لوحة شمع واضواء بريشة راسم الخطاط / عيسى مسلم جاسم

يقيناً إن الإبداع هبة سماوية، وقد تتعدد الهبات لفرد واحد فتزدحم قريحته شعراً ونثراً، وتنزُّ يديه فناً أفقياً وعمودياً، بل وتنضح ثناياه حباً وخلقاً، للطبيعة والكون عموماً، والى اسمى الخليقة الأنسان.
شاعرنا راسم الخطاط, وأنا كاتب السطور في حيرة هل جاء هذا الاسم المحشو فناً وابداعاً، بعد جهد جهيد كي يلائم الصنعة الابداعية، وهو الأقرب الى المنطق، أم هكذا هي أسمته وولدته أمه، ففي جميع الحالات هذا لا يعنيني كثيراً. فقط سأتوقف أمام نقطتين اثنتين فقط.
الاولى: أنني لا أسلط الاضواء على صاحب الأثر، فهو ليس بيت القصيد، ربما في مواضع ثانوية محددة، وغير مهمة، بل مربط الفرس، هو الاثر الانساني الابداعي وهو ما شغلنا الآن.
ثانياً – وعلى الرغم من اشارتي في كتاباتي السابقة، بأن النصوص هي التي تكتبني لا أنا الذي أكتبها، ومع اصراري على أن لا أكرر الكتابة عن مبدع حتى ولو تكررت كتاباته اسبوعياً، وقد حصل لمرة واحدة، ولربما اكثر بحدود قليلة ان "حنثت" عن يميني، وتنصلت عن وعدي، وحصل خرق ما، لا بأس في ذلك، فهو قلمي "السيال" يفلت مني، ويسيل لعابي على ما لذ وطاب على مائدة "أدب شعبي" العامرة باشهى النتاجات. هي حقاً وليس كلام في كلام؛ فاحياناً أقع في حيرة وتردد "عمن" اكتب، فكل قصيدة تغويني، وتشدني الى الاعماق تكاد تغرقني في بحر الابداع.
"راسم الخطاط" نجم ثاقب أغراني كغيره من القلائل المبدعين الذي سميتهم في كتاباتي المتواضعة السابقة، اكتب الآن، وأنا وجل لأني تراجعت عن قراراتي السابقة، ولكن لا مناص من ذلك الأبداع الشعري الذي اليه اندلق لعابي وفقدت السيطرة على قدراتي، قولوا معي:"حصل خير".
عاجبني أرسم شمع – قصيدة الشاعر الشعبي الذي تحدثت عنه في سطوري اعلاه وهي منشورة في جريدتنا الاثيرة/ طريق الشعب بعددها 194 لسنتها 81، الخميس 26 أيار 2016، الصفحة 5 أدب شعبي.
وبما أنني تعجبني وتسحرني العنوانات، فهي لوحة تخطيطية وزاوية ايجازية وفصلية استطلاعية تسبق الحدث، لذا صار لزاماً عليّ التوقف الضروري عندها.
فالرسم، لغوياً واصلاحياً يعني الموقف والتشريع والوعي والابداع، وعدم الركون او الانصياع. فلربما ينطرح السؤال، كيف كان الرسم ابداعاً؟
نعم هو نتاج نادر قلما يقتدر الآخرون من اتيان نظيره، وهذا ينطبق على الشعر وباقي الفروع والألوان الابداعية من أدب وفن ومعارف.
الشاعر الرسام والخطاط أراد ان يرسم، وهو الرسام والخطاط "له ولأهله" أما الابداع الثاني؛ فقد جاء بـ"المعقول" الذي في عيون الآخرين "لا معقول" شاعرنا سجل ابداعاً مزدوجاً، فالرسم ابداع، ورسم الشمع ابداع ثانٍ.
الشاعر أراد ان يقدم "ثيمة"سريعاً على الرغم من عدم تخليه عن الرمزية وصيغة "الفنتازية" واتضحت جلياً "الميثولوجيا" الاجتماعية، فضلّ "الشمع" كمادة وآلية لرسم اللوحة السريالية لكن مع كل الطرح وتلك الاشارات، نراه وقد خرج متأبطاً ادواته الفنية ولوازمة الضرورية، خرج من الباب الواسع للـ"واقعية- الاشتراكيى" هي مادة الشمع فقط جاءت مختومة بانتمائها الى هذه المدرسة الحديثة العالية فهي لأجل الجمهور الواسع الأفقي.
كتب الروائي احمد غانم عبدالجليل على جدار صفحته: "تتحير الكلمات في اختيار الوانها عندما تبدأ ملامح رسم وجهك، ألم أقل لك تتحير الكلمات هكذا شاعرنا راسم الخطاط يرسم بالكلمات، وقد سبقه، نزار قباني في قصيدته الرسم بالكلمات:
"كل الدروب أمامنا مسدودة، وخلاصنا في الرسم بالكلمات: يقيناً إن شاعرنا الخطاط استنفد ادوات الرسم التقليدية لذا لجأ الى الرسم بـ"الشمع" للمدلولات التي أشرنا ونشير اليها لاحقاً، ولربما البعض بقي في غفلة منا "في زوايا ميتة" لا يدركها الا الشاعر وفق الموروث الادبي الاجتماعي "المعنى في قلب الشاعر" ويعزز المعاني الشاعر اليوناني "سيمونيدس" فيقول:
"إن الرسم شعر صامت، والشعر تصوير ناطق"
نعود الى مشغل شاعرنا ورسمه لوحته، بل جداريته وبالشمع، وهنا لا بد من التوقف عند الشمع:
اولاً: لانه عنوان للتضحية والايثار يشطب على ذاته كي يسعد الآخرين ينير دروبهم، يرسم مساراتهم، وبالخطوط العريضة يحدد لهم المعالم ويثبت خارطة للطريق، وموضوع الفنتازيا يقودنا الى الجانب الفكري التنويري الذي يشير الى الخلاص: "لا توجد حركة ثورية بدون نظرية ثورية – لينين".
ثانياً: ان الذوبان لم يكن "سادياً لمجر الذوبان، بل لاجل هدف سام نبيل فالجود بالنفس اسمي غاية الجود، فلقد احسن شاعرنا وتميز باختيار الشمع للاسباب الرمزية التي أشرنا اليها مراراً، ناهيكم عن قلب الشاعر.
القصيدة حدثاوية المضمون، تدفقت بانسيابية عارمة حسب الدكتورة الناقدة "نازك الملائكة" في كتابها "قضايا الشعر المعاصر" وعن تمرد القصيدة على الشاعر وانفلاتها، اما شاعرنا فقد جاء بيده طوعاً وبدون عناء.وعند التمعن في البناء الهندسي نجدها وفق قوالب شعر التفعيلة من خلايا الموسيقى وصدى حروف القافية والروي، كما جاءت متفاوتة العدد في التفعيلات وبذلك أبعد الرتابة عن الايقاع فهي على الرغم من صلاحيتها للـ"قراءة" فهي بامتياز قصيدة منابر".
أضف الى ذلك فالقصيدة تألفت من واحد وثلاثين سطراً، وهذا العدد قريب جداً من عدد حبات "مسبحة التسلية" يقيناً شاعرنا قد داهمته القصيدة وأطربته على الرغم من محتواها "الواقعي" والحزن في الوقت ذاته. أرادها الشاعر بمقطعين الاول تألف من تسعة عشر بيتاً او سطراً، والثاني من اثنى عشر شطراً، لا أرى جدوى من تجزئة القصيدة الى مقطعين نظراً لوحدة الموضوع.
القصيدة مشبعة بالرمزية والفنتازيا وكذلك احتوت على صور شعرية ورومانسية جميلة تكون قد ولدت تواً، فهو يمزج الصور الظاهرة والتغني بالحبيبة ويشدها بحب فولاذي مع المعنى الباطن وهو الأعمق؛ حب المبادئ والقيم وعشق القضية.
چي گتلك إنت ضوه
عاجبني ارسمك شمع
بس انت من تشتعل، اكره أشوف الدمع.
هي السطور الثلاثة الاولى، من القصيد، فالشاعر يربط ربطاً علمياً بايولوجياً، ديالكتيكياً، بين الضوء وثمن هذا الضوء، ولابد من دفع الأثمان بسخاء، كي يتواصل الضوء ويستمر العطاء، فالقضية لابد لها من زيت وهو الشمع مادة الشاعر، ومع ديمومة الضوء، واستمرار تدفق طاقته وعنوان تواصله، فالشاعر، وهو الفنان مرهف الاحساس ينذهل برهة، حين يرى "الدمع" الذوبان، لا ريب من دفع الأثمان كي ننعم بالضوء وبالامان. لا بد يا سيدي الشاعر، لكن قلقك ورفضك الدموع هو موقف انساني واعٍ.
الشاعر يتنفس بنبض ابناء شعبه، وقدأشرنا الى واقعيته فيرسم صور الويلات التي ابتلى بها شعبه ومن يراهم عن قرب من ابناء جلدته، نلمس ضربات فرشاته في صور مؤلمة والوان قاتمة:
طالب ترك مدرسه
بلكن يعيّش هله
السبوره كلش علت
والطفل عايز شبر
أرجف قميصي إنمزگ
بس أچو گلبي جمر
هي صور ليست بجديدة بل متوارثة من الآباء والأجداد، وهي ليست قدراً مكتوباً بل هي وفق أجندات سياسية، اجتماعية، وتوظيف الجانب العرفي والروحي وتكريسها وشرعنتها.
ومع المرارة ولتفاقم واقع الحال يتحسر الشاعر وهو لسان حال ابناء جلدته:
ومن گبل چان العشگ
يا عمي مو تحريم
اي من گبل من گبل
من زمن دار ودور
من چان عدنه وطن والوطن ما مهجور
من چانت أمي تخبز وتنورهه من طين
ومن چان چعب الشهر يزوّد عدهه طحين
ويختتم الشاعر القصيدة بـ"حسرة" خطورة الحال فيقول:
گلي شارسمك بعد/ وانت انزلت بالنفس/ وصعدت بيه من صعد.