قبلة وشجن للحبيب وللوطن من شفاه ... سفاح عبدالكريم / عيسى مسلم جاسم

آليت مراراً، وتعهدت تكراراً امام نفسي اولاً وامام اساتذتي وتلاميذي معاً ثانياً، أن لا اكتب عن مبدع واحد اكثر مما يلزم، فبودي أن تكون كتاباتي - على قلتها - أفقية لا عمودية، وبالرغم من حجم امكاناتي الضئيل، وسطوري المتواضعة، إلا أني وباعتزاز كتبت عن أحبتي ومعارفي واصدقائي، وابناء مدينتي ومحافظتي وخارجها، ومن داخل الوطن وخارجه وتعاظم حبل الوصل بين مبدعي الشعر الى جانب النثر.
عُذراً - سادتي - يقيناً لست بصدد الكتابة عن اسهاماتي "اليباب" ولا عن تجربتي القصيرة، نسبياً في ميدان الكتابات النقدية، وللواقع إنني أتوجس خيفة وأتصبب عرقاً وجلاً حينما اكتب سطوراً عن عدد من اساتذتي الكثر، على سبيل المثال لا الحصر أمثال: الفريد سمعان، ومظفر النواب، ريسان الخزعلي، ابراهيم الخياط، وعذراً للآخرين الذين كتبت عنهم، أو لم يحصل لي الشرف بالكتابة عنهم كعريان السيد خلف والبقية من أقرانه "الثروات الوطنية والصروح العالية".
"مربط الفرس" قصيدة شعبية للمبدع دوماً، وشاغلني اصلاً... "سفاح عبدالكريم" والمنشورة في الصفحة الخامسة "أدب شعبي لجريدتنا الأثيرة طريق الشعب ليوم الخميس المصادف 26 تشرين الثاني 2015 وبالعدد 78 ولسنتها 81" والقصيدة موسومة "بوسة" وهي و- حسب رؤاي - هي ليست بوسة ككل "البوسات" بل هي عريضة تتسع لكل الحبيبات، وجدير بها ان تـُكتب بكل اللغات.
للواقع كان بودي أن أقول الكثير عن "أبي الوليد" وانا الذي كررت الكتابة عنه استثناءً فلا مناص من ذلك، ولا حيلة لي، وأنا أدرس قصائدي على هذه الصفحة المباركة ولا أمتلك السطوة على "لعابي" وأحجبه، واعيقه عن "السيلان" أمام نتاجات شاعرنا، ومع كل هذا عاتبته مرة "مازحاً، حينما يطرق باب النقد على ذات الصفحة وبابداع ايضاً قائلاً: يا أستاذي يا أبا الوليد تـُزاحمنا على هذه الصنعة "النقد" سيما وأنت "سلطان الشعر" رفقاً بنا.
عودة للقصيدة "بوسة" والتي أرادها الشاعر أن تكون على عجل، لأن الحبيبة رقيقة، ويخشى عليها من لسع سموم وسنا حرارة الشوق "سلامتك أنت و حبيبتك" فيقول في عز عنفوان الهيام وذروة الحب وعصارة المشاعر وفي السطرين الأخيرين:
وإنتي معذورة لوّن تبچين
لو باسچ مُحب
مهلاً - سيدي الشاعر - لا تذهب بعيداً، وبذلك تقلل ذنوبي، وسبق لي، وأنا أسلط الأضواء على القصيدة وبالاحرى"البوسة" فقد وصفتها "أنا" إنها كانت خاطفة وعلى عجل، وسبق ان فصلتُ ظروف الحالة الوجدانية، فلا تتهمني بـ - التلصص - عليكما، وانتما ترسمان "البوسة" تلك اللوحة الأجمل في الوجود. ولكن دليلي على قصر تلك "البوسة" إن القصيدة جاءت قصيرة وعلى يافطة "خير الكلام ما قلّ ودل"، أو لربما العجلة جاءت لغياب الديمقراطية، وسريان الطائفية وبعدها الافكار السلفية، عموماً - وكأني - أراكما، كانت "بوستكما" مبتورة وكانت ايضاً على عجل، وهذا أغضب الأرض والسماء، ولكما العذر والحذر من عين الرقيب.
نعم القصيدة "قصيرة" تألفت "فقط" من عشرة سطور، وهذا الرقم أو العدد يترجم الكم الكثير من الأشواق، كذلك أعار اهتماماً لعلامات الترقيم كالتعجب والأهم لديّ النقاط الثلاث "..." فالشاعر لم يترك لي ثغرة أنفذ من خلالها ناقداً ومصوباً، فقد إزدانت وتلونت صورته الزاهية في عيني حينما وضع النقاط الثلاث، والتي تعني بلغة الرياضيات؛ هي اللا نهاية، وهي الكثرة وإنها، وبلغة الرياضيات ايضاً تعني "السهم" يقيناً سهم الحب النافذ الى الأعماق طارداً الشك، والسهم الذي يبدأ بنقطة واحدة، ويمتد الى ما لا نهاية فقد وظف الشاعر مقولة "الشرارة الاولى التي منها يندلع اللهب".
والشكل الطاغي على البناء الهندسي للقصيدة طول التفعيلات، ففي كل سطر جملة ترانيم وحزمة من الايقاعات، وهي مشاعر عاجلة يفرزها المحب "الشاعر" وفي سطور قليلة، الا أن الواضح قصر التفعيلات، وفي السطور الاخيرة مما يرسل الينا إن زحمة الشوق قد فعلت فعلها "وهدمت حيله" وتباطأت أنفاسه، فكانت "الاخيرة" هي الوشلة، او الثمالة المركزية، والخزين المتراكم.
كثيرة هي الاشياء التي توقفت عندها؛ بل وسرتني من ضمنها السلامة اللغوية، وخلو القصيدة من الهفوات النحوية والاملائية والاعرابية، وللاسف إن بعض شعراء الشعب، وليس منهم "ابو الوليد" نراهم واهمين وهم يفسدون قصائدهم بالمثالب التي أشرنا اليها تواً، فهم يعتقدون؛ أن قصائدهم شفافة تـُلقى على المنابر على الأغلب هذا اولاً، وثانياً لأن جمهورهم لا تعنيه هندسة بناء القصيدة، بل ضالتهم المنشودة "طنين القافية" بل والنبيه منهم يذوب فقط في الوان الصورة الشعرية، على سبيل المثال هي عينة السطر الأول من قصيدة شاعرنا فيقول في لوحته الشعرية: "إمسافره ابروحي الأغاني" ترى ما هي الاغاني هل هي شيء محسوس، بل هي رؤى الشاعر؛ ثم لنتأمل ايضاً بنفس السطر بـ"روحي" وما هي الروح؛ هي موضع جدل بين البايولوجيا، والفلسفة، وعلم النفس والعلم عند الفكر الروحي؛ والروح من أمر ربي، واذا نفخت فيه من روحي...
ثم أتوقف ومن جديد على "البعض من الشعراء الشعبيين" لاعتقادهم باطلاً لأنهم بمنأى عن عيون الرقيب اللغوي، وعلى وجه الخصوص يحزّ في نفوسنا أن تكون هذه الهفوات في جريدتنا وعلى سائر الصفحات.
أضف لذلك، فالقصيدة "حدثاوية" التصميم لكنها خريجة مدرسة التفعيلة، وفي محتواها "رومانسية" بامتياز، وخلاصتها أن تكون كذلك قد درست دهراً في جامعة "الواقعية الاشتراكية" وأشير بشيء من التفصيل لو تيسر ليّ ذلك.
كذلك فاتني أن أشير، وأنا ألوم بعض الشعراء على الهفوات وأسلوب كشفها إنها معرضة للنشر في الصحف والمجلات، ولربما جريدتنا تتميز أنها تخصص لمثيلاتها صفحة كاملة، ناهيكم عن المهرجانات وعند الألقاء على المنابر نجد الجمهورين الأفقي والعمودي معاً، وان ديدن البعض سيما النقاد - من أمثالنا - هو ايضاً صيد الهفوات في "الماء الصافي" هذه المرة.
ولربما تجابهنا علامة استفهام عملاقة لماذا العجلة؟ ولماذا البوسة الدافئة كانت على عجل وبالرغم من الحديث عن ظروفها، لكن يتطلب التنقيب وسبر الأغوار والتوغل عميقاً. فبلادنا مبتلاة ومنذ عقود بالهيمنة الاستبدادية والاحكام الشمولية التي تـُحرم أية نسمة عذبة على الشعب المظلوم، لذا نراه قد يترجم احلامه بـالآه والونة والأغنية والأهازيج، والنعي، وهذه تتجسد اكثر عند النساء، تلكم الشريحة المضطهدة "لمرتين" من داخل العائلة وخارجها بفعل الاعراف الاجتماعية القاهرة وثقافتها "السلفية" التي تمنع الاختلاط والمشاعر، فذلك قيس بن الملوح وهذا الفكر التكفيري الذي غزانا بل وأرجعنا. لذلك نجد معاناة الشاعر والاسوار القاسية التي تحجبه عن الحبيبة، لذا نراه:
إشلون أصدن، واشتكي الحال او بعد المن أحب!
سيما وان "المحب" قد قطع شوطاً بعيداً في مشواره، وهضم مفردات دراسته الوجدانية، ونمت الفكرة وسرى تأثيرها متجانساً مطابقاً بين العقل والنفس، وان هذا الحب قد إحتضنه القلب وغطاه بالشغاف وربطه بالنياط، خشية عليه من عوادي الزمن من الفراق، لقد بات قضية حياة أوموت، سيما وقد ذاق لذة هذا الحب بحلوه وحتى مره من خلال الاعداء المناوئين، لذا نقرأ معاً قول شاعرنا:
"ماي نهرچ ورّد ابزودي أوصفه إبطوري العذب"
ثم نقتبس ثانية السطر الآت: "عربي وامطعم ابنسمة هورنه او ريحة شلب".. ان الشاعر لا يمتلك الحرية المطلقة في كتابة النص فهو يرجع الى عدد معين ومعروف في سنن الكتابة... هذه السنن هي خبرات تجمعت على مدى العصور، واصبحت دلائل وامارات تسكن مخيلة الشاعر من دون أن يستطيع اهمالها - استقبال النص عند العرب. د. محمد رضا مبارك، فالشاعر وظف الرمز والفنتازيا كذلك.