رياض النعماني وللوطن حزمة أماني : حزمة ضوئية على قصيدة شعبية / عيسى مسلم جاسم

دخل مسرعاً، وبقايا لهاثه تكوي وجوهنا نحن الذين في الصف الامامي قريباً من "السبورة" في غرفة ضاقت بالطلائع من طلاب الصف الاول في ثانوية النعمانية الرسمية، هكذا كان اسمها يبدو ذلك لتميزها عن التعليم الاهلي الذي هو الاسبق على الساحة الاجتماعية/ التربوية لاحتضانه ابناء الذوات الميسورين.
وفي مادة النصوص الادبية، الحصة الاولى، واليوم الاول من الاسبوع، استغربنا دخوله علينا لسببين؛ الاول فهو مدير الثانوية، واختصاصه "الكيمياء" فما باله في مادة "اللغة العربية" واستاذها، طراد الكبيسي الشاب المتخرج والمتزوج معاً تواً وفي العام الدراسي 1962- 1963، وفي اليوم الاول من النصف الثاني الدراسي.
يبدو ان الاستاذ، المدير جاء ليسد شاغراً، وهو البديل عن أستاذ المادة، المشار اليها، والذي أعتقل إثر الانقلاب الدموي/ الفاشي الذي غرس مخالبه واسنانه في جسد الشعب وكانت ضالته المنشودة النخبة الخيرة والمثقفة، اضافة لما ورد. طال الاعتقال مدرسي الرياضيات والاجتماعيات ولربما مدرسين آخرين.
افتحوا كتاب النصوص عند الصفحة "..." فعلنا وجدنا عندها قصيدة "جيش العراق – للشاعر الكبير الجواهري:
جيش العراق، ولم أزل بك مؤمناً
وبأنك الأمل المرجى والمنى
قال هذا "ترك" اشطبوه، هذا الشاعر انسان "سختـ..." وكذلك الشاعر عمر ابو ريشة.
كنا نحن أصغر طلاب المدرسة الثانية والـ"أنعم" حجماً، ومن ضمننا شاعرنا "رياض النعماني" إبن الوجيه الاجتماعي والتاجر المرموق والنموذج التقدمي "مكي حاج فيحان" والذي طاله الاعتقال في ذلك الشتاء القارص المتجهم، وفي ذلك العام الظلامي على العراقيين سيما نخبته الطيبين.
وفي اليوم الخالد 31 تموز نفد صبرنا، وكحلنا الشوارع والساحات بوجودنا، وعطرنا الآفاق بهتافنا، للاصلاح والدولة المدنية الديمقراطية ومحاربة الفساد ومقاضاة المفسدين، وقائمة طويلة مشروعة من المطالب الشعبية.
فكان لجريدتنا الأثيرة صفحة وملفات عكست نبض الشعب فقصائد ابراهيم الخياط، نجم خطاوي، وبين يدي الآن قصيدة "حقنا لا تضيعونه/ سامي سلطان، وفي اعلى الصفحة الاخيرة ايضاً قصيدة"هذا وطناً – رياض النعماني".
بيت القصيد المفردات الأخيرة، وشاعرنا، قد أثرى الصفحة بالعديد من القصائد الشعبية، وهي ناطقة رسمية بلسان الجماهير المنتفضة، واغنيات المتظاهرين.
يقيناً شاعرنا قد عبر – ومنذ أمد بعيد – الفئويات، بل أن قريحته تهزج مشاطرة ابناء جلدته، سائر شعبه، فعبر مدينته كذلك محافظته، ووقف مع جواد سليم تحت ظلال ملحمته في وسط بغداد، وهي القاسم المشترك لنا جميعاً، وهي "فنتازيا" العراق لذا يستهل قصيدته،وهي السريّة الاستطلاعية في المعركة الشعبية السلمية فيقول:
بساحة التحرير
طاير نشوه يتگلب حمام الفرح
هب الگلب ليفوگ، فوگ وسرح
نعم هي السطور الثلاثة الاولى، ترجمت وحدة الهتاف وتشطب الضيق من الولاءات واستظل تحت خيمة العراق، متباهياً براية البلاد. ومع كل الويلات وغبار البارود والمفخخات والدم والكم الهائل من السبايا واليتامى والانكسارات، وضياع ثلث البلاد وسيادة السلب والفساد، ومع كل هذه اللوحة القاتمة لم يفت في عضد الأهل ولم يضعف اصرار الشباب "جمعه ورا جمعه والفاسد نطلعه"، ومع كل ذلك نحب الحياة، نفرح لمساعينا نحو الاصلاح، ورسم لوحة الوطن الملونة، واذا شحت الالوان نُجملها بالعراق والدموع والدم، حتى تُمسي أبهى عنفواناً.
أي معدن أنت يا شعب، وأي وطن أنت يا عراق، ولسان حالك. رياض النعماني يترجم احلامكم ويرسم آمالكم:
طاير نشوه يتگلب حمام الفرح
ثيمة، إثر ثيمة في بضع مفردات، نرى التألق والعلو والطيران والكبرياء والزهو والنشوة، والسلام من خلال رمز الحمام وحمامة رياض النعماني كحمامة فائق حسن من الجهة الثانية لساحة التحرير، وهي حمامة مقتدرة لا خانعة. هي التي "تتگلب"سخرية من الطغاة والحكام المستبدين ورثة نوري السعيد وصدام، والمفردة الأخيرة في السطر "الفرح".
عجباً.. عجاب، كم حجم قلبك يا عراق، وما منشؤه حتى يعيش وسط الدخان والخراب، لتهتز عروش الحكام، أزاء شعب كهذا لا تلين عزيمته على إمتداد الايام وتعاقب الأعوام.
"هذا وطناً/ رياض النعماني" قصيدة شعبية، نظير شعر "الفتوح" عند المسلمين في حروبهم التوسعية، وكأن الشاعر وسط الجموع يصيح ويهتف ويغني. وهي حدثاوية بمحتواها وحرة تفعيلية في هندستها، وواقعية/ ندية/ اشتراكية في تفكيرها ورومانسية في تغزلها بالحياة، عموماً هي اكاديمية عالية البنيان، نعم هي ضمير كل انسان.
وهي مؤلفة من ثلاثين سطراً ونيف،وهذا العدد يطابق المسبحة العادي المسلية والمؤلفة هي الاخرى من ثلاث وثلاثين حبة "خرزة" وهي اشارة ورمز على الثقة بالانتصار على الرغم من امتلاك "ندّنا" وسائل العنف والدمار. وهي ايضاً متفاوتة نقلات التفعيلات، مما يمنحها موسيقى الايقاعات، وجميل جداً كذلك خلوها من الهفوات وجاءت بلغة سيلمة الا ما كان ضرورياً للنظم الشعبي المألوف وفق اللغة المحكية.
ويزيد الشاعر ومن خلال حبه للحياة، في نشر الوان الفرح في كل مكان نعم هو الرسام الواقعي مشاطراً بيكاسو في لوحاته، وفيكتور جارا في نغمه، ونيرودا في نظمه. فكانت الوان "النعماني" بلون الحب والسلام والهدوء، واحياناً العنفوان وبأطار الفرح:
"زرگة السمه.. والهوى ايهلهل بالزراگ..ودجله زرگه"
ومع كل صور التواضع والبساطة والسلام وزرقة السماء والبحر، لكنها تقض مضاجع الطغاة، وتنخر كراسيهم، فلا يتنفسون الهواء الطلق بل عالمهم القمامة والجحور كالجرذان، واستاذهم الكبير "القائد الضرورة.. المقدام": ساعد شعبنا بحر/ باچر "يهد بيوتكم، والجوع صاح. وشعل نار أبوكم" ويختم شاعرنا النعماني قصيدته "هذا وطناً، فيقول:
هذاوطناً.. هو إسمنا... وهو عمرنا.. وبروحنه إنحرسه
وهو أصلنا... وذوله رصيف ولازم إنكنسه
وهو مجدنا