ادب وفن

تأصيل الأدب الشعبي في رواية «النخلة والجيران» لغائب طعمة فرمان / احمد عواد الخزاعي

نشأت القصة العراقية الحديثة في مطلع عشرينيات القرن الماضي، بعد أن تأثرت بعدة اتجاهات أدبية وأساليب سردية خارجية، واخذ هذا الفن ينمو ويتطور مع تطور الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في العراق، وبرز عدة كتاب اتخذوا من هذه الاتجاهات الفكرية والأدبية مسارا لهم في كتابة القصة والرواية ، كلا حسب ميوله الفكرية وذائقته الأدبية ودرجة الوعي التي يمتلكها وقدرته الأدبية على الولوج في الكتابة بهذا الاتجاه أو ذاك، ومن ابرز الاتجاهات التي ظهرت ( الاتجاه الرومانسي والاتجاه الواقعي والاتجاه الذاتي أو النفسي والاتجاه التاريخي والاتجاه البوليسي ) .. إلا إن الاتجاه الواقعي في الأدب العراقي في بداية نشأته ظل يعاني من السطحية والسذاجة من خلال تناوله مواضيع لا تمس جوهر قضايا المجتمع ، إضافة إلى غياب الرؤية الواضحة وافتقاده الكثير من عناصر السرد الرئيسة، لذلك حاول القاص والروائي محمود احمد السيد جاهدا أن يعيد صياغة السرد العراقي بطريقة تمكنه من الوصول إلى فن قصصي يتفاعل مع الواقع بطريقة موضوعية، وأكثر رصانة وحرفة ، فانقطع عن كتابة القصة لمدة خمس سنوات انشغل فيها بدراسة الأدب الواقعي الروسي وكتابة مقالات أدبية هاجم فيها المنجز الأدبي العراقي في فترة العشرينيات بصورة عامة، وما كتبه هو بوجه خاص ، حتى قال (إن كل ما كتبه سابقا لم يكن أدبا بالمعنى الحقيقي) ، وتمنى أن يمتلك سلطة تمكنه من إحداث محرقة كبيرة لكل ما كُتب من فن قصصي وروائي في تلك الفترة، وأسس لاتجاه جديد في القصة العراقية اسماه ( الأدب الشعبي ) وعرفه : هو الأدب الذي يكون مرآة لحياة الشعب، يعبر عن شعوره وأحلامه وأحزانه ومسراته وآماله ، ويمكن أن يتحول في المستقبل إلى مصدر للمؤرخين الذين يكتبون تاريخه الصحيح، ويبحثون في كيفية العيشة التي عاشها في ذلك العصر.
وعلى الرغم من هذه المحاولة التصحيحية الجادة في الأدب القصصي الواقعي العراقي ، إلا إن هذا الاتجاه لم يتطور بشكل ملحوظ وبقي يعاني الكثير من الإخفاقات الكبيرة ، وظهر كتاب في مطلع الثلاثينات منهم ( انور شاؤول وجعفر الخليلي وشالوم درويش وذو النون ايوب ) كتبوا قصصا واقعية هزيلة لم تتمكن من مواكبة التحولات الاجتماعية والسياسية في العراق واستمروا في معالجة قضايا هامشية ، وهو ما أطلق عليه الناقد ياسين النصير ( الواقعية الساذجة) ، وتعد رواية النخلة والجيران لغائب طعمة فرمان والتي صدرت عام 1966 قمة ما وصل إليه الأدب الشعبي بنزعته الواقعية، من نضوج ووضوح للرؤيا الأدبية وتمكن للقاص من أدواته ( السرد ،الحوار ، الفكرة ، الحبكة ، التحليل ) واتحاد بين الشكل والمضمون.
تبدأ القصة بحوار صاخب جدلي بين سليمة الخبازة وابن زوجها حسين ، بعد أن اعتاد سرقة نقودها، ثمن وقوفها ساعات طويلة أمام تنورها الطيني وبيعها الخبز، هذا النزاع الذي يستمع إليه معظم الجيران في البيوت والخانات المجاورة ، سليمة الخبازة أرملة علاوي السائق الذي رحل عنها مبكرا بحادث سير وتركها تخوض معترك هذه الحياة وحيدة بلا معيل، في بيت قديم يشاركها فيه ولده حسين الشاب المتمرد العاطل عن العمل ونخلة (قميئة) كما اسماها الروائي ، تلك النخلة القابعة في فناء البيت قرب الحائط، وسط المياه الآسنة والتي لم تنتج سعفة واحدة لسنين مضت ولم تثمر مرة واحدة في حياتها ( فتحت عينيها رأت أمامها نخلتها القميئة تبرك قرب الحائط وسط دائرة سوداء، نخلة مهجورة عاقر مثلها ، تعيش معها في هذا البيت الكبير خرساء صماء) ارتبطت هذه النخلة مع سليمة الخبازة بعلاقة غرائبية متباينة ، بين كونها تمثل لها جزءا من ماض جميل ، عاشته مع زوجها علاوي، وبين الخوف منها ، وقد أفصح الكاتب عن هذا الخوف في الليلة التي سبقت زواجها من مصطفى الدلال (كانت فرحة وخجلة أنثى تستقبل بعلها، هذا آخر يوم لوحدتها، لن تخاف النخلة بعد الآن).
هذه النخلة التي أراد لها الروائي غائب طعمة فرمان أن تكون دلالة حسية ومادية على سليمة الخبازة وعلى طبيعة ذلك المجتمع البغدادي بوجه اعم في مطلع الأربعينات من القرن الماضي أبان الحرب العالمية الثانية ، الذي كان يعاني البؤس والفقر والجهل والحرمان، مجتمع بائس ألف أناسه حياة الأزقة الضيقة الغارقة بالمياه الآسنة والبيوت والخانات التي تفوح منها رائحة الفقر والعفن ، ليدخلنا الروائي في هذه الأجواء ، كي نلج خضم أحداث روايته ويأسرنا عنوة بتتبع حركات وهمسات أبطالها ، الذين وضعهم ضمن نمطية سلوكية ونفسية تتقاطع مع ما تحتفظ به الذاكرة الجمعية لدى الكثيرين حول طبيعة هذا المجتمع وطريقة معيشته وتفاصيل حياته اليومية، كان أبطاله أناسا ضجرين متململين متحاسدين من وقع الفقر الذي يلف حياتهم ، لكننا في الوقت نفسه نجدهم أناسا حالمين ، يعيشون رؤاهم وأحلامهم البسيطة التي لا تتعدى في أحيان كثيرة حدود السدة الترابية المحيطة بمحلتهم القديمة، سليمة الخبازة المرأة المحبطة التي تنشد الخلاص من واقعها المرير والتي قادتها أحلامها إلى أن تعطي شقاء عمرها إلى مصطفى الدلال كي تصبح شريكة في فرن للصمون خارج حدود محلتها ( بذاك الصوب) مع رجل ارمني ، لتستريح من عناء التنور ، ليتضح لها فيما بعد إن أحلامها لم تكن سوى سراب وانها كانت صيدا سهلا لحفنة من النصابين ، مصطفى القادم إلى بغداد من مدينة النجف قبل عشرين عاما يقوده حلم الثراء في هذه المدينة الكبيرة في مجتمع غريب عنه ، ليجني الفشل بعد سنين طويلة من الكد والشقاء ويحط رحاله الأخير عند سليمة الخبازة طمعا في مالها والتي أصبحت زوجته فيما بعد، مرهون الأحدب (سايس الطولة) الذي ظل يحلم بثراء بعيد المنال ، جرب أن يكون ملحدا تشبها بأحمد أغا صاحب (العربخانة) الثري ، عسى أن ينال جزءا يسيرا من حضه، ثم تحول إلى رجل مؤمن لا يفارق صلاة الجماعة في محاولة أخرى منه لتحقيق حلمه نحو الثراء، تماضر الفتاة الهاربة من أهلها، المتمردة على أعراف بيئتها ، الحالمة بحياة أكثر حرية في كنف رجل قوي مفتول العضلات، ليدفع ثمن جموحها هذا عشيقها حسين الذي انتشلها من الضياع على باب إحدى سينمات بغداد القديمة لتصبح عشيقته ، لتهرب مرة أخرى مع رجل آخر بعد أن امتهنت البغاء، يبدأ بعدها حسين بحلمه الجديد بأن يصبح احد أشقياء بغداد القديمة.
الحلم كان لونا ضبابيا صبغ الإطار العام لحركة أبطال رواية النخلة والجيران، كانت أحلامهم عقيمة لم تفض سوى إلى مزيد من البؤس والحرمان وأمنيات يسلون بها النفس الضجرة الحائرة .. في حوار طويل تحاول فيه رديفة زوجة حمادي (العربنجي) أن تجعل ابنتها الصغيرة تكف عن البكاء وعن طلبها الشاي الذي لا تمتلك نقودا لشراء سكره .. يعلق الروائي بقوله : هذه جملة ورثتها رديفة عن سابع ظهر .. ويقصد الحلم الذي رافق الفقراء عبر التاريخ بأن هنالك منقذا سينتشلهم في يوم ما من عوزهم وفقرهم ( كلشي يتعدل مراح تبقى الدنيا هيجي، باجر عكب باجر ما نشوف الا الباب تندك اصيح من مكاني منو منو يدك الباب ؟ اسمع واحد يكول اني فارس الفرسان، واطلع وشوف فارس حلو وجهة عليه هالة نور راكب على فرس شهبة نظيفة تلمع.. اكولة عيني شتريد ؟ يرد علية منو محتاج منكم ؟ اكوله احنه عيني احنة الشايب صارله شهر نايم بالفراش).
رواية النخلة والجيران عالم خفي أفصح عنه غائب طعمة فرمان، بطريقة جدلية تنم عن قدرة عالية امتلكها هذا الكاتب ووظفها لخدمة الفكرة التي يسعى إلى إيصالها إلى القارئ، وان يطلعه على الحقيقة كما هي بدون رتوش، وهذه هي مهمة الكاتب الذي يحترم أدبه وقلمه ، عبر فيها عن صراع خفي بين الماضي والحاضر ، الحداثة والموروث ، مستخدما أدوات رمزية بسيطة لهذا الغرض ، صراع بين تنور الطين الذي يمثل الماضي والموروث وجزءا من الحاضر مع فرن الصمون القادم مع وقع اقدام الجنود الانكليز العائدين مرة أخرى لاحتلال لبغداد ، (العربخانة) وبيت سليمة اللذان بيعا ومعمل السكائر الذي حل مكانهما.. هذه الحادثة التي شكلت جرس إنذار لدى أبناء المحلة ونذير شؤم لمستقبل قادم مجهول المعالم لديهم، مستقبل يحمل في ثناياه مدنية جديدة فرضت بفعل الزمن ، إلا أنهم لم يستطيعوا استيعاب تداعياتها وناؤوا بحمل وطأتها عليهم ، جسد هذه المخاوف حمادي العربنجي حين سمع خبر بيع بيت سليمة الخبازة من قبل ابن زوجها حسين، بقوله ( خربت الدنيا الطولة انباعت والنخلة راح تنكص اش راح يبقى بالدنيا).
تعد ظاهرة الشرح والتعليق والقطوعات بين ثنايا السرد العراقي بشطريه القصة والرواية كبوة لم يتمكن الكتاب العراقيون من التخلص منها أو تجاوزها ، حتى الكبار منهم أمثال غائب طعمة فرمان وذو النون ايوب ومحمد خضير، فنجد لهذه الظاهرة حضورا واضحا في بعض نتاجاتهم الأدبية، على الرغم مما تسببه من ارباك داخل النص الأدبي، وتعمل على إضعافه وفقدانه الشيء الكثير من قيمته الفنية ، ففي قصة واحدة نجد أكثر من عشرين قطعا وشرحا وخروجا عن سياق السرد العام داخل النص كما في قصة (حكاية الموقد) لمحمد خضير والتي جاءت ضمن مجموعته القصصية المملكة السوداء، وهذا ما نجده أيضا في النخلة والجيران في أكثر من موضع داخل النص، فكثيرا ما يعلق الكاتب أو يشرح أو يبرر اثناء السرد .. في حوار بين حسين وصاحب ابو (البايسكلات) حين طلب منه بعضا من المال الذي يدخره عنده ، والذي اخبره بان نقوده على وشك النفاد رد حسين بعبارة ( البركة بالحجية ) وهنا يعلق الكاتب بقوله (يقصد زوجة أبيه) وفي مكان آخر هناك حوار بين نشمية صاحبة النزل وتماضر (الأهل يكذبون الأعور يسون عينة مثل الساعة والشايب ابن العشرين والركاع قندرجي، سووهه بيه اعرفهم ، قق قق ، وهنا يعلق الكاتب شارحا ( الكلمتان الأخيرتان موجهتان للديك الذي أراد ان يصعد الحائط مرة أخرى) وتتكرر هذه الشروح والتعليقات في محطات كثيرة ضمن السرد.. لكن على الرغم من هذا المأخذ البسيط، تبقى رواية النخلة والجيران للروائي الكبير غائب طعمة فرمان ، تمثل انعطافة مهمة في تاريخ الرواية العراقية وهي ذروة التأصيل للأدب الشعبي ، يقول فيها الناقد الدكتور علي جواد الطاهر ( إن كل الذين كتبوا نصوصا سردية عن المجتمع البغدادي القديم بعد النخلة والجيران لم يأتوا بشيء جديد عما طرحه غائب طعمة فرمان فقد أحاطت روايته بكل جوانب وحيثيات ذلك المجتمع) ..فقد اختار لها حوارا باللهجة الشعبية، ليكون أكثر قربا وحميمية للقارئ، ووسيلة للتعبير الصادق عن الانثيالات النفسية والعاطفية التي كان يعانيها أبطاله، ولتكون أكثر انسجاما مع شخصياتهم البسيطة ، وقد نجح بذلك نجاحا كبيرا حتى عدت هذه الرواية من أفضل مئة رواية عربية خلال القرن العشرين.