ادب وفن

في ذكرى «خليل المياح» / جاسم العايف

عُرف المناضل والكاتب والباحث "خليل المياح"، الذي توفي ليلة 15 /3 /2011، بمزاوجته للكتابة الفلسفية والسياسية والأدبية، وترافق مع هذه الاهتمامات عمله السياسي- النضالي منذ منتصف خمسينات القرن المنصرم عندما كان طالباً في مرحلة الدراسة الإعدادية بالبصرة، وساهم في كل النشاطات العلنية والسرية للحزب الشيوعي العراقي في البصرة. وقد دفعه العصف الدموي بعد انقلاب 8 شباط عام 1963 إلى الهروب نحو إيران برفقة زوجته وابنته الرضيعة، إلا انه وقع في كمين قادهم إلى معسكر العراقيين الهاربين، والذين تم تسليمهم إلى السلطات العراقية بعد انقلاب 18 تشرين 1963، وحكم عليه بالسجن ثلاث سنوات.
نشر "المياح" كتاباته في الصحف العراقية بعد منتصف الستينات، وساهم بداية السبعينات مع "جماعة 12 قصة بصرية" في حلقتها الثانية، وخلال الحملة الشرسة التي قادها النظام المنهار ضد القوى الديمقراطية توقف عن النشر ، وساهم "المياح" في انتفاضة 2 آذار 1991 في الشطرة، وتخلص من الاعتقال، بعد وأد الانتفاضة، بصعوبة بالغة.
بعد سقوط النظام الدكتاتوري عاود النشر في صحف طريق الشعب والصباح والمنارة والأخبار ومجلتي الأسبوعية والشرارة، وعمل محرراً في صحيفة القاسم المشترك، ونشر مقالاته في صحيفة "الحوار المتمدن" الالكترونية، وعنها تمت إعادة نشرها في صحف الحزب الشيوعي السوري والأردني والسوداني واللبناني والأهالي المصرية، كما أعاد علاقته بالحزب الشيوعي العراقي، وأصبح عضواً في محلية الحزب في قضاء الشطرة. وساهم ببحث في كتاب "الأدب والفنون الأخرى" الذي أصدره "اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين في البصرة" عام 2007. وله مخطوطات عدة لم يقيض له نشرها منها رواية ومجموعة قصص قصيرة ودراسات سيسو- ثقافية، وساهم في تأسيس منتدى الشطرة الإبداعي وكذلك البيت الثقافي في الشطرة. أصدر "المياح"، قبل رحيله، كتابه "استقلالية العقل أم إستقالته؟!" - دار الينابيع - دمشق. ضم الكتاب خمسة عشر مقالاً متنوعاً، وغالبية هذه المقالات محاولة لفهم جوهر المعنى الفلسفي، أي تبيان الطبيعة، تلك الطبيعة التي فصلتها الميتافيزيقيا عن الإنسان وسعت بذلك لتزييفها.
يؤكد الكاتب "المياح" في مقدمة الكتاب "بأن في المنطق الكلاسيكي ثمة ما يسمى بالثالث المرفوع أي "الممنوع" ضمن تساؤلات عن الروح هل هي حلو أم مر؟ أخضر أم لا ؟". مقالات الكتاب محاولة للبرهنة الدلالية على إن الثالث كمبدأ هيجلي موجود كون إن "كانتْ" كان يخفض العلم ليشق الطريق للإيمان بينما "هيجل" جاء ليؤكد معرفة "الشيء في ذاته"، ويحيل المياح في كتابه إلى المفكر "جورج لوكاتش" الذي اعتبر انه: "لا توجد عوامل خارجية عن النمو التاريخي". وما حدده "هنري لوفيفر" في رؤيته للمطلق بأنه قناع يبرر به الإنسان استثمار غيره من البشر. حاول "المياح" في أغلب مقالات كتابه البحث والتنقيب في المقولات الماركسية الكلاسيكية وسعى بجهد معرفي واضح على المزاوجة بينها وبين الحداثة، التي هي سمة عصرنا الحالي. وفي محاولة منه لقراءة الأطروحات السياسية- الدينية الراهنة لغرض تفكيك بنية خطابها الديني - المذهبي ،في هذه المرحلة التي تشهد صعوداً غير مسبوق للهويات الدينية الفرعية والراديكالية بالذات. يتابع الكاتب" خليل المياح"، في كتابه، طروحات بعض الكتاب المتأسلمين وخاصة المتزمتين في كل الطوائف، والتي تعج بهم وبطروحاتهم الساحة الثقافية- السياسية، العربية حالياً، و يَطلقْ عليهم "الارثذوكسين الجدد والقدامى" ويؤكد إن منطقهم ما هو إلا نتيجة منطقية عبر تبرير المقولات الدينية- المتوارثة التي تذهب إلى عدم فهم زمكانية النص وأنهم بهذا يسهمون باختراق القوانين الوطنية- العالمية والعمل على وفق غائية سياسية الهدف منها فرض رؤاهم وتصوراتهم بطريقة تجعلهم يصطفون مع الإرهاب العالمي خاصة إنهم يرون أن لا ضرورة تدفع بنا لقراءة الفلسفة طالما كانت تعبر عن "ابستيمولوجيا غربية" ويتابع غالبية توجهاتهم الفكرية التي ترى وتؤكد إننا نمتلك فلسفتنا الخاصة تلك التي نطق بها كل من: الفارابي وابن سينا والكندي وابن رشد، وبعد استقصاء عميق يؤكد إن "هؤلاء الأفذاذ من العرب والمسلمين كلهم قد تأثروا بشكل أو بآخر بـ "أفلاطون" و بـ "أرسطو" حتى إن مفردة "المشائين" كانت سائدة بينهم، مستثنياً من ذلك الكندي الذي كانت له منطلقاته العربية الخالصة. نرى إن التراث الذي يقدسه السلفيون، ليس قيمة بذاته، إلا بقدر ما يعطي من رؤية علمية في تفسير الواقع ،خاصة في عصرنا الراهن، و الذي يتميز بسيادة "الرأسمالية المتوحشة" وعولمتها التي تريد المساواة بين الذئاب وفرائسها. ان التعرف على الظاهرة الدينية أمر متعذر إذا أهملنا مناهج التاريخ المقارن للأديان كون إن الإيمان تركيبية نفسية، وجذرها منعكسات اجتماعية تاريخية، ومن هنا فان الازدراء غير وارد في دراسات "المياح" لهذه المسألة، بل المواجهة من خلال "ارخنة" كل ما نُزعت عنه تاريخيته وجرى ربطه تعسفاً بالمقدس أو المتعالي وتم تناسي جذوره ومحايثاته الواقعية بتعمد وتزوير، من قبل الكتاب والمنظرين السياسيين- المتأسلمين، حيث إن عصرنا يميل إلى رفض الثقافة القديمة التي تميل إلى التعلق بأهداب المعجز والعجيب والمدهش من الأفعال من قبيل "إيقاف الشمس عن مسارها بإشارة ما"، كما لا يمكن ولا ينبغي اختزال الأديان إلى أطروحة في العدالة فقط، لأننا نطمح لحل اشكلة القيم التي توارثناها بهدف تجاوزها بعد أن نقوم بتفكيكها ونقدها لان نظريات العودة للتأصيل اللاهوتي والسكولائي ذات النهج الروحي المنغلق اجتماعياً ستتحول إلى أوهام سخية لا نفع منها، وهي لن تهبنا في أحسن الأحوال سوى الرغبات الضائعة عن عدالة هلامية رسمت ملامحها البدوية في زمن محددٍ وواقعٍ متعينٍ. وفي بحثه المعنون "الضغينة المكبوتة والكراهية للقيم" يتابع الكّتاب والسياسيون الذين يعمدون إلى مهاجمة اليسار العراقي، الحزب الشيوعي العراقي تحديداً، للنيل من تاريخه، ذاهبين في تحليلاتهم إلى إنه ،لم يطرح السؤال النظري عن "ماهيته الذاتية" وماهية الهموم الثقافية- السياسية الآنية التي تواجه الواقع العراقي، وكذلك ماهية المهمات التاريخية الكبرى التي تعذبه والمهمات الفعلية التي يسعى لتنفيذها، وأنه نكص عن ايدولوجيا المستقبل مع اتهامه بالتخلي شبه التام عن المعاصرة واشكالياتها الفعلية. "المياح" يرى بما: "إن الجمل الاشتراكي قد كبا فأن السكاكين عليه قد كثرت"، دون أن يبحث في العوامل الموضوعية الداخلية والخارجية التي أدت إلى تلك "الكبوة" والتي أطاحت بأحلام وآمال ملايين البشر في هذا العالم؟!
لكننا نرى بأن الصراع لا يمكن أن ينتهي حسب ما طرحه "فوكوياما"، ولا صدام الحضارات سيؤول كما تنبأ به "هنتنغتون". وفي قراءته لكتاب سعاد خيري"وحدة وصراع النقيضين" يذهب إلى إن الباحثة تغري في دراستها بالعودة مجدداً إلى الأصول الماركسية وكذلك العودة إلى تأصيل جديد ومنفتح للمقولات الفكرية والمفاهيم الماركسية المتنوعة، كي يصار إلى استنتاجات تتناسب مع التفوق والتقدم العلمي الجديد لمواجهة التوجه المتوحش الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، بعد التداعي الذي حصل في كيان المعسكر الاشتراكي وتفكك الاتحاد السوفيتي والتدهور والنكوص والتخلي الأيديولوجي الذي أعقب ذلك الزلزال، مع بروز العولمة التي هي ليست بالضرورة ظاهرة رأسمالية فقط ، لأنها ليست تعبيراً عن نمط معين في تطور علاقات الإنتاج، بقدر ما هي مرحلة عليا من تطور قوى الإنتاج، فالعولمة هي النسيج أو البنية الفوقية لقوى الإنتاج العالمية التي خرجت من شرنقتها المحلية وشبكاتها الوطنية، وهي:"وصول نمط الإنتاج الرأسمالي إلى نقطة الانتقال من عالمية دائرة التبادل والتوزيع والسوق والتجارة والتداول، إلى عالمية دائرة الإنتاج وإعادة إنتاج ذاتها، أي إن ظاهرة العولمة هي بداية عولمة إنتاج للرأسمال الإنتاجي وقوى الإنتاج الرأسمالية وبالتالي علاقات الإنتاج الرأسمالية أيضاً، ونشرها في كل مكان مناسب وملائم خارج مجتمعات المركز الأصلي ودوله"- د. صادق جلال العظم. إن للعولمة مدلولين، الأول جمع الناس في وحدة بشرية حضارية - مدنية، والثاني المتوحش الذي يسعى لتذويب العالم وصهر البشر لصبهم في قالبٍ نفعيٍ واستغلالٍ فظٍ واحد. "أن الحركة "المدومة" للعولمة، تخلق، رغم نشرها للعلم والتكنولوجيا، حالة من انعدام اليقين تذكي النزعات الصوفية والغيبية مثل بروز الدين بقوة في البلدان المتقدمة والمتوسطة والمتخلفة"، د. فالح عبد الجبار "ما بعد ماركس" - ويستثني د. عبد الجبار أوربا الغربية من ذلك. وفي ختام كتاب الراحل "خليل المياح" ثمة بحث مطول يحمل تساؤلاً عن "هاملت وهل كان رواقيا"؟. وفيه يحلل الكاتب شخصية هاملت لشكسبير، على ضوء المذهب الفلسفي الرواقي. ويرى إن "شكسبير" الذي لم تفارقه مخيلة أو رؤى "بلوتارك" يجوس ما يتناسب مع ذائقته الشعرية العظيمة ،وقد تمثل "شكسبير" الذي كان يريد إن يحلق بنا من تخوم "القضاء والقدر" إلى عوالم "الوعي والحرية" غير إن المفاهيم اللاهوتية ومصادراتها كانت تقف في دربه سداً وتعويقاً، و"شكسبير" حاول أن يتجنب الريب الديني الذي قد يسعى لأن يدمغ العمل كله وصاحبه معه بالهرطقة والعطالة الفكرية، تلك العطالة التي تذهب لاعتماد التعسف والإكراه من خلال التحالف بين الجبروت الكهنوتي الكنائسي المتحالف وقتها مع الإقطاع الملكي للدفاع عن شبكة المصالح التي توحد بينهما. نرى إن توجهات الفلسفة الرواقية، وبموجب الموسوعات الفلسفية المتعددة التي تشخص "الرواقية" بأنها انتشرت في إطار الثقافة اليونانية في القرن الرابع قبل الميلاد تحت تأثير الرؤى التي تدعو إلى المواطنة العالمية مع الحفاظ على النزعة الفردية، والاحتفاء بملذات الحياة، فقد هيمن التصور الرواقي على امتداد العصور القديمة، وهي لا تنسجم مع ما كان يراه ويسعى إليه "هاملت" الذي كان يعيش التناقض بين "الفكر والعمل" كما يذكر ذلك الراحل جبرا إبراهيم جبرا في مقدمة ترجمته العربية للعمل. ومع تعدد الرؤى في هذا الأمر، يبقى ما تابعه الراحل "المياح" حول "هاملت" جدياً مع التحفظ على اعتبار "هاملت" رواقياً ،خاصة وان الكاتب قد طرح بحثه بصيغة استفهامية وليست يقينية جامدة. ونلاحظ إن الكاتب "خليل المياح" كان واضحاً وأميناً على مقترباته الفكرية وإنه لم يحاول إخفاء مرجعياته، إذ تطرق في مقدمة كتابه إلى ذلك، موضحاً إن ثمة حبائس معرفية وعتمات تطرقت إليها مقالاته ومقارباته الفكرية مستفيدة من رؤية ومنهج وإمكانات البحث الذي تميز به وأرساه المفكر "محمد اركون" وتمت مزاوجتها بالرؤية المادية للتاريخ عبر منابعها الماركسية - الأصلية، وبالتصور السيميائي الدلالي، مع رفض كينونة اللغة بصفتها وعاء العالم الأول، لأن البدء كان للفعل الانطولوجي.