الفن وإختراع الكتابة والقراءة / ساطع هاشم

ورد في إحدى الاحصائيات الدولية التي أحدثت ضجة في العالم العربي سنة 2002 والمتعلقة بإستهلاك الورق وطباعة الكتب، أن الدول العربية العشرين مجتمعة لاتستهلك سوى واحد بالمئة من الانتاج العالمي للورق، وقد أدى ذلك الى هيجان جماهير القراءة والكتابة والمؤلفين ضد هذه الفضيحة الشنيعة.
و تساْلوا بغضب : متى سيبدأ العرب بالقراءة والكتابة ومتى سيدخل الكتاب بيوت الناس لا كضيف بل كواحد من أهل الدار ؟ وقد بدا أنذاك بأن غالبية المحتجين نسوا أو تناسوا، بأن من بين ستة مليارات إنسان يعيشون في هذه الارض، فإن ثمانية وتسعين بالمئة من سكان العالم (ولحسن الحظ) ليسوا عربا ، أذن فما الداعي للإحتجاج ؟ أليس ذلك أمرا طبيعيا عندما ينتكس التاريخ والتقدم والحضارة ويحكم دولنا القمع المؤلم والوحشي لإنظمة جائرة على مدى ستين سنة أو أكثر ؟
خلال زمن الإستعمار الإوربي للعالم في القرن التاسع عشر، قام العديد من المستكشفين الإوربيين بمهام عديدة ومتنوعة في الإقاليم والقارات المستعمرة، من بينها إحصاء عدد اللغات التي يتكلم بها سكان العالم، وفي أواخر ذلك القرن كانت النتيجة زهاء ثمانية ألاف لغة لعدد هائل من القبائل والاقوام والقوميات، والغالبية العظمى من الناطقين بتلك اللغات كانوا أميين لايجيدون الكتابة والقراءة بل أن الكثير من تلك اللغات لم يكن لها أبجدية أصلا، وهذا دليل كما يقول الباحثون على أن اللغة المنطوقة أو المحكية هي أساس الإتصال الإجتماعي ورواية التاريخ، أما اللغة المكتوبة والمقروءة فهي عوامل حضارية مبتكرة للضرورات الإقتصادية والمهنية ولاحقا للإتصالات والتدوين وغيرها. والإحصائيات الحالية تقول بأن ربع تلك اللغات قد أختفت وعدد اللغات المسجلة لدى اليونسكو الآن أقل من ستة الاف لغة كتابة وقراءة.
وهذا يدل على أن أي الكتابة ليست متأصلة في طبيعة الدماغ مثل القابلية على النطق والكلام اللذين لهما جهاز خاص وخلايا في الدماغ وتولد مع الانسان وتنشأ بالتدريج وتتقوى بالتدريب وتموت معه، أما الكتابة والقراءة فهما وسيلتا عمل إخترعها العقل البشري عندما إكتمل بناؤه العضوي والتشريحي كإنسان، لتكون امتدادا للدماغ والعقل في تنظيم الحياة البشرية المشتركة بشكل أفضل مثلها مثل العجلة والمغزل والمحراث وماشابه، يعني إنها ليست غريزة طبيعية ناتجة عن تراكيب بايولوجية في الدماغ والجسد ، تولد معنا وتموت معنا.
إن تمكن الإنسان من تحويل اللغة المنطوقة الى رموز أبجدية قد أحدث بلا أدنى شك ثورة هائلة في العقل البشري، لكن ذلك لا يعني تحولها الى غريزة طبيعية مثل القابلية على النطق او الكلام، وربما تكون الكتابة والقراءة قد إنغرستا في أعماق النفس البشرية بالمجتمعات المتطورة فقط أو المجتمعات المتقدمة كما يحاجج بعض المؤرخين الغربيين وعلماء الاجتماع، نظرا للحاجات والأغراض العملية المادية التي تقومان بها ، لكنها بالتأكيد غير متأصلة بعد في طبيعتنا البايولوجية، كما الكلام ، فهما من ضرورات حياتنا اليومية ووسائل إتصالنا وسط أمواج الكون اللامتناهي .
والعنصر الاساسي الذي ساعد على ظهور الإبجديات هو الإدراك البصري للعالم، كما تطور لاحقا في ما يعرف حاليا بعالم الفنون التشكيلية كالرسم والنحت والمعمار والفخار وغيرها ، وغالبا ماينظر الى الفنون القديمة على كونها شكلا من أشكال الكتابة، والسبب هو أن الكتابة بدأت عندما رسم الانسان ما أراد قوله، وقد وصل هذا الأمر ذروته في الإختصار والتجريد خلال فترة الكتابة الأولى التي تعرف في علم الإثار بمرحلة الكتابة الصورية والتي تعتبر بداية للتدوين ودخول الانسان الى العصور التاريخية، وقد إنتشرت في العراق القديم أولا مع العصر البرونزي في حدود سنة 3500 قبل الميلاد، ثم في مصر القديمة وبقية الممالك
هذه الفنون البصرية تتأثر بسرعة بكل تغيير ميكانيكي أو ديناميكي يحدث بالفضاء الإنساني. والفنانون التشكيليون عموما (تاريخيا على الإقل) وقبل أن يبدأ الإنفصال التدريجي بين الفن والعلم مع بداية الثورة الصناعية قبل قرنين من الزمان، ساهموا في خلق ليس الكتابة فقط وإنما العلوم المختلفة أيضا التي نعرفها الآن بإسماء كالكيمياء والفيزياء والهندسة والبناء تحديدا أكثر من بقية العوالم المعرفية الأخرى.
من الناحية البايولوجية، فإن الإنسان وحياته وتاريخه محكوم بعالم الطبيعة وقوانينها الأزلية ، فالليل والنهار، العتمة والنور مثلا، وتعاقبهما يحددان قدرات الإنسان على العمل والراحة ، ويشكلان السبب الموجب لتنظيم كل نشاط عملي وجهد ذهني ، وهما مصدران أساسيان من مصادر التفكير المجرد للعلاقة بينه وبين الكون الأوسع الذي يعيش فيه وأساس فكرة الزمن في إدمغتنا.
هذا التفكير المجرد يتجسد في الأسئلة الروحية والنفسية والفلسفية والعلمية التي حاول الإنسان ومنذ الأزل الإجابة عليها ، وخلق مرادف بصري ملموس إليهما عن طريق الرسم والنحت والمعمار، وطقوس الرقص والغناء والموسيقى، والشعر والأدب وعموم النشاطات الإبداعية التي نطلق عليها في زماننا اليوم مصطلح عام هو الفنون الجميلة.
ففي الزمن القديم الذي يطلق عليه علماء الجيولوجيا والأنتروبيولوجيا مصطلح العصر الحجري القديم (الباليوثي) والوسيط (ميسوليثي) حيث عاش فيه الإنسان كصياد أو متطفل على الطبيعة كما يصفه الاقتصاديون، ولم يتوصل بعد الى إكتشاف الزراعة والإستقرار بالمدن، كان فنه مشبعا بالتشبيه الواقعي والمبالغ فيه للاشياء، وعندما تحول الى فلاح مزارع وأخترع المحراث وبناء المدن وبيوت العبادة الدينية وأحاطها بالإسوار، أضاف الى واقعيته الرمز والتجريد كما قد تجسد ذلك في الزخارف الهندسية والنباتية والحيوانية التي تركها في الإواني الفخارية والطينية وفي الكتابة لاحقا على الخصوص، فالطبيعة الإقتصادية والإجتماعية الجديدة ومواد البناء ووسائله قد فرض على خيال الانسان /الفنان التحول الى مسار أخر، وإكتشاف جديد داخل رؤاه ومعارفه للطبيعة ولنفسه، فالإستقرار بالمدن لايشبه الترحال بالغابات، والزراعة لاتشبه الركض وراء صيد الحيوانات وإلتهام ماتجود به الطبيعة، فكل منهما تغذي إتجاها معينا للخيال والتصور.
وقد ساد، والى وقت قريب، إعتقاد يقول بأن الفنان يشبه الإسفنجة، فهو يتحسس الأحداث والأذواق والمعارف، مثلما تتحسس الإسفنجة الرطوبة والبخار قبل إنتشارها، وذلك للاعتقاد قديما بالطبيعة والقدرة التنبؤية للفنان والذي كان عمله الاساسي بناء وتزيين القصور والمقابر ودور العبادة وتجسيد احلام الملوك والطغاة بالصور والتماثيل ، بمعنى أن الفن عمل وفعل حسي وذهني متزامن ، لأن الخلق الابداعي غالبا ما كان غريزيا، حدسيا، وتخمينيا، وقائما على الملاحظة المباشرة والتجربة والخطأ أكثر من ما هو عقلي تحليلي قائم على أساس نظرية، أي أن عمل الفنانين أقرب الى الإحتمالية والشك منه الى الحتمية واليقين، ونحن نتحدث هنا عن الفنان الحقيقي وليس تاجر اللوحات والصور الاستهلاكية كما في عصرنا الحالي، لذلك فلا توجد حضارة حقيقية بالتاريخ لم تجعل للفن وللفنانين مكانة خاصة فيها وتهتم بهم وبإستمالتهم لصالحها وبتمويل إبداعهم وحمايتهم بإستمرار من إيادي البرابرة والغوغاء.
ومعروف ان سلطة رجال الكهنة والدين والخرافة لم تضعف الأ في السنوات المئتين الاخيرة بسبب التقدم العلمي والتكنولوجي في الدول الاوربية الغربية، وظهور طبقة اجتماعية جديدة تقود المجتمع، ثم انتقال المفاهيم الجديدة في انحاء العالم منذ عصر الاستعمار والى الان.
إن احدى مبررات وجود الحضارة هو تمكيننا من العيش سوية، وهذا هو الهدف النهائي للحياة المشتركة والتي لايسمو عليها أي شئ أخر، وأن ثلاثين ألف رأس نووي مزروعة اليوم حول العالم سوف لن تستخدم أبدا وإنما ستذهب عاجلا أم أجلا الى سلة المهملات رغم اننا لانعرف أبدا (بماذا تفكر كل هذه الروؤس النووية ؟) كما تساءل في وقت ما أحد الشعراء العراقيين.
يقودنا هذا الى ما يكرره العلماء في إدبياتهم بإستمرار على أن الحقيقة العلمية خطأ تم تصحيحه، أو القول بإنها صراع مستمر ضد الخطأ، وإذا أردنا التخلص من التخلف والجهل والأمية بكل مستواياتها فلابد لنا من مقاومة شرسة بلا هوادة لهذا الخطأ او الاخطاء.