندي، وقد قدم للثقافة العربية العديد من الشعراء والأدباء البولنديين خلال العقود الثلاثة الأخيرة، كما نشط في نشر قصائده في اللغتين البولندية والعربية، وساهم مع شعراء بولنديين في نشر العديد من دواوينه الشعرية، اضافة الى قصائده المترجمة في المجلات والصحف البولندية.
ويعد كتاب: إذا دخلت بيتنا فستقبل قدميك العتبة، آخر كتاب صدر له عن دار الروسم ببغداد عام 2014، وفيه رسم مجموعة من القصائد المعبرة عن واقع حياة كاتب يحلق بين روابي الوطن الاول العراق وربوع الوطن الثاني بولندا، من خلال أحاسيس غاية في العمق ومشاعر تقتطع اللحظة العابرة لتصبح بيتا داخل قصيدة.
تمتاز قصيدة، وأشعار هاتف على العموم بعمق الفكرة، وفلسفة الموضوع من خلال ادوات الشاعر الفكرية والثقافية المتعددة المشارب، فهو يتكئ على ثقافة مدينة عريقة في الأدب والفلسفة، مدينة النجف التي امتازت بدورها الريادي في الأدب والشعر واللغة والثقافة والنشر، إضافة إلى ثقافته البولندية التي تعمق في لغتها حتى اضحى احد رموز الثقافة يشار له بالبنان هناك، وتربع على موقع ثقافي رفيع المستوى، إذ شغل موقعا تدريسيا في جامعة وارشو.
عرفت الصديق هاتف الجنابي في الجزائر، أواسط الثمانينات، قدم إلى الجزائر من بولندا، وأنا قدمت من الهند الى الجزائر، لنتلقي في جامعة تيزي اوزو، نعمل سوية في تدريس مادة الأدب والنقد عام 1984، وغادر كلانا الجزائر عام 1988، عاد هو الى بولندا ثانية، ورحلت أنا الى ليبيا لاعمل في جامعة ناصر في طرابلس، وكان ذاك العام هو العام الذي افترقنا فيه، ولم نلتق فيما بعد سوى مرات قليلة سمحت فيها ظروف المهجر، وها نحن الان في بلدين جارين هو مازال في بولندا وانا استقر بي المقام في السويد.
عشنا في الجزائر معاناة المهاجر العراقي الذي يعمل جاهدا ليقدم ما لديه من ثقافة وادب الى ابناء شعب شقيق نعرف انه شعب المليون شهيد، ولكن ظلت عيوننا ترنو نحو العراق.. حتى اصبح الان ابعد مما كنا نظن.
استمر الشاعر هاتف يتحفني بما يصدر له من كتب، وها أنا اقلب في كتابه الاخير مـذ استلمته من البريد، أقرأ صفحة واصل إلى منتصف الكتاب لاعود من جديد من البداية، ربما استعيد الصفحات خشية الوصول الى نهاية الكتاب، فكأنني لا أريد أن أضعه جانبا... ورغم اني مازلت اعيد النظر في صفحاته وقصائده، الا انني قررت الكتابة عن شيء منه رغبة في تعريف القراء على صفحة من نتاج الشاعر الكبير هاتف الجنابي.
عنوان الكتاب يحيلك الى عشتار في دعوتها لجلجامش حين قالت له:
تعال يا جلجامش وكن عريسي الذي اخترت
اذا دخلت بيتنا فستقبل قدميك العتبة والدكة.
وهو الاقتباس الذي يضعه الشاعر هاتف في مقدمة قصيدته التي ساتناولها في هذا التعريف التمهيدي، قصيدة زيارات عراقية
"أسمال ملقاة في الطرقات
وأتربة تعلو الأشجار، كؤوس فارغة،
أحلام تعوي ليل نهار وكمثرى لاتدري
هل كافور فيها ام طعم الهجر ،...."
هذه اللمحة من القصيدة تقدم صورة غير نمطية عن رؤية الشاعر لبلاده التي زارها حتى انه يتساءل صادقا:
"أين الأنهار، جنائن آلهة خدعونا،
أين النقش على الاسوار وأين الابراج
أكان عليها ان تهوي فوق الجسد المصلوب؟
لم أدخل بيتا والدكةُ لم تلثم قدمي ولا العتبة...".
هذا هو الشاعر، في زياراته العراقية، لم يفلح في دخول العتبة... ولم تقبل قدمه، كما ادعت عشتار.
في قصيدته هذه المختارة من كتابه المذكور ، يرسم الشاعر آفاق الاحلام المنكسرة على عتبة البلاد ..
بلاد لم تنهض من كبوتها رغم الاف مؤلفة من الجنود - العلوج - الذين هبوا لنجدة بلاد الزيارات والأنهار.
أما في زيارته الخاطفة تحت عنوان فرعي: نون فاء نقرأ
"كثر الرمل ُ حتى تخلت يدي عن ازاحته من حذاء اللغة
قلت يا لغتي مـت من أجل إحياء روحـك
........
هل رأيـت بمقبرة العمر ورودا
زرعتُ وماء ً سكبتُ على صدرها"؟
وماذا بعد.. ماذا رأى الشاعر وماذا زار في زياراته العراقية؟
"في زيارتي المبتغاة الى النجف
زرت مرقد والدتي والامام
ولكنني
قد بكيت على وطني......".
ما الذي يستطيع شاعر يزور مدينته في هذه النكبة غير أن يقف على الأطلال ويذرف دمعة حرى....!!
تمتاز قصائد هاتف الجنابي بعمق الفكرة وقوة العبارة التي تجدها صلبة النواة متماسكة لا تستطيع نقلها من معناها الى معنى اخر تريد خلقه أو تخيله أو رسمه، إضافة إلى اقتصاده بالكلمات التي تأسر القصيدة وتفرض حدود الحكمة التي تختارها دون قيود مباشرة على المتلقي، لذلك فهي لا تفقد أبعادها الفنية والفكرية عند ترجمتها إلى لغة أخرى، وهو ما جعلها تنتشر وتجد مكانا تحت شمس الثقافة البولندية أيضا.