قراءة في مجموعة «و» لعدنان الصائغ / عباس باني المالكي

يمنح الشاعر عدنان الصائغ في مجموعته الشعرية الجديدة (و) معنى خفياً يتحكم بدلالة إبرازها حسب قدرته على صياغة هذا المحفز إلى الحد الذي تصبح المجموعة أشبه بعلاقة مفتوحة مع الدالة المخفية بين المعاني التي يؤشرها الشاعر كي لا يقع ضمن المحددات الخاصة بكل نص بحيث تصبح المجموعة امتدادا للمعنى، ويكون العنوان هو الحافز في التقارب مع هذا المعنى داخل كل نص, وهنا ندرك أن الشاعر أمتد بالتأويل الدلالي المؤثر في صياغة جميع النصوص وفق ذائقة المجموعة المفتوحة لكي لا تصاب المجموعة بالترهل.
(و) هي أعادة تركيب الجملة الشعرية وفق نسقية التقارب بين التوهج الذاتي وعدم غياب سيميائية الفكرة الجوهرية التي يبحث عنها ضمن حاضر الذات أو غياب الأشياء التي سببت التصادم بين كل هذه الدلالات، فيشعر المتلقي كأن الشاعر قد كتبها في نفس الزمن المتراكم داخل ذاكرته المخزونة مع حوافز الزمن المتغير واستطاع أن يحافظ على التوتر الموحي في تواتر زمن القصيدة ضمن الزمن المعنوي وليس ضمن السلوكيات التأثيرية على توهج الذات وهذا طرح جديد في كتابة المجموعات الشعرية أو سابقة لم تؤشر في تاريخ الكتابة الشعرية، بحيث عند قراءة أي نص من الممكن أن نركبه على نص أخر بحضور (و) وكأنها المفتاح التراكمي في تمازج المعنى في كل النصوص، وأنها المفتاح التصاعدي الدلالي والتنازلي في تركيب المعنى فيبدأ الشاعر من حيث انتهى النص الذي قبله كبنية دلالية متقاربة من حيث التضمين المعنوي للإشارة الذهنية الى حد تحقيق الحضور الكامل للمعنى المتجدد على امتداد المجموعة، ففي نص الكأس ص 4 ( وأصابع عازفةٍ، سكرى، / تتراقصُ بين الوترِ المهموسِ، / وبين الكأسْ /وإلى طاولتي، يجلسُ قلبي / ملتحفاً غصتَهُ /يرنو ولهاً للخصرِ المياسْ /ووراء زجاجِ الحانةِ أشباحٌ تترصّدني، / تحصي حولي الأنفاسْ/وأنا محتارٌ / يا ربي /أين أديرُ القلبَ؟ / وأين أديرُ الرأسْ؟ )
التوقف هنا هو الحيرة وعملية الإشارة الى الاختيار فالذات هنا حضرت الصور المركبة من الأشياء الخارجية ليمتد الصراع الى الداخل , ويشعر المتلقي أن أغلب نصوص المجموعة هي جذب ما هو خارجي الى داخل الذات حيث نجد التردد في اتخاذ القرار تجاه المسميات التي تتحرك داخل ذات الشاعر ونشعر أن مركز الاختيار هنا هو (و) التي تباعد أو تقارب هذه الاختيارات من حيث الصراع النفسي السيميولوجي داخل حركة الذات وفق أفق انتمائها , فما بين ( سكرى ,الكأس ,المياس , الأنفاس , وأنا محتار) هنا نلاحظ الخط التصاعدي في اتساع المعنى في زمن الاختناق والحيرة ما بين غياب الوعي أو الإتيان به لتأشيره, فالشاعر هنا ينهي النص بتساؤل البحث عن الاختيار ما بين القلب والرأس أي ما بين الاختيار العاطفي والفكري.
في ص 8 (مرةً.. /مرةً.. /ربما؛ نلتقي صدفةً / - آهِ.. يا غربتي، / آهِ.. يا وطني /فنذوبُ / عناقا )
في هذا المقطع تتصاعد الغربة بسبب البعد عن الوطن الى حد التشبث بالصدفة في اللقاء معه بسبب انهيار الوطن داخله لأن الترابط بين الذات والوطن هو ترابط نفسي سيكولوجي لا يمكن أن نفصله عن جوهر الانتماء الوجودي لهذه الذات إلا بسبب حجم الفاجعة التي تبعد الذات عن الانتماء لهذا الوطن وطبعا هذه الحالة تكتسح الذات وتتحول الى صراع كبير داخلها و تختلط الانتماءات الكلية داخل هذه الذات وتصبح كل مساحات الذات صوراً ارتجاجية في تحديد المعنى الجوهري الداخلي داخل محفزات الوعي الانعكاسي الشرطي المتكون من تعمق الصور الذهنية والانتماء داخل كل مساحات الوجدان وأقاليم الذات التي تكونت فيها الكثير من الصور عندما عاشت داخل الوطن وقد تتحول هذه الصور الى رموز حية تعيش داخل الذات مهما ابتعدت عن انتمائها الى جغرافية الوطن, وحين جعل من الصدفة لقاء و ليس هناك وطن يسعى الى اللقاء به إلا وفق نواميس الصدفة وهذا يؤشر الأزمة الكلية داخل الذات, مع هذا يحاول أن يعيد تصالح ذاته مع الوطن.المجموعة نص مفتوح في تركيب النص وفق زمن الكتابة المختلف خارجيا والتضمين داخليا والشاعر أستطاع أن يحول الزمن الخارجي إلى زمن داخلي ويحول دينامكية الزمن الى رموز وفق دلالاتها الاستبطانية المستمرة في حياكة المعنى ووفق تسلسلها الانعكاسي داخل ذاتية النص المتكون من ردم الفجوة ما بين الدال والمدلول لتقارب المعنى في داخل ذات الشاعر، حيث يتحول هنا الزمن الى زمن هرمي في تقارب التعبير المتأتي من سلطة أزمة الوعي الداخلي بالغربة المستديمة داخل الذات, وأن الشاعر يلغى تحكمات الزمن الخارجي من خلال استبطان زمن داخلي الذي يؤرخ الدالة وفق ترادف المكون النفسي في تمازج الصور الذهنية مع اللغة كأداة محفزة على التعبير عن التجربة الباطنية للشاعر ضمن ذائقة التعبير التناسقي في قيمة التماثل مع الرموز العاطفية والفكرية وتشظيها الخارجي, لعدم القناعة باستمرار حركة الغربة وما تمثله من امتداد لغربة الوطن نفسه.
كما تحاول الذات الخروج من غربتها الداخلية، فتحاول أن تعيد الطفولة إلى حاضرها، لكن تجد أن زمنها غير ثابت أو غير مستمر حيث يتحول الزمن الذي شابت فيه الذكريات, فأصبحت الغربة هي أزمات تراكمية داخل الذات لا تستطيع الانفكاك منها مع كل هذه المحاولات, لهذا تحاول أن تجد التبرير لهذه الغربة، مرة على فرقة الأصدقاء ومرة على الأرض التي سببت كل هذا النزيف الحتمي في تحقيق مشروعية الارتداد الى الذات عبر كل هذه الأبعاد الزمنية المرتبطة داخل الذاكرة, ونجد أن الغربة تسبق الذات ولا تستطيع أن تفسرها لأنها متداخلة كليا معها, ولكنها تحاول أن تبررها لكي لا يحدث الشرخ داخلها بعد أن تحولت إلى لعنة، في ص..34 نص غربة..4 اما آنَ أن تستريحَ حَ حَ ظلالُكَ، يا صاحبي / لعنت هذه الأرضُ /كمْ غصّصتنا / وكمْ رغّبتنا / وكمْ شرّدتنا /وكمْ.... / مْ ) ، وتكون ال (و) هي المعنى في تحقيق الدلالة داخل النصوص كافة في المجموعة حيث أن اللعنة هنا تحققت من خلال التشرد بعيدا عن الوطن, وحولت ال (و) إيجاد منهج تفسيري لأسباب الغربة داخل الذات (وكمْ رغّبتنا / وكمْ شرّدتنا /وكمْ.... / مْ )، وهنا يحاول الشاعر أن يناقش نفسه من خلال ظل صاحبه الغائب لأن أزمته وصلت الى مرحلة يحاول أن لا يفسرها بإحساسه من الداخل ...
ص .. 52 نص تشكيل 7 (.. أعداءٌ كثيرون /من حروبٍ لمْ أخضْها /من أين أتيتَ لي بهم؛ /أيها الشعر )
بل يحاول الشاعر هنا أن يلقي أسباب ما يمر به الى الأعداء الذين تكاثروا حوله فيحاول الخروج من لعنة التداخل مع غربته التي أصبحت هي هوية ذاتية توسم بها بكل أبعادها النفسية والمعرفية, ومحاولة الخروج من أزمة الذات وتبريرها النفسي السيكولوجي الترادفي في البحث عن الأسباب لكي يقنع حاضره بأسباب هذه الأزمة ولكي لا تتشظى خارج المعنى الوجودي في الحياة.
ص..58 في نص قصائد قصيرة / شكر (شكراً لهم.... /إنهم يستنسخونني /بتأويلاتهم.. /واشاعاتهم /وشتائمهم... / لهذا تكاثرتْ نصوصي، /بين الناس )
نجد هناك أن فعل المعنى المتكون في زمن القصيدة لدى الشاعر هو معنى مستشف من غربة ذاته المتداولة مع كل ما يسبب لها فقدان الهوية اتجاه الوطن, لهذا نجد حركة المرايا في تكوين النص الشعري لدى الشاعر هي أفعال تصادمية مع ما يؤشره الآخرون من قيمة فعل الدالة المتحرك داخل هويته الذاتية كانسان يمتلك فعل التعبير ضمن سياق البحث عن معنى الحياة خارج الأطر التي تكبله, لهذا نجد النص لديه هو رحلة الذات وتجليها المعرفي النفسي في كل ما يحيط به وهذا ما يشعره بمعاناة الغربة في المكان, فيحاول أن يلغي هذه الهوية والتي تمثل نسقه الإنساني المعبر عن كيفية الاقتراب من الحياة بعيدا عن إرهاصات لا توصله الى القناعة بطريقة حياته, فهو لا يحاول الخروج من الأزمة بل يحاول أن يجد التفسير لهذه الأزمة كي لا تهرب ذاته عن موجبات الحياة التي ينشد لها, فبات النص لدية هو صوت الداخل المركب من ذهنية الحدث وليس المركب من مؤثرات المشاعر الحسية لأنه دائما يجلب الزمن السابق ليعطيه المعنى في الحاضر.