السيميائية الحلمية في "تراتيل العكاز الاخير" / علوان السلمان

القصة القصيرة تعبير عن الواقع المتداخل مع الخيال لتشكيل موقف مؤطر بصورة ايحائية محققة لوظيفتها الجمالية، كون العملية الابداعية باختلاف أشكالها وتباين مضامينها هي عملية فنية تسجل انسانية المنتج "المبدع"، لذا قيل "ان تكتب تعبيرا عن نفسك بصدق فهذا شيء عظيم.. أما أن تكتب عن الناس بصدق فهذه هي العظمة بعينها..".. لأنه يكشف عن أدق الدلالات النفسية والعلاقات الاجتماعية ويمنحها لمستهلكها بنسيج فني مستلهما الوقائع والاحداث التي يقتنصها فيستنطقها ويخرجها من دائرة الحدث الطبيعية الى عوالم شمولية انسانية باعتماد التكنيك الفني المحرك للذاكرة ما بين "الزمان والمكان بكل أشكاله "المغلق/ المفتوح/ العتبة..." وحركة الشخوص والحوار بشقيه الذاتي "الداخلي" والموضوعي "الخارجي".. للكشف عن ما يدور بدواخلها لتحقيق وظيفة جمالية بتحريك الواقع وتفجيره..
و"تراتيل.. العكاز الأخير" المجموعة القصصية التي نسجت عوالمها أنامل القاص والروائي محمد علوان جبر تتجاوز المألوف وتتوغل في المعنى بتركيزها على الهم الاجتماعي كمحرك فاعل ومؤثر في الواقع الاجتماعي داخل بنية النص والذي يحدد الوعي الاجتماعي.. ابتداء من العنوان المستل من أحد نصوصها والمحلق في عوالم الحلم المعبرة عن سيميائية تمارس التدليل وتحقق وظيفة "وصفية ودلالية واغرائية وتعيينية" عبر مقطعه النصي المركب من ثلاث فونيمات شكلت لحظة التضاد بصريا ودلاليا ومنحت النص هويته التي تسهم في استقراء بنياته وتحديد مقاصده..
دون أن أنتظر الصباح.. لأني قررت سيدتي ان أعيد اليك طرف زوجك..
بعد أن انهى كلامه ساد بيننا سكون لم يقطعه سوى صوت تنفسه.. احسست انه يتنفس بعمق وسرعة.. وقبل ان يواصل الكلام قاطعته بلهجة هي مزيج من القسوة والحنان.. لهجة آمرة فيها الكثير من الود الذي دهمني وأنا اشم الرائحة الغريبة تهيمن على حواسي مرة أخرى..
وما الضير في ان يقودك الطرف كل يوم الى بيتي؟
نهضت من مكاني وانا اساعده على ارتداء الطرف.. ترك العكاز في مكان جلوسه.. ولا أعلم هل سمعني وانا اعيد عليه عبارتي..
"ما الضير في ان يقودك الطرف الى بيتي كل يوم"..
لأنه سرعان ما فتح الباب واختفى في الظلام.
فالقاص يثري نصه بتنويع الضمائر وهو يتنقل من "ضمير المتكلم الى ضمير الغائب والمخاطب.." عبر جدلية الالتفات السردي وقوة الانتقال وتغير المنظورات.. لذا فالمشهد السردي عنده يتشكل من خلال تداعي الزمن في الذاكرة التي تستدعي الماضي وتستحضر قيمه ورؤاه واحداثه حتى يصير بؤرة النص ومرتكزه الذي يبدأ من مستوى الوعي ويغوص داخل مستوى اللاوعي ليكشف عن الوهم الذي يتحرك والواقع التاريخي فيسجل تفاصيل الحياة ويتعامل مع العادي لينسج همه.. وعلى الرغم من ذلك فانه لا يتجرد من دفئه ولحظته المشبعة برائحة الحياة من أجل الكشف عن الانموذج الانساني المنبثق من واقع التشظي كوحدة متكاملة في العمل الفني..
"اشعلنا سيكارتين.. ساد صمت بيننا لم يقطعه الا صرير ريح بدأت تتصاعد بهدوء وهي تضرب وجهينا.. طلبت من النادل ان يجلب لنا قدحين من الشاي.. اقترب مني النادل وهو يحمل قدحا واحدا.. وحينما قلت له اجلب قدحا اخرا له..
لمن سيدي...؟
قلت له وانا اشير اليه..
له.. سأدفع أنا..
هز النادل رأسه وانشغل بتنظيف الطاولات الخشبية ورص الكراسي الفارغة في زاوية.. وبعد أن غاب قليلا عاد الي وهو يحمل قدحا.. وضعه على الطاولة دون ان يتكلم..قدمت قدح الشاي اليه .. ولم ينتبه لكنه قال بما يشبه الهذيان..
ما نبحث عنه هو البداية.. اجل نحن نستكشف ساحات تبدو لنا اننا نعرفها اول مرة "كان يشير الى ساحة الميدان" ويردد ما قاله لمرات..".
فالنص يكشف عن مجموعة من التداعيات التي تتوظف بقصدية لتعطي بعض التفسيرات المتسلطة على ذهنه حتى ان النص يصبح قطعة من حياة متحركة لا تعرف السكون بمشاهدها التي تكشف عن وعي سردي يعتمد التكثيف والاختزال في الشخصيات والاحداث والزمكانية وهو يدور حول حدث ينمو ويتصاعد ويتناسل الى عدة احداث بسرعة في اتجاه واحد ضمن حبكة مركزة توفر الفكرة في تتابع جمالي مطرد وهي مكتنزة بالشعرية الممتدة على جسدها كي تحقق الحالة الشعورية..
"ـ انها الليلة التي تسبق اكتمال القمر..
لكني امعنت في الصمت الذي هيمن على المدى وجعلني أدير رأسي ناحية النافذة.. ربما لأبحث عن قمر أو أي شيء له علاقة بالسماء التي ابتعدت وبدت معتمة بلا نجوم او ضوء موهما نفسي أن الطفل لا يعيش احراجا مرضيا غريبا وأنا أدخل المستشفى.. أنقل نظراتي في الوجوه التي تتحول ببطء غريب الى اجزاء من مكونات الردهة العملاقة...
انه يعيش غيبوبة..
قال الطبيب: لم أفهم العبارة كما قالها لكني فهمتها بشكل آخر.. فالأطفال حينما لا يستطيعون التنفس الا من قنينة الأوكسجين الصدئة التي يتناوب حملها العمال في آخر الليل.. يعيشون ألما مفرطا.. أجل انها ليست مجرد قنينة أوكسجين بل هي الخيط الذي يربطهم بالحياة .. فهم يدخلون متعرجات الصمت.. يصمتون فيما هم ينشغلون في امتصاص الحياة من القنينة الصدئة.. ابعدت فكرة الغيبوبة التي حاول الطبيب ان يشرحها بشكل اخر وبطريقة أخرى وهو يراقب المكان الذي يرقد فيه الطفل.. لكني لم أترك له فسحة لأن يشرح..".
فالنص يعتمد الجملة السردية البسيطة في وظائفها الحكائية والمتميزة بخاصية الحركة وسمة التوتر الناتج عن تغلب الجملة الفعلية وانتشارها بين ثنايا السرد وبداياته.. فضلا عن انه يمتاز بدقة التشخيص وتوظيف الرمز الدال بلغة موحية مكتنزة بحيوية افعالها ومجازية صورها وقوة تراكيبها المكتظة بالاستعارات والتشبيهات والكنايات.. فهو يوظف الفعل المضارع للدلالة على استمرارية الحدث... واستدعاء الماضي للكشف عن جذور الازمة وخلق صور مكتنزة مفعمة بالتوتر الدرامي والدينامية السردية القائمة على صراع التضادات واعتماد بنية شكلية لخطابه بتوافر الشخصية والحدث والزمكانية مع ارتكاز على التكثيف الذي يحدد بنية النص وفاعليته المؤثرة بأسلوب يعتمد الاقتضاب ويتجنب الوصف الاستطرادي مع التجاوز الى ما هو مجازي.. اضافة الى انه يوظف عنصر الاستقراء منطلقا من الجزء الى الكل كي يباغت المستهلك "المتلقي"..
وبذلك كانت "تراتيل العكاز الأخير" تجربة تنطوي على هواجس معبرة عن مكنونات الحدث ومستجيبة لمعطيات الواقع باستقرائها نبض الحياة وتفجيره دلالة وايحاء.. فضلا عن انسنته المجرد من الجماد وتحويله الى قناع رمزي قائم على التشخيص الاستعاري والمفارقة الموحية التي تحمل بين طياتها السردية دلالات انسانية تسهم في تحقيق فكرة معمقة من جهة وتحريك الذاكرة لتحقيق المنفعة والمتعة من جهة أخرى..
"سيدتي انا ادير مقهى صغيرا هناك.. وأشارالى ناحية مكان ما .. مقهى صغيرا تحت ظلال شجرة سدر عملاقة.. تماما تحت اليافطة التي كانت تحمل اسم المكان الذي كنا نستلم منه اطرافنا الاصطناعية.. نكوم السيقان والاذرع الصناعية تحت الشجرة.. نعرضها تحت الضوء.. نجلس حولها نحدثها وتحدثنا.. ربما كان بعضنا يسمع البعض الآخر.. أقول ربما.. لا تستغربي ولا تقولي انني مجنون..".