يوسف العاني صيرورة الخطاب الشعبي للمسرح / عبد علي حسن

برحيل الفنان المسرحي الرائد يوسف العاني في تشرين الأول 2016 أسدل الستار على فصول حياة فنية وإنسانية تزخر بكل العطاء للحياة التي أحبها ان تكون فردوسا للمعدمين والبسطاء من أبناء شعبنا العراقي. ولعله قد أدرك منذ بواكير نشاطه الفني عام 1952، وهو عام تأسيس فرقة المسرح الفني الحديث، عمق العلاقة التي من الممكن ان يقيمها المسرح مع المتلقي في المساهمة في تشكّل وعيه الاجتماعي والثقافي والطبقي. وقد حمل بجدارة المسؤولية التي شاركه فيها الرعيل المسرحي الأول الذين ظلّوا معه، مؤكدا نهجه الوطني التقدمي والواقعي النقدي فنيا ليحلّق بالمسرح العراقي عبر هذين الجناحين الى موقع التأثير في ذائقة المتلقي وتشكيل وعيه الفكري والجمالي من خلال إنتاج خطاب شعبي للمسرح يتبنى المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، التي تمس بشكل مباشر حياة القسم الأكبر من شرائح المجتمع العراقي. بذلك أرسى فناننا الراحل القواعد الأولى الأساسية لقيام مسرح عراقي يؤثر في الفرد عبر محايثته الفاعلة والدؤوبة لأهم ما يطرأ على حياة المواطن من تحولات وأحداث ينبغي التفاعل معها ، ونقد الظواهر السلبية التي تجعل المواطن في وضع الاستغلال والتضعيف. ومن اجل تقوية العلاقة مع المتلقي فانه لجأ الى اختيار الشخصيات العراقية التي تتمتع بحضور جمعي في المجتمع ومعالجة مشاكلها. ولم يتوقف الأمر عند الحدث الواقعي المعاش بل تجاوز ذلك الى الكشف عن الظواهر المضيئة في التراث وإيجاد روابط بين التراث والمعاصرة، لينتج خطابا داخليا ذو دلالات تكرس أصالة الحياة الشعبية، وجعلها هدفا نهائيا لوضع المجتمع على طريق التقدم. وبهذا فقد حقق الفنان يوسف العاني معادلة ان يكون الفن واحدا من أشكال الوعي الاجتماعي، بل ومساهماً في بلورة الوعي النموذجي لما يمكن ان يسهم الفن المسرحي في عده فصيلا مكوناً للحركة الوطنية والتقدمية. وفعلا فقد تحقق ذلك من خلال تقديم جملة من المسرحيات خاصة في فترة الخمسينات من القرن الماضي، الذي شهد حضورا قويا ومتطورا للحركة الوطنية لقيادة المجتمع العراقي ، والتحول من النظام الملكي التابع للسيطرة البريطانية الى قيام الحكم الجمهوري عام 1958. إذ أسهم الخطاب الإجمالي لتلك الأعمال المسرحية في تهيئة الوعي الفردي والجمعي للمشاركة في الثورة والإسهام في بناء الوطن.
وإذا ما تأملنا سنوات العقد الخمسيني فإننا نجدها مليئة بالأحداث التي أسهم الشعب في قيامها وشكلت مقدمة اجتماعية مناهضة لكل أشكال السيطرة والاستغلال والتعسف. ولعل هذا التوجه والنهج قد وسما المسرح العراقي بسمة الوطنية والتقدمية ، ليس في توجه الفنانين المسرحيين العراقيين وحسب وإنما في وعي المجتمع العراقي عموما وعلى اختلاف انتمائهم الطبقي والاجتماعي والثقافي. إذ أسهم المسرح في معالجة المشاكل الاجتماعية وتكريس الوعي الوطني والطبقي على حد سواء. واتضح كل ذلك في العقود اللاحقة التي شهدت تقديم جملة من العروض المسرحية المهمة التي كتبها واسهم فيها ممثلا فناننا الراحل (الشريعة ، المفتاح ، النخلة والجيران ، مجالس التراث ، بغداد الأزل..).
وإذا كان الفنان الراحل قد عرف بتقديمه الشخصية الشعبية القريبة من ذاكرة المتلقي بعدّه ممثلا مسرحيا فانه في الضفة الأخرى قد ظهرت إمكاناته الكتابية على صعيد المسرح، والتي وجدت في تفاصيل الواقع العراقي المعاش ميدانا خصبا لاختيار ما يمكن تقديمه على خشبة المسرح تقديما مؤثرا في حياة المواطن العراقي.
ومن المشاريع المهمة التي قدمها الراحل مشروعه في تحويل القصص القصيرة الى تمثيليات تم تقديمها من على شاشة التلفزيون وهي تمثيليات قاربت وحايثت الشخصية العراقية.
أما على مستوى اللغة المسرحية ، فان ما يميّز لغة المسرحيات التي كتبها أو أعدها الفنان الراحل يوسف العاني كونها تكشف عن قدرة اللهجة العامية على استبطان المعاني المؤجلة وهي بهذا تنزاح عن المستوى الاستهلاكي اليومي والواقعي للغة، لتقدم دلالات أخرى تحيل الى مغزى يتم التوصل إليه عبر تفاعل المتلقي واستدعاء مرجعياته الجمالية والفكرية. فاللهجة العامية التي يستخدمها الفنان الراحل هي لغة السواد الأعظم من الشعب العراقي معبرة عن مكنونات ودواخل الشخصية العراقية ومستوى تفكيرها الداخلي عبر المعلن.
إلا ان هذه اللغة تستنفد طاقاته التعبيرية القصوى لتوصيل المعاني الإضافية، ليسهم هذا المستوى الانزياحي للغة في تقديم بناء متكامل للشخصية الشعبية عبر اللهجة الكاشفة عن مستوى تفكير الشخصيات، وفق بوليفينية – متعددة الأصوات – عبر الاستخدام الخاص للغة لكل شخصية ومنسجمة مع بنائها ووفق مستواها الاجتماعي.
وبذلك فان الفنان الراحل يوسف العاني تمكن من تقديم الخطاب الشعبي للمسرح المتصف بالاغتراب من الشخصية الشعبية العراقية، عبر تبني مشاكلها وهمومها الاجتماعية والواقعية، بتجاوزه الحدود الفوتوغرافية في الواقع الى النموذج المعبّر عن التطلعات والطموح المشروع الى حياة أفضل. ولعل تأثير هذا النهج المبدئي والمسؤول قد اتضح على مساحة واسعة من المنجز المسرحي العراقي الذي ارتبط بتاريخ الحركة الوطنية والتقدمية، وتحديدا اليساري منها، لتقديم خطاب شعبي يتسم بالكشف عن قدرة الفن المسرحي في تقديم خطاب فكري وجمالي متقدم، بعدّه واحدا من أشكال الوعي الاجتماعي. وبذا حاز العاني على لقب "فنان الشعب" بجدارة عبر إحساسه العميق بالمشاكل الاجتماعية للشخصية الشعبية العراقية. وقد تبدى ذلك في جميع الأعمال المسرحية التي قدمها كتابة وتمثيلا.