قراءة في «النواعير» مجموعة لفتة مطير الباني / عيسى مسلم جاسم

العنوان، وصورة الغلاف معاً، لوحة "ميثالوجية" تترجم سنة الحياة الكونية، ناهيكم عن حجم الكدح اليومي لسيرة الانسان وبيئته المحلية، فهي صورة زاهية لأجل تسخير الطبيعة، ومع كل مرارة مذاقها، ووخزات اشواكها، هناك نعومة ملمسها.
هكذا هو حال النواعير التي لا تكل ولا تمل. يقيناً انها تتعب مجسدة ومشاطرة تعب وصبر وأمل الانسان "المزارع" الذي يرفع سر ديمومة الحياة "الماء" الى ارضه كمهر شرعي كي يخصبها وتمنحه طيبات وضرورات الحياة، حينها تندمل الجراح وينسى الليالي الباردات المعتمات، حينها يحتفلون سوية "الفلاح، الارض، والناعور" في حفلة عرس سرمدية، يشاركون "الناعور" دورانه في كل الفصول فعيده دورانه، وهو تعب لذيذ له ضروراته. بكل تأكيد فالشاعر يغني على ليلاه، فهو نظير من يبث لوعته من خلال الكلام المبطن، فالبوح بدقائق الأمور "حرام" وثمن البوح به باهظ، لذا فحصة "المرأة" من الكبت والحرمان حصة الاسد، فمن خلال عملية "الطحن" تبث تشوقها، وتذرف دمعها، ولسان حالها: "أطحن بكايا الروح موش أطحن شعير" فالشاعر اعتلى صهوة الرمزية و"الفنتازيا" والاسباب له ولأبناء جلدته. الهيمنة السياسية والاجتماعية وبالتالي الدينية والاعراف السائدة، اكثرت من الخطوط الحمر، وحرّمت حتى الأحلام!
من المنطقي جداً أنه كلام مميز، ولو كان غير ذلك وواضح وسطحي لما سميناه شاعر، فالرمز سمته، وربما تكون وللاسباب التي أشرنا اليها هذه الرمزية لأكثر من هدف او سبب: "نجد القضية السياسية والرمزية المختلفة بذرات العشق الاصيل، كما في النموذج الشعري المغنى والمعروف "البنفسج للنواب"
يا طعم يا ليله من ليل البنفسج
يا حلم.. يا مامش إبمامش
طبع گلبي من اطباعك ذهب
ترخص .. واغليك وأحبك
مهمة – لديّ – جداً الصفحات الاولى لأي جهد انساني، فبقدر ما استوقفني العنوان، كذلك لوحة أو صورة الغلاف، استوقفتني صفحة "الاهداء" فقد كتبها صاحب الاثر الادب؛ شعراً شعبياً كذلك، وارادها من اثني عشر سطراً، وهذا العدد من الاسطر يوحي وبتناص الى عدد أشهر السنة التي تدور مشاطرة "ناعور" الشاعر، وهذه تسير وفق نظام السنن، سأقتبس فقط السطرين الأولين:
روف من صبرك إجروحك
لا يوازيك الوجع يوم وتصيح
لست مغالياً حينما أقول ان السطرين العينة من الاهداء أزاحت الستار عن مكنونات المجموعة الشعرية، وكشفت عن نصاعة الشاعر، وبريق هويته فهو يخشى ذوبان معدن ابناء جلدته حين تعرضهم لنار قاسية تصهر "الفولاذ" لذا يتوجس خيفة عليهم، ويوصيهم بالصبر والثبات، لكن المهم وعلامة استفهام عملاقة، ما الذي ميز الشاعر عنهم، ولربما هو وزير اعلامهم والمتحدث باسمهم، وعلى كل حال فهو لا يتحدث عن فراغ، ولا يطلق النصائح جزافاً لابد ان يكون على دراية، ومسلح بعدته الكاملة، وعبر أغوار المعادلة وأمسى على دراية، انه يتقدم رغم الكم الهائل الثمن الباهظ الذي يدفعه فنوره، وبوصلة هدايته ضوء ثاقب في نهاية النفق مجسداً بيت أبي القاسم الشابي:
اذا الشعب يوماً اراد الحياة... فلا بد ان يستجيب القدر
فالشاعر يمزج الاصرار والعناد الممزوجين بالافكار النورانية والتجربة الناجعة العلمية، لنستمع له فيقول:
يا موسم عذاب إبگاعه نتفلح
إمعاند وي وكتنه الما يمل الغبظ..
بودي أن اضع السطرين تحت المجهر، وان تطلب في انبوبة اختبار كي أضمن صواب وسلامة التحليل، وعند اعلان النتائج كان الآتي:
صورة شعرية جميلة، تحاكي لوحات سلفادرو دالي السريالية. صورة للواقع السياسي/ الاجتماعي الاستبدادي الذي ورثه عن أبيه عن جده، والذي يمتد لعقود وعقود، نشعر بنزيز الكبرياء وفوحان الكرامة والإباء، كذلك شهادة الشاعر الماسية من المدرسة الواقعية ومن جديد نعود الى "بيت القصيد"النواعير لشاعرنا الشعبي "لفتة مطير الباني" الذي جاء بـ 112 صفحة من القطع المتوسط ومن اصدارات ونشريات مجلة الشرارة النجفية، والديوان صمم غلافه الفنان محمد الخزرجي، وزينت صفحاته الداخلية لوحات الفنان والاديب والاعلامي كاظم السيد علي. جاء الديوان حاوياً على قرابة اربعين قصيدة، توزعت على المدارس: الكلاسيكية "قليل منها" والتفعيلية، والحديثة وبهندسة بنائية حدثاوية واحدة، وغلب عليها القصر، وبتفعيلات متفاوتة، مما يبيح لها الموسيقى المتناغمة المتفاوتة النقلات الايقاعية وهذه صفة يتسم بها هذا اللون من الشعر، شعر المنابر والصالات، والذي ترقص له القلوب والاقدام، وتغفو على أحرف رويه وقوافيه الأذن البشرية التي تطرب للايقاع الموسيقي الثابت لذا نلمس سعة مستمعيه وتعدد مستويات رواده.
لكن المؤلم أن شاعرنا، حاله كحال ابناء جلدته محاط بالكثير من الدوائر الحمر فبعد أن تخرّج من المدرسة الرومانسية حين يقول:
لا تدگن باب گلبي...
عمري وشلة ماي ما تروي العطش. الديوان ص 62
حتى الحب ذلك الجذر الانساني يقع طريح الحسرات، كذلك عند نهاية السطر الاول "..." ثلاث نقط، حسناً جعلهن "ثلاث فقط" كي يوصل رسالة الى المتلقي بالنفس شبه المتقطع والحسم على ايقاف "الدك" فالقصيدة هي "بهيده" يقيناً كي لا تلتهب الجراح اكثر.
والشاعر أراد أرسال رسالته لكل الطيبين اصحاب المصلحة الحقيقيين فنراه يعنون رسالته الى مدير عجلة الاقتصاد والحياة "العامل":
شك طيف الليالي، الطيف جذاب.
واشرب من تعب دنياك كاسات.
جبينك لو تنده إيعمر بيوت
وبزندك يشيل الوطن رايات. ص 94، قصيدة رسائل.
وللمرأة من خلال أمه يقول: انتي كتيلي المصايب/ مطر صيف وما يبلل ص 9.
والشاعر يعزز ما كتبه عن امتلاكه السلاح العلمي المجرب:
اشد عمري اعله عودك من يهزه الريح/ يا بخت العمر وياك من ينشد
يا أول "فهد" تتمرجح اعله الموت/ من چان الزمان اسود
يا بحر النضال يا سفينة راي/ ما تعبت اجفوف اللازمه المردي.
شيوعي ابفرحي وبحزني/ شيوعي ابجزري وابمدي. ص 90.
ومذيل بعض القصائد بنشرها في "طريق الشعب".