الحالم في يقظته / قصص سركون بولص أنموذجا ً "2-2" / جاسم عاصي

سركَون بولص يُعد في طليعة جيل الستينيات من القرن المنصرم ، فبالرغم من أنه عُرف شاعرا ً، إلا أنه نشر في بواكير حياته الأدبية ،عددا ًمن القصص المتميّزة في تكنيكيها ومضامينها الوجودية التي تعالج نماذج من أُستلبت حريتهم وصودرت حقوقهم ، ومن الذين يعانون من القلق إزاء مجريات الواقع . بل يمكن أن نقول عنهم ؛ كونهم على قطيعة مع الواقع ، يشعرون بالعزلة والتهميش.
الكتلة الجاذبــة
من جملة ما انشغلت فيه قصص ( سركَون ) هي أزمة الانتماء إلى الجماعة ، فإذا كانت القصص السابقة، تعالج هذه الثيمة من خلال غياب هذا الانتماء ، الذي دفع في كل الأحوال إلى شطر الشخصية أو النموذج، وضياعه وتبعثره كشخصية اجتماعية ، تنتمي إلى أسرة ومن ثم إلى مجتمع ، وبالتالي إلى وطن. إذ نلاحظ في معظم النماذج من الشخصيات، كونها أضاعت الطريق، لفقدان العلاقة الجدلية مع الحاضنة الأساسية في الوجود، فبطله غير المنتمي إلى الجماعة يعاني من صرعات مزاجية، يحمله وعيه عالي الثقافة إلى منزلقات خطيرة كما لاحظنا في حراك العلاقة المتدهورة التي عالجتها القصص في حياة النماذج ، التي تميل في اغلبها إلى الانتحار أو الهرب من المكان ، لأنهم أساسا ً يلغون الهوية الذاتية التي تنتمي إلى الهوية الموضوعية . غير أنه في قصة ( العلبة والكتلة ) على غير هذا تماما ً. صحيح أن انتماء الشخصية إلى الجماعة كان بمحض الصدفة ، لكن بطبيعة الحال، أن هذه الصدفة، هي حاصل تحصيل لتلك العلاقة الكبيرة والإنسانية. كما وأنها ــ أي حالة الانتماء ــ تقوده إلى آخر الشوط ، بحيث وجدنا أن طبيعة النص وتركيبته النصية ، اختلفت عن سياق النصوص السابقة ، فالسرد متوال ومتراتب ، وذو وجهة راصدة لحدث كبير تتحرك حيواته بوضوح في حيّزها العام ، وتتطور بفعل تطور الفعل العام للجماعة ، أي أن فعل الفرد يتطور بتطور فعل الجماعة . فهو ينتمي لمجموعة غير عشوائية في تشكيلها، متماسكة حتى في مواجهتها للآخر المضاد. و( آدمون) انتمى لمجموع المتظاهرين بفعل طبيعته المغامرة و نزواته التي كثيرا ً ما وضعته بمواجهة السلبي في الوجود كما رأينا . غير أنه الآن يتحرك بفعل إرادة مضمرة يحركها هيجان المجموعة . في هذا النص ، لم تجتمع العبارات التي تضع الآخر في صف الحيوات الوضيعة ، ولم يُسقط نعوته على النماذج المشاركة بما يسفه أفعالهم ، ويطعن بصيرورتهم ، وإنما ظهر في هذا أكثر تماسكاً ،كما هو طبيعة السرد في النص . حيث ظهر سردا ً متماسكا ً وراصدا ً دقيقا ً للأفعال وردود الأفعال . والنص منذ عنوانه يرمي إلى فصل الصور عن بعضها ، فالعلبة موطن ضيّق ، ولعلاقته بمجريات النص، كونه واصفاً على تحديد الصور في إطار جائر، فالعلبة تحبس الأشياء، لكنها بفعل الضغط تولد تكتلا ً سواء في داخلها أو خارجها ، لذا كان مكمن العنوان في النتيجة التي عانت منها الجماعة داخل العلبة ، ككتلة بشرية مسلوبة الحقوق. فهو عنوان ذو صياغة ذكية . وتواصل مسار النص، أي حصل بفطنة على العكس مما اعتاده نص القاص في صياغة اللغة ذات المحمولات الخاصة والنافرة، والصياغات الغريبة والمجددة والوحشية في أحايين كثيرة . مفردات استفزازية جائرة ، لكنها هنا محايدة تماما ً . فالمشهد القصصي يبدأ من خلال رصد حركة طائر الوطواط في الغرفة ، الذي يثير النموذج ، ويحرك ملَكته في التذكر ما يحصل من تماسّ جسد الطائر لجسد الإنسان ، وهي مفاهيم شعبية ، دالة على حرير جسده المرائي . يستكمل المشهد بإطلاق سراحه التلقائي وسط تخبطه لحين حصوله على مجال النافذة المفتوحة . وبذلك استطاع أن يعبّر عن الكثير من المفاهيم ، منها الحرية المتأتية من مفهوم ودلالة العلبة ، نزوع الطائر من أسر الغرفة خارج إرادة النموذج ، وهو مواز لحالته داخل الغرفة التي ينطلق منها نحو المظاهرة . هذه المعادلة تشكّل صلب النص . أما وصف الصورة في الغرفة ، فهو أساسا ً منحنا رؤية الشخصية وسط وجود مضطرب :
( كان فوق رأسه إطار خشبي يضم صورة مسيح عار باللون الأسود... كانت تقاطيعه بارزة والظِل طاغيا ً حول رأسه ذي الهالة . وحدق آدمون في وجهه بوجل : كانت عيناه مرفوعتين إلى أعلى ، ناظرتين إلى شيء غير ظاهر . وكان المسيح مدهوشا ً بعمق. هبط أخيرا ً بعينيه إلى صدره البارز الضلوع ).
توازي الحزن وتماثله
يبدو لي أن القاص مشبع بالتنوع ، وثراء الصور التي تنّم عن تراجيديا الإنسان المتوحد مع نفسه ، الباحث عن موطن استقراره وحريته وصفاء عيشه . فهو في معظم ما عالج من نماذج ، وجدناه ينحاز إلى المطرودين عن مجالهم ، المصادرة حقوقهم ، الباحثين عن صيرورتهم وسط كم من العلاقات المشوهة والجائرة . لذا كان هذا الإنسان مسحوقا ً على طول الخط الدرامي الذي يعالج من خلاله وجودهم المقتول عمدا . وذلك لغياب مبدأ العدالة الاجتماعية والإنسانية . ونموذج قصة ( الحمامة والزنجي ) تدور في فلك هذه الوحدة التي انشطرت إلى وحدتين بالصدفة . فبينه وبين الحمامة المستلبة ثمة خطان موازيان يرسمان وجودهما ، فحين يُسأل عن مأوى للحمامة ، وغياب جناحيها المقصوصين ، يعني وحدته وغياب مأواه الطبيعي في الوجود . وحين يُسأل العكس تكون الحمامة دالة على تشردهما . إن وجودهما معا ً يعني تحقيق المعادل الموضوعي جرّاء حياتهما معا ً ، تقوده ويقودها . إن السارد يتقصى الحالات الأكثر مأساوية في مسيرة الاثنين ، وتماسّ وجودهما مع الآخرين ، ما يزيد من تراجيديا الحياة ، التي يعيشها المهمشون على الأرض . إن المعادلة بين وجوديهما تكاد تكون متعادلة . ( لن يجد مكانا لنفسه الآن . ولا للحمامة ) وظل هكذا يلوذ بالمقتربات وعتبات البيوت والفنادق ، باحثاً عن مأوى يضمهما . وكان ظهور المرأة من علبة الليل أكثر في معناه لزيادة مأساة الاثنين . كان وجودها معذباً ، بل أكثر منهما بسبب مداهمة الضياع للمرأة بسبب امتهان جسدها الذاوي بمرور الزمن: ( لماذا أنت حزينة يا حمامة ؟ لماذا أنت متعبة ؟ )
( لماذا ؟ لماذا أنت هكذا حزينة ، حزينة ، حزينة ! )
هذا التكرار فيه نوع من التعويض عن ضياع المرأة في خضم الدنس اليومي ، تحاول أن تستدرجه من خلال الحمامة التي تركها الزنجي بين يديها . مما يُزيد من كثافة حزنها على نفسها بدلالة الحمامة كرمز :( سأطفئ الضوء ، أنت نعسانة ، وكذلك أنا يا حمامة، نعسانة جدا ً . ووضعتها على السرير برفق ، ثم بدأت تخلع ملابسها وهي تنظر إلى الحمامة . وحينما انتهت المرأة من ذلك انسلت إلى سريرها وأرقدت الحمامة إلى جانبها ونامت ) بينما بقي الزنجي يكابد وحدته ، ولكن بأمان هذه المرة بعيدا ً عن التشرد في الشوارع .
الضياع في اللجة
لعل (سركَون) بولعه بهذه العوالم المتطرفة ، من باب الوجود الإنساني للإنسان مثار بشكل تراجيدي ، فهو يحمل حزنا ً وفيرا ً تحدده نظرته للوجود ولحيواته التي سلبت منه كل شيء . لذا نجده يسقطها على كل شيء أيضا ً، خاصة على وجود الإنسان خارج منظومة الجماعة ، أو المطرود عنهم . كما وأنه يتعامل مع هذه الأجواء بنَفَسٍ حزين بكثافة وجودهم الحرج ، ووجودهم ضمن الهامش المستلب . وفي قصة (يجوب المدن وهو ميت) أكثر بلاغة في تحقيق هذا المنحى ، فنموذجه مشرّد كالعادة دون مأوى ، لكنه مأوى للمقهورين من أمثاله ، يحتمي بالغجر وعالمهم البائس والمثير للشفقة . كان مشهد القصة منذ البدء ينمّي مثل هذا المرتكز للنموذج ، غير أنه أوقعه في شرك الإثارة للحزن من جديد . إنه ملاذ على أية حال ، كما تراه الشخصية . وفي حواره مع الغجرية حول الراقد في أسفل العربة تتكشف له صورة المأساة التي يعيشها ، وما سوف يعيشها برفقة الغجر :
( ــ أظنني سأعود .
ــ إلى أين ؟ تعود إلى أين ؟
ــ لست أدري إلى أين .
..............
..............
ــ أصعد هيا وإذا شئت نم هنا .
كان الصبي نائما ً ، والقرد منطفئا ً في ركن ناء من العربة المظلمة. وارتجفت حين فكرت بالرجل الميت ، قلت :
ــ انتظري أخبريني ، هل هو .. هل هو ميت فعلا ً ؟
ــ هو نعم ، لقد مات لا تخف منه ، إنه نائم، اعتبره نائما كي لا تخاف . مات ، نعم .. نعم يجوب المدن وهو ميت ، منذ أخذ يبيع كل شيء ، يبيع نفسه ، يبيعني . مات قبل أن يبيع العربة لحسن الحظ ).
هذا الحوار نمَّ عن حزن كثيف ، وعدم رضا على ما هم عليه ، لا لأنهم غجر ، بل لأنهم بشر يحلمون بالعيش بأمان ودعة . وكان المقطع الأخير من القصة يحكي مأساة الشخصية في النص ، هذا الذي يعاني من الضياع مثلهم :
(لم أتردد بعد وصعدت إليها . كان الفانوس يرتجف وقد بدأ مطر جديد يهطل ، وكنت أشعر بغموض أنني أركب سفينة من نوع غريب ، تضطرب وسط عاصفة . ورأيت وجه المرأة . كانت صغيرة شابة . واستدارت وبرزت تقاطيع وجهها جيدا ، وأدركت أنها تبكي .وربما منذ مدة طويلة . وقبل أن آتي بأية حركة . قالت وهي تتأملني كأنني طفل بائس : ــ هل تريدني ؟ )
ولا يختلف نموذج نص ( غمرتني اليقظة كالماء) في كونه يعاني من الضياع . وكان الشخص الثاني يراقبه ، ويكشف عن حالاته ابتداء من الغرفة التي تجمعهما معا ً وحتى ساحل النهر والقارب ، وعودة الشخص الثاني وبقاء (آدمون) في القارب . كان الشخص الثاني يراقبه في نومه ويذكر (حاولت أن أتظاهر بأنني لم أر شيئا ً . ولكنه أخذ ينشج ، فلم أستطع أن أتفاداه) هذه المراقبة تقود إلى مكاشفته أثناء اليقظة ، فظهر لنا أكثر حزنا ً وشعورا ً بالوحدة والضياع :
(ــ لقد تأخرت .. تأخرت 1
ــ ليس هناك ما تتأخر عنه . هل ستسافر ؟
ــ لا ــ شهق ــ تأخرت طيلة حياتي.
ــ لا أدري لِمَ هربت على كل حال ؟
ــ من البيت ؟
ــ وإلى هذه المدينة القذرة .
وردد بضعف .. هذه المدينة القذرة جداً)
هذا الضياع والشعور بالوحدة ، واكب معظم نماذجه ، لكنه عالج عقدتهم هذه بطرائق متنوعة ، دالة على مهارة في السرد ، وقدرة على صياغة ما هو خاص نحو ما هو عام . كذلك إمكانية تكثيف وتراكم البنيات النفسية التي تخلق النوع عند الشخصية . من هذا نجد (سركّون بولص) كقاص ، وعلى قلة نصوصه ، أبدى براعة ، سجّلت موقفه من حراك خص حُقبة ستينيات القرن المنصرم ، كما هو فعل الروائي (فاضل العزاوي) ساردا ً ، كذلك (يوسف الحيدري) في معظم قصصه التي عالجت منحى وجوديا ً لمعظم سلوك شخصياته عبر مجاميعه القصصية .