الدلالات البلاغية في الأمثال الشعبية العراقية / لفته عبد النبي الخزرجي

يحفل الأدب الشعبي في العراق بالحضور اللافت للأمثال الشعبية وتحتل تلك الأمثال حيزا واسعا وفضاء رحبا في المجالس الشعبية والمنتديات والتجمعات الإنسانية، لتعبر عن مختلف الجوانب الحياتية للإنسان.
وتزخر المؤلفات التي وضعت في هذا الإطار بكم وافر من الأمثال الشعبية، والتي يمكن الاستعانة بها للتعبير عن حالة معينة وذلك عندما تعوز الإنسان القدرة على التعبير عن تلك الحالة أو تلازمه الحيرة في إيصال مبتغاه للمتلقي بصيغة أقرب للإيجاز والاختصار في اقتناص المفردات ذات المدلول البلاغي.. في ما قل ودل من الكلمات ذات المفردات البسيطة والمعبرة بدقة ورصانة.
ومن أشهر من اقتفى أثر الأمثال وأمعن في الاستقصاء عنها وجمعها وتبويبها هو الباحث الشيخ جلال الحنفي طاب ثراه. حيث يعد من أوسع من أولى هذا الجانب جل اهتمامه.. ثم انه وضعها في كتاب "الأمثال البغدادية" وقد نضده حسب الحروف الأبجدية وتوسع في شرح الأمثال وأعطاها المعاني التي تقابلها في الفصحى.
الأمثال الشعبية مفردات مسبوكة بأسلوب شعبي متفرد.. الغاية الأساسية في ذلك هو التعبير عن تجربة حياتية أو معاناة إنسانية أو انعكاس تلك الحالات على مجريات الحياة الإنسانية دون الخوض في التفاصيل.
والأمثال من فنون الأدب الشعبي ذات القيمة البلاغية الواعية.. وهي ليست من "أيسر ضروب الأدب الشعبي" كما يذكر ذلك الكاتب عامر رشيد السامرائي.. بل أنها من أرقي الفنون في الأدب الشعبي، لأنها قد تمت صياغتها بإيجاز شديد وحبكة وحكمة.. وهي تعد في الأدب الشعبي من السهل الممتنع.. كما انه لا يمكن صناعتها دون جهد ومشقة ومعاناة. ولا اعتقد ان ما يذكره الأستاذ عامر رشيد السامرائي.. حيث يقول: أن الأمثال الشعبية "لا تستدعي جهدا ومشقة كما الحال في الأنواع الأدبية الأخرى كالشعر والقصة والرواية" وانما ترافقها المشقة والجهد والمعاناة والوعي الإنساني والحكمة والبلاغة الشعبية.
إن الأمثال الشعبية وهي تطلق بالطريقة العفوية .. إنما تدل دلالة واضحة على عمق البلاغة الشعبية ودقة المفردة وقدرتها الفريدة في التعبير.
"بعد خراب البصرة" مثل عراقي بصري.. يضرب في معالجة بعض الأمور المهمة.. وعندما يفوت الأوان.. فتفقد هذه الأمور.. الغاية الأساسية في وضع الحلول اللازمة لها.. وعندما يكون العلاج متأخرا.. يصعب إيجاد الحلول.. مما يدل على أن المثل كان مستوعبا تماما لظروف الحالة وواعيا لمدلولاتها وحيثياتها.. فجاء المثل مصاغا بدراية وحبكة وبلاغة.
"إذا زرك اسهيل، احوي الرطب بالليل"
ليس من السهولة أن يصاغ المثل في أي ظرف أو في أي مكان.. فالمثل محصور لدى شريحة أصحاب البساتين.. لأنهم يعيشون الحالة بكل تفاصيلها.. مما سهل عليهم وضع المثل في هذه الصيغة.. ولأنهم يعلمون تماما أن الرطب في هذا الظرف "زركة اسهيل" تجعل الرطب وافرا ولا يحتاج إلى تصنيف فيتم جمعه بسهولة.. كما انه لا يحتاج إلى معاينة وتمحيص واختيار. وهذه من الدلالات البلاغية الرائعة جدا والمعبرة تماما عن واقع حياتي معاش وتجربة حياتية ومعاناة.
وبالمناسبة.. فليس كل الأمثال تبقى صالحة لكل زمان وكل مكان.. فهناك العديد من الأمثال بدأت تفقد بريقها.. لأنها وضعت في إطار مرحلة معينة.. وبتغير الأوضاع أصبح المثل عاجزا عن مجاراة ما يحصل من تطور وتقدم وعبور المراحل التي ضرب المثل في اتونها.
"صفي النية ونام بالثنية": هذا مثل ابن ظرفه .. ابن محيطه.. عندما كان الناس يعيشون في ظروف الأمن والاستقرار والطمأنينة.. نحن الآن نغلق بيوتنا ونحكم غلقها ونحرس أنفسنا وغير مطمأنين على حياتنا!
إلا إن الأمثال بشكل عام ما زالت تحتفظ بقوة تأثيرها وضرورتها والحاجة لم تتوقف بضرورة اللجوء إليها والاستعانة بها.
"السطرة بعلباة الفقير".. أمعن النظر جيدا في المدلول الطبقي لهذا المثل.. فهو تعبير لافت للمحرومية والانسحاق والتهميش الذي تعيشه الشرائح الاجتماعية التي كتب عليها أن تعيش في أسفل القاع الاجتماعي.. فهي معرضة في كل حين للأهانات وغمط الحقوق وضياعها.. كما أنها تتحمل الوزر الأكبر في مواجهة المتسلطين وجبروتهم والتعسف والظلم والمعاناة .. مع عوامل الفاقة والعري والأمية والمرض والحرمان.
"برديته سيف" وهذا من ابلغ ما عرفناه من الأمثال الشعبية.. فهو تلخيص واضح لقوة الحاكم وجبروته وسلطانه الجائر.. والبردية في معناها الشعبي.. قطعة من البردي المعروف.. وهو مجاور للقصب في تواجده في المستنقعات .. وهو من اضعف النباتات.. لكن المثل جاء ليعطينا صورة صادقة وأمينة عن جبروت القوة والتسلط.. مما جعل هذا النبات الضعيف جدا "البردي" وكأنه سيف باشط مسلط على رقاب الرعية.
"إشلون ابن الله اتطكونه": وهذا من أخطر ما يواجه الشعوب النامية لان النافذين والمتربعين على عرش المسؤولية.. في كل زمان ومكان.. لا يمكن أن ينالهم عقاب.. حتى وان كانوا متلبسين بالجرم المشهود.. وهذا ما لمسناه في واقعنا.. وهكذا يكون المثل تعبيرا صادقا عن أوجاع الناس ومتنفسا لآلامهم .
"الدنيا ويه علم ألواكف" : نعم .. الدنيا تسير مع القوي.. مع الماسك مقود العجلة المتقدمة.. مع من بيده الحل والعقد.. هكذا تسير الأمور على أقل تقدير.
"البصلة لحمة الفقير": الذين يعيشون الفقر .. يدركون قيمة البصل ودوره الفاعل في حياة الفقراء .. وهذا طبعا عندما كان البصل رخيصا .. أما وقد أصبح البصل لا تقل أسعاره عن أي مادة غذائية.. فقد عاد صعب المنال بالنسبة للطبقات الكادحة والمحرومة .
"مثل نواعي فيهن": وفيهن هذه امرأة من فقراء بلادي.. فهي دائمة النواح دائمة الشكوى .. لا تتوقف عن النعي.. والنعي في اللغة الشعبية هو الإكثار من البكاء وندب الحظ التعيس.. دون أن يكون هناك وازع من إرادة للخلاص من هذا الواقع الموشوم بالحزن والبكاء والنعي المتواصل دون طائل . وهو تصوير رائع للتهميش والظلم والمحرومية التي تعيشها المرأة في مجتمع ذكوري.
"اليبوك يدحلب": هكذا كان المثل سابقا أما الآن فإن السرقات تحصل في وضح النهار جهارا. والحرامي يتحرك تحت الشمس وقامته شاهقة، دون أن تساوره مشاعر الخوف أو تأنيب الضمير او الندم .. أو كما قال الشاعر:
"كبل چان اليبوك ايحوف تالي الليل هسه الظهر يسطي ومحد ايرده
"دن الرايب ما بيه زبده": بلاغة ودقة في اختيار المفردات الشعبية.. عندما تتأخر العلاجات الضرورية عن موعدها وعدم حسم المهم من القضايا الجوهرية.. فإن النتائج تكون خاوية وغير ذات جدوى.. ولا فائدة ترجى منها.. وهذا المثل اطلعت عليه في رواية حيدر حيدر "وليمة لأعشاب البحر"، وقد نطق به فلاح شيوعي كان يقاتل في الاهوار مع ثوار الكفاح المسلح.. وهو يريد منه أن المراوحة والتخبط في سوء التخطيط السليم.. تكون نتائجها كارثية. هذه هي الأمثال.. التلميح فيها شعار والتصريح دثار.. فهي دلالات بلاغية بلغة شعبية شفيفة.. وهي رغم بساطتها لكنها مسبوكة بوعي وحكمة ودراية.