كاردينيا.. العتمة والطقوس / جاسم العايف

في العودة إلى كاردينيا ثمة انفجار للذاكرة التي تحاول الإحاطة بالأحداث لتعكس نشاطها الحياتي فكرياً- ثقافياً، على نحو يثير ويفجر قدرات السرد ولغته الشعرية، بعيداً عن الاندثار في جحيم الماضي وآثاره، وبوصول المنفي- الراوي- إلى لندن شاحب الوجه كثير الوسواس بسبب الخوف والكحول، حاملاً معه "أكياس الشاي والسكر وصابون الرقي و"الليفة" العراقية الخشنة ومعجنات "الكليجة"، والقليل من الكتب والكثير من الأفكار، مناجياً النفس بأنه قد يصل مدينة "كيش" اللا مرئية، مواجهاً المدينة الجديدة، والتي تعبق برائحة القِدمْ محاولاً الانغماس الحذر في العوالم الجديدة بعيداً عن مدينته، ووطنه المقهور، مردداً علناً، بلا ندمٍ:
"لا أسأل إلا عن وطن يسأل عني،
وأغني حيث أشاء".
لا يملك الغريب إلا التحديق في الذكرى والاستجابة لها والبحث عن المصائر الشخصية لأعزاء هرستهم عجلة المرحلة البربرية، وتظل أمام مصائرهم الإنسانية المفجعة، ومنها القصائد والأقوال والأفعال، عاجزة عن العزاء والسلوان, ومنهم :"عباس فاضل" رسام الكاريكاتير، مات بفعل مادة سامة دست إليه اثر اعتقال في مديرية "أمن بغداد"، و"شريف الربيعي" وسرطانه الذي يطوف معه كل المدن التي لجأ إليها حتى يجهز عليه، في لندن "محمود جندراي الجميلي"، مات، بعد خروجه من ثلاث سنوات سجن، لأنه سمع كلاماً ضد السلطة ولم يكن واشياً كما أُريد له. الشاعر "منهل نعمة" انتهى إلى الأبد تحت التعذيب، والمصير ذاته لـ "جعفر حمودي" الذي لم تشغله المحاكم والمحاماة عن الشعر، والناقد عبد الجبار عباس، فخامة الروعة والتدفق، في مواجهة السلطة التي أغلقت كل النوافذ بوجه طلاقته الاحتفائية، وعدم صلاحيته للتوافق مع إعلام وثقافة المرحلة، وموته السريع الفاجع بسبب حرقة القلب، تلك الحرقة التي لا تكشف عن أعراضها لعين أخرى غير عين الضحية، إزاء هذا المشهد وغيره، وآخرون من "الانتلجنسيا" العراقية الذاوون في الغرف المغلقة، المختومة بشعاراتها البراقة، التي عبّد طريق تطورها التوجه، "اللا رأسمالي"، وعبره اقتيد آلاف المغيبين ومثلهم ممن عاشروا المنافي متوجسين "المخابراتيين" بعد هروبهم برفقة الأدلاء وبدو الصحارى. في مواجهة هذه المصائر تقف السلطة القامعة وأزلامها الأعرفون بكيفية ذر الملح على جراح الضحايا، شعراء وكتاب يناصرون السلطة، لا الحرية والنبالة والحقيقة والبراءة، و سعوا إلى التحرر من مسؤولية الضمائر والكذب على الذات بإيجاد المبررات الايديولوجية لممارساتها المتوحشة، هؤلاء تحفظ الذاكرة تواريخهم وخنوعهم ووضاعتهم ووشاياتهم و"نموذجهم" المكثف لثقافة المرحلة السياسية تلك "شبه الريفي المعبأ بقوى نظرية هي حصاد جمل مستلة من الكتب" والمنسلخ بخفة المهرج من قناعاته السابقة وتوظيفها للارتزاق والمنافع الخاصة، وسعيه المتواصل في محاولة هجينة إلى إيجاد توافق بين فكر السلطة الفاشي وبين تلك المرحلة التي كانت تدفع بالعراق نحو اليسار والغنى والتدفق الاجتماعي والتنوع الثقافي- السياسي متجاوزاً بحيوية نخبه السياسية - الثقافية وإرثه التنويري الباهر. مآس ومجازر الليل الدموي الذي عصف بالعراق في 8 شباط 1963 وأجهز على جنين التحولات الوطنية - الديمقراطية التي تميزت بها ثورة 14تموز، المدهش والغريب والمحير، في "العودة الى كاردينيا"، ثمة تفاصيل، واقعية و كثيرة جداً، لما جرى لبعض حكام العراق الملكي من جرائم بشعة، عبر دورة العنف وتسلط الغرائز الهمجية على الشارع العراقي، لكنه يصمت عن صباح 8 شباط 1963، والأشهر التي تلته. بينما يروي، بسعة، عن أولئك الذين اندفعوا نحو غرائز الانتقام من ماضيهم وخيباتهم الحزبية، محاولين التطهر بالماء الملوث الذي تسكبه "السلطة" عليهم, ومع ذلك ففي عرف القبيلة لا غفران ثمة, حيث أخفى المجهول- المعلوم المصير بعد تنظير كبير وصراخ عالٍ هستيري طوال عقد السبعينيات. وفي "كاردينيا" وعتمتها وطقوسها تندحر الروح المشرقة وتتجاور الأفكار والعقائد معلقة في البوح السري - العلني، حيث يرى روادها أنفسهم كالشموع منطفئين ذابلين عبر حصار ثقافة الإعلام، التي تريد وتبحث عن مثقفين "عرب" تدعمهم بالأموال والمناصب ليرتقوا المشهد، زنخي الضمائر قوّالين، كذابين، متواطئين مع السلطة تدعيماً لمشروعها، وتتوجه السلطة - ذاتها- إلى العراقي عبر الترهيب بالقوة والبطش والتهديد والتغييب ليصبح المثقف العراقي بالذات عبداً لها ولتهيمن عليه حالة دائمة من التوتر للدفاع عن النفس والقناعات في وطن لا دولة فيه ولا قانون، محدقاً كالمعتوه، مأخوذاً بالمشهد، العراقي، وتقاليده السرية المتكررة دون نهاية، حيث جاهل انقلابي معتوه، مغامر، مقامر، مشبوه، يرتقي سدة الحكم مع سلاحه ومرتزقته حوله يرتقون جثث الدستور والقانون وحقوق الإنسان ليستبيحوا الشرف والذمم. في منطقة "العباسية" ومن مكتبة "حسينية" كرادة مريم وجاذبية الكلمات ورائحة الكتب تبدأ المغامرات الأولى، انخطافات الحكايات وسحر القصص وراعي الحسينية السيد "حسين" المنفتح، التقي، الورع، المتفتح, وبحصة المكتبة من التبرعات والهبات تفد من سوق السراي وغيره الإصدارات الجديدة في بيروت والقاهرة لتزيح الكتب القديمة ووعودها التطمينية والتطهير والموت نحو الرفوف العلوية لترقد نائمة، مهملة، مغطاة بالغبار والسنوات، وتوقد الكتب الجديدة الأذهان وتشكل الأرواح بحداثتها وعصريتها وبعد وفاة السيد "حسين" مباشرة, هبط "سيد لبناني" متوقد الحماس لخوض المعارك ضد العقائد الدنيوية ودنسها، حسب تصوراته، وبسطوته الدينية وبلاغته التطهيرية مقفلة الأفق وخطبه النارية الهجومية ضد الشيوعية والوجودية والاشتراكية, جمع كل الكتب الجديدة المثيرة لريبته في أكياس وألقاها في دجلة. . دجلة مثوى جثث العراقيين وكتبهم , دجلة الذي يمر بالعباسية الريانة بظلال النخل وبرودة الصفصاف ورائحة الأسماك الطرية والشواطئ الآمنة والنارنج ومزارع الباذنجان وأشجار التوت المحنية على الماء حيث تسبح الأغصان في نهر الأساطير المشبع بالحكايات وجمر المصائر، كل ذلك أزيح من المشهد، حيث فككت الصراعات العقائدية والفوضى السياسية وبتواطئها، معمار ونسيج الحياة العراقية المدنية، وهو في مستهل تطلعه إلى الوجود وعبر حزب السلطة وعائلية سلطته الغرباء الذين يتصرفون بدافع اللصوصية وهم في أعلى مناصب الدولة وأجهزتها المختلفة، الذين قذفتهم سنوات العراء والغبار والجفاف والقيظ , وقدراتهم على القتل والسرقة والاستمتاع بالجريمة وبهيمنتهم القروية السلطوية، امتلكوا قمة الهرم ليحولوا، بنزعات الانتقام والتشفي، وبقدر أجهزة سلطتهم المتعددة، كل ما تحتهم إلى مرتزقة وخدم وليحققوا كل ما يريدون أو يرغبون، مدفوعين بهوس الأحقاد والثأر مشرعين الزنازين العلنية - السرية مستولين على العباسية -الوطن- ملثمين بالمشاعر القوموية - العرقية في نزعات الاستحواذ المدعوم بالاستبداد والانتقام وهوس الحروب وديمومتها وكوارثها المتواصلة، والتي تحولت إلى إرث للعراقيين