سيرة محمود عبدالوهاب بحجم كف/ * جاسم العايف

"أنْ تكتبَ يعني أن تقولَ لمن يُصغي إليك قولاً يجهل حقيقتَه أو شيئاً من حقيقته ، وإلا فلماذا تكتب أو تقول.
أن تكتب يعني أن تملك ما يُقال، وما يقال ينبغي أن يكون نافعاً. الكتابة مخاضٌ حقيقي، ومن دون هذا المخاض تُولد النصوص خُدّجاً. غالباً - إن لم تكن دائماً - تأتي الكتابة عن الذات في نهاية العمر لا في بدايته ، والكتابة عن الذات هو ما يُصطلَح عليه في الأجناس الأدبية بالسيرة الذاتية التي يُكرّس فيها الكاتب جهده في سرد حياته وتجربته ومواقفه من الحياة والفكر والإبداع . أهي القبض على ما فات من سنوات العمر الجميل والإمساك بها؟. أهو رثاء العمر أم زهوه"؟
محمود عبد الوهاب
نحتفي صباح اليوم، برواية "سيرة بحجم الكف"، لأستاذنا محمود عبد الوهاب، دون أن نتطرق إلى سيرته ، كونها حياتياً - ثقافياً، واسعة بسعة هذا العالم، الذي عاشه وجهد طويلً للمساهمة في محاولة تغييره، بالوسائل المتاحة له، من أجل حياة إنسانية - عادلة و لائقة بالبشر، بغض النظر عن اللون والعرق والجنس والدين، والزمان والمكان .
"سيرة بحجم الكف"، هي حكاية رجل شغف بالكتب وقراءتها:.. " تأسرني الكتب كثيراً. متى نشأت هذه الهواية..؟. هل أسمّيها هواية بعد العمر..؟، متى تأصّلت..؟. أجهل تحديد الزمن تماماً ،لكنها إذا اقترنت بعمر إنسانٍ تجاوز العقد الخامس الآن، قد تُعدّ تاريخاً متقدماً".
مرة دخل السارد سوق الكتب القديمة، وقصد إحدى المكتبات واقتنى كتاباً، ووجد فيه صورة فوتوغرافية قديمة، ومن خلال الصورة، تبدأ حكايته لتجدد الحضور في شخوصها، والذين يسعون الى التحدث عن أنفسهم، عبر السارد، من خلال الصورة الملتقطة عام 1942 .
الواقفون في الصورة من اليمين إلى اليسار :"كمال وخليل وعبد الواحد" وأخي الذي كان متنحياً عنهم قليلاً، متكئاً بمرفقه على حاجز الجسر الخشبي المؤدي إلى السوق، رافعاً ذقنه إلى أعلى، مركّزاً بصره نحو عدسة التصوير".
سعى راوي السيرة - إلى تبيان الزمان - المكان، في ما يسرد ، عبر طابع الأزياء التي عليها الخلان في الصورة، والذاكرة والأحداث، ومن خلال إعادة الحياة الى شخوص الصورة الذين كف بعضهم عن الحياة، في ظروفٍ وأزمنةْ متباينة ، ولم يعد لهم في الحاضر، زمن السرد، سوى الصورة التي جمعتهم ، لحظة ما. ليقوم السارد بملاحقتهم ، وإعادة، حيواتهم وخصائصهم ومصائرهم عبر تحريكهم، وبث الحياة – الغائبة - فيهم والكشف عن ظروفهم وما كانوا عليه، عبر "عبد الواحد" الوحيد الذي لا يزال يتمتع بالحياة، ليتذكر، ويروي ما يعلمه عنهم، والأحداث، وخصائص كل منهم، ونزواتهم، والظروف التي كانت تحيط بكلٍ منهم.
يرسل أستاذنا "محمود" رسالة واضحة، كونه "السارد" من خلال العنونة التالية :"وحدات الرواية"، التي يقسمها بالشكل التالي :"الوحدة الأولى: في سوق الكتب القديمة. الوحدة الثانية: الصورة تروي حكايتها. الوحدة الثالثة: خارج الصورة- داخل السيرة.
"سيرة بحجم الكف" تذهب نحو تأكيد الغياب النهائي، المتمثل بالموت ، قدر البشر الذي لا فكاك منه :"بإعياء، تقودني خطواتي، محدّقاً إلى ما حولي. لم أعد أرى سوى ذلك الظلام الذي تراه حينما تغلق عينيك هارباً من مصير قادم تجهل أوانه ( ... ) المارة يتناقصون كما لو أن الأرض أخذت تمتصهم واحداً بعد الآخر".