لوحة ايام مؤطرة بالشمام / عيسى مسلم جاسم

توطئة
قالت العرب الشعر ديوان العرب، وقال الأقدمون من أدباء العرب عن الشعر ايضاً أنه من اكثر الفنون الابداعية تركيزاً وفق مفهوم "الميثولوجيا" التراثية "خير الكلام ما قل ودل" وقد شاعت "الشيفرة" الشعرية والنثرية، فجاءت معبقة بالرمزية و"الفنتازيا" حتى باتت عصية بتفسيرها الا بين حملة الراية الواحدة،
وباتت مجرد طلاسم لدى الند، وبذلك تفعل فعلها وتأتي بثمار غرضها، وتجني ضالتها، وليس ببعيد علينا ملحمة "ثورة العشرين" الخالدة، حينما أرسل ابو الجون رسالة شفوية الى رفاقه تحمل في طياتها الثورة والخلاص، قالها علناً أمام مرأى ومسمع آسرّية القوات البريطانية الغازية، فلم تع من مضمونها سوى الكلام الفارغ، وحسب الصورة الظاهرة المباشرة، ويقيناً المتلقي لهذه الصفحة العريضة يعي تفاصيل القضية من الالف الى الباء.
بيت القصيد/
بل مربط الفرس، قضيدة شعبية للشاعر الشعبي "راسم الخطاط" والموسومة "شمام" والمنشورة على هذه الصفحة وبالعدد 83، ليوم الخميس المصادف 10 كانون الأول 2015، لجريدتنا الأثيرة "طريق الشعب".
نظرة فنية/
جاءت القصيدة – كما اشرنا في التوطئة – مقتضبة وتألفت من "واحد وعشرين سطراً" كان مضمونها حدثاوي، جاءت سطورها منسابة بشكل تلقائي، وبحالة "تدفق" حسب الدكتورة الشاعرة الناقدة "نازك الملائكة" في كتابها النقدي والمهم "قضايا الشعر المعاصرة" ولربما وفق خصلة "أمريء القيس" وجواده السريع، الذي وصفه "كجلمود صخر حط من علِّ" هكذا هي انسيابية القصيدة لذا جاءت بلا تكلف، أما هندسة النظم، فهو لا ريب خريج مدرسة التفعيلة، وقد تناوب حرفا الروي "الميم واللام" والحرف الأخير له حصة الأسد، والجميل جداً سلامة اللغة، والايقاعات الأنيسة، على الرغم من تقارب التفعيلات في السطور، وهذه الظاهرة تميل الى رتابة الأداء، وتقربها من الشعر العمودي الذي يعير اهتماماً لرنين القافية وارتياح الاذن البشرية، الاهتمام بالقشور وصرف النظر جزئياً عن مضمون الصور الشعرية، والضربات الفكرية، وهذا الضرب يُرضي "الجاحظ".
ومما يبهجني حقاً وحدة الموضوع في القصيدة، والبناء المحكم في السرد القصصي. وهذا جانب مهم في الصنعة الأدبية، وهي مهمة لدى الناقد، وهي كذلك لدى المتلقي؛ بنوعيه الأفقي والعمودي، ومن خلال مسك رأس الخيط، والأنشداد بالأثر الأدبي، والتواصل الممتع مع النتاج سيما مع القارئ الأستهلاكي، والذي حُرم عقوداً من تدشين الف باء الثقافة العامة والذوق الفني والأدبي، لظروف سياسية، اجتماعية، روحية.
"يعد نقاد الأدب الوحدة العضوية والموضوعية، من أبرز عوامل عملية الأبداع سواء كان على المستوى الشعري ام على المستوى القصصي... إن العمل الأدبي لا يقبل الانقسام العقلي او الانشطار الذهني أفقياً او عمودياً، فكل دال يؤدي الى مدلول، ويرتبط أحدهما بالآخر، بشبكة من العلاقات الأيمائية والمعنوية تأخذ بيد القارئ لتحقيق الهدف السلوكي من الابداع – مقاربات بين اللغة والأدب والتربية وعلم النفس/ د. نجاح كبة".
العنوانات/
تهمني جداً العنوانات، او الأغنية، فهي فصيلة استطلاعية متقدمة، تزيح الستار عن المكنونات، ولا اكون مبالغاً واقول "تغنيك عن ولوج دواخل الصفحات، كثيرة هي المؤشرات، العنوان هل هو كلمة واحدة او اثنتان، او جملة واحياناً "غير مفيدة" التصميم او كذلك لوحة الغلاف تعني الكثير، ولو حصل في جلسة أدبية، فالومضات التي اشرت لها ممكن ان تمنحك "جواز السفر" كي تبحر في أمواج المداخلات ومن دون شد حزام الأمان. نعم – سادتي – هكذا هو حجم الغلاف، ولو كان "كتاباً" مجموعة شعرية او قصصية، فالصفحات المبكرة تمنحك زاداً لعبور الصحراء الكبرى".
بين الأثر ومبدعه
لنقترب اكثر من القصيدة، ومن خلال النص ومبدعه عميد اكاديمية القصيدة؛ عنوانها "شمام، وهي مفردة واحدة، تحمل في طياتها الكثير من التفاصيل، وكماً هائلاً من الكلمات، كان بودي أن لا يضعها الشاعر مفردة مجردة، بل وعلى "أضعف الأيمان" أن يضع بعدها "..." ثلاث نقاط فقط، وهي التي تعني الكثرة، بل واللانهاية في لغة الرياضيات، وهي كالشعاع في المنهج الحديث – نسبياً – الذي له بداية "←" وليست له نهاية، هكذا هو الشمام كما يراه الشاعر والمتلقي النبيه، أما "أنا" كاتب السطور فقد ذبت فيه.
فالشمام "من جماله كاد ان يتكلما" فهو جميل المنظر يسيل اليه اللعاب وتعشقه العيون منذ الوهلة الاولى، ولو حظيت به ولمسته فهو الوديع الناعم، والمحب العاشق، ومذاقه الشهد القاتل "ومن الحب ما قتل" لكن، دع هذا وذاك والسبب المباشر في افرازات الشاعر النقية، كذلك في قريحته الندية، هو "العطر" الذي يعبق ثناياك على بعد من "الشمام".
المدرسة الرومانسية
يقيناً أن القصيدة تتلمذت في قاعات المدرسة الرومانسية، بل وتخرجت منها بدرجة "شرف" وان عاقرت دروساً في مدارس اخرى احياناً، وقد اشرنا الى ذلك – راجع الجوانب الفنية – فكانت شمعة القدح الجانب الوجداني "الحب" وهو الكلمة الأميرة، والمفردة الأثيرة، وهي سرد وطعم الوجود "الانسان حيوان عاشق، ليس بحيوان ناطق؛ فعشقه أهم ما يميز نوعه، لذا نرى أن العشق وحده من يكتب القلب، والثورة وحدها من تكتب الطريق".
ولمناسبة الحب، والقلب، والثورة والطريق، ومن خلال "شمام والعطر الفواح، لنستمع الى رأي عشاق الجمال في كل أوان وزمان... الى رأي من هم بشر وطراز آخر من البشر... الى الشيوعيين:
قالوا شيوعيون، قلت أجلهم
حمراً بعزمهم الشعوب تتحررُ
قالوا شيوعيون: قلتُ منيةُ
موقوتة للظالمين تقدرُ
قالوا شيوعيون: قلتُ أزاهر، بأريجها هذي الدنيا تتعطرُ
يا سائلي لا تستتب أمورنا، حتى يُظللنا اللواء الأحمر. – توفيق زياد–
القصيدة/
على طولك غفا الشمام
وخدودك ورد ليهسه ما مشموم
هما السطران الأولان، وهي صورة مطابقة، بين الشمام والحبيب وقد اشرنا الى مزايا الشمام الوافية، فأي حبيب هذا الذي عانقه الشمام وعلى طوله غفا، وأي خدود نظيرة "الشمام" الذي ما زال بكراً يحتفظ بكل أريجه حتى يتبادر الى الذهن ان هذا الحبيب لم يكن آدمياً من دم ولحم، بل هو قضية أشمل وأعم، لذا نراه يتفاني لأجله، ويفقد صوابه لو بعد عنه.
انت السودنتني عليك...
اشگ ثوبي عليه إنچان بيّ تلوم
يا شنهو ابحلاتك
وتمر السطور سراعاً، وتدفق المشاعر تباعاً، لكن ما معدن الحبيب، وهل هو من كوكب آخر: - يا شنهو وشوصفك/ صيرتني وياك، لكنه يستحق فهو عامل القوة، ولربما هو النظرية المثلى: "انا بلياك أخافن حتى من روحي/ مد إيدك اليّ وخلي بيك أختل.
لكن يا سيدي الشاعر؛ لا جدوى للـ"ختله" ما زالت يدك بيد حبيبك انت القوي ورجل الرجال... لذا أراك تهد الجبال.