لوركا والمسرح الشعري

قراءة: مزهر بن مدلول
لا يمكن الاحاطة بمسرح لوركا وبالمؤثرات التي صنعته بهذه الكلمات القليلة، فهذا العملاق الذي يشكل فنه ملحمة من ملاحم الشعب الاسباني في تاريخه القديم والمعاصر، جدير بأن تؤلف عنه الكتب لما يتمتع به من ارادة قوية في الدفاع عن بلده وموهبة كبيرة في الابداع الشعري والمسرحي.
(في عام 1936 سُحل فيدريكو كارثيا لوركا في شوارع غرناطة ليواجه فرقة الرماة الفاشية، لم تكن الاسباب واضحة، فهو لم يكن نشطا في الاوساط اليسارية ولكنه كان قوة، كان من ابناء الشعب وقد أُحرقت كتبه)، هذا ما كتبه الشاعر الامريكي والمقالي المشهور وليم كارلوس ويليامز.
عُرف لوركا في الاوساط النقدية العالمية شاعرا اسبانيا مخلصا، يعبر عن جوهر اسبانيا وينتمي الى مدرستها التي تنبع من ارضها وتنبت فيها، الى الفلاحين والغجر والفقراء، لذا عند قراءة انتاجه الادبي ينبغي ان يكون كل التاريخ الاسباني حاضرا في الذهن.
اما عمل لوركا الدرامي، فهو لا ينفصل عن مجمل شعره كمصدر طبيعي له، شأنه في ذلك شأن الرومانسية الاوربية، لقد تحول شعره الغنائي الى شعر درامي كأسلوب انفعالي وجمالي، فكتب مسرحيته الاولى (سحر الفراشة) وهي مسرحية رمزية اوحت بها الحشرات والحيوانات، وعلى الرغم من رأي النقاد بان هذا العمل لا يرتقي الى النضج، الاّ ان (سحر الفراشة) دفعت عمل لوركا الدرامي الى ان ينمو ويتطور جنبا الى جنب مع عمله الشعري، فالاثنان كانا يتحركان بين قطبي الاسلوب والالهام.
بعد سنوات من (سحر الفراشة)، وفي العام 1927، كتب لوركا عمله الدرامي الثاني (ماريانا بينيدا)، وهي عبارة عن صرخة في زمن صعب، فبطلها (دون بيدرو) المناضل من اجل الحرية منهمكا في قضية وطنه اكثر مما تشغله حبيبته (ماريانيتا)، مما دعاها الى ان تغير اسمها وتتحول الى رمز للحرية ذاتها فتخاطبه:
انا الحرية لأن الحب كهذا شاء
بيدرو: الحرية التي في سبيلها هجرتني
انا الحرية التي جرحها الرجال
الحب، الحب، الحب، والعزلة الابدية.
اتبعت هذه المسرحية تقنية اشبه بتقنيات الكثير من قصائده واغانيه، فقد دمج لوركا عناصرا من المسرح الكلاسيكي بالرومانسي مع النزوع الى الجديد، فاخذ الروح الجوهرية من الكلاسيكي، والاحساس بالخلفيات التاريخية من الرومانسي، فجعل المشاهد تتناغم في جو مؤطر بالألوان والاضواء والفواصل الموسيقية والخلفيات حتى يتحقق في نهاية المسرحية ضرب من المثال الأوبرالي الرمزي.
للوركا العديد من المسرحيات القصيرة الاخرى، ومن ابرزها (حب دون برليمبلين) وهي رائعة من روائعه الصغيرة التي كتبها وهو يهيمن هيمنة كاملة على فنه الصعب فخرجت مميزة في روحها الغنائية ومقوماتها الشعرية، ثم (زوجة الاسكافي المدهشة) المستوحاة من التراث الشعبي الاسباني الخالص، والثالثة (في اطار دون كريستوبال) وهي مثال على تعدد ميول لوركا وبحثه الدائم عن دمج افضل بين الفنون التي تميز كتاباته المسرحية والشعرية معا، وجميع هذه المسرحيات كانت افضل بناءا من سابقاتها، وكشفت بشكل حقيقي عن الخلفية الجميلة للفطنة الريفية الماكرة التي كانت جزءا من تكوينه العقلي، وعلى الرغم من تواضعها، لكنها سلطت الضوء على الجوانب المهمة من شخصية لوركا الفنية.
وفي فترة ظهور السريالية، ثم بلوغها الذروة في فرنسا وانعكاسها في اسبانيا وتاثر لوركا بها، كتب مسرحية (اذا مضت خمس سنوات)، وموضوعها مزيج من نوعين من اهتمامات لوركا النموذجية: (مضي الوقت، والخيبة في الحب)، وهذه المسرحية كشفت عن تمكن الشاعر المتزايد من التقنية المسرحية التي راح يكتسبها بالتدريج من خلال تجاربه المتنوعة، وبعد ذلك كتب مسرحية (الجمهور)، وهي المسرحية التي امتلأت مشاهدها بالصور الدموية العنيفة حيث تندمج الاشياء بالأشكال وهو اساس كل جمالية سريالية، لكن لوركا لم يفرض على نفسه مدرسة ثابتة وجامدة ولا طرازا محددا من الشعر والدراما، وانما يعود دائما ليستلهم احساسات الواقع الاسباني ومواضيعه.
اشتهر لوركا بكتابة التراجيديات، فكتب الكثير منها، لكن عمله الاهم والابرز، هي مسرحية (عرس الدم) وعنوانها الاخر (الدفلى اللاذعة)، التي عرضت لأول مرة في عام 1933 في (مسرح بياتريس) في مدريد، وهي المسرحية التي بلغت درجة عالية من الفن، بوحدة عناصرها الشعرية والنصاعة المؤثرة في دراميتها والنفس الشعبي الذي ينفخ فيها الحياة، ولهذا كله، فأن (عرس الدم) تعتبر من اجمل روائع لوركا المسرحية واكملها ويمكن وضعها بكل جدارة فوق النتاجات في الادب الاسباني في ذلك الوقت.
بعد سنتين من (الدفلى اللاذعة) كتب لوركا مسرحية (ايرما)، وعلى الرغم من انها كانت اقلّ حظا من سابقتها من حيث المستوى الفني والاثارة الدرامية، الاّ انها كانت خطوة اخرى نحو تكثيف التراجيديا التي مهدت لمسرحيته (بيت برناردا البا)، وهي ميلودراما ريفية على الرغم من محاكاتها للاستبداد الذي وصل الى ذروته اثناء الحرب الاهلية الاسبانية وخاصة ضد المرأة، وهذا العمل يمكن وصفه بالعمل الكامل الملهم، وهو احد اجزاء الثلاثية الدرامية حيث اطلق النقاد على المسرحيات الثلاثة: عرس الدم وايرما وبيت برناردا (بالثلاثية الاندلسية).
ومع ان لوركا كاتب تراجيديا وشاعر غنائي، لكنه كان خليقا بوصف الضليع في خلق الفكاهة، والمسرح بالنسبة له: (ألم وضحك)، فمنذ طفولته وهو كان يتصور العالم عبارة عن لعبة درامية، وان الحياة مسرح كبير، وكان يقوم بتمثيليات صغيرة مع اخوته في المنزل ويرتدي الاقنعة والملابس التنكرية ويستمع بشغف الى الحكايات الشعبية، وكان ايضا منذ صغره شغوفا بالموسيقى وقادرا على متابعة الايقاع والوزن مما ساعده في اثراء خياله وتطوير احساسه بالفكاهة، وفي الجامعة كتب رسالة يقول: (لقد نلت شعبية واسعة بتسميتي كل شخص هنا تسمية مضحكة)، وحتى عندما ترك اسبانيا الى نيويورك وهو في حالة من التعاسة العميقة، كان ثمة بصيص من نور المرح والضحك، الى درجة انه سحر الجميع بنكاته ونوادره ومحاكاته، فكان موهوبا بالفكاهة التي ألّفت الجانب الاكبر من شخصيته وانعكست في الكثير من المشاهد في مسرحياته.
لوركا الذي ولد في العام 1899 بالقرب من غرناطة، انتج عددا من الاعمال البارزة في الشعر الغنائي والدراما والنثر، كما كان عازفا وفلكلوريا اسبانيا بارزا ومديرا لفرقة مسرحية، كان (يتمنى ان يموت على قرني ثور، هذا اذا لم يغمد المرء سيفه اولا في قلب الثور)!، فاقتادته فرقة الرماة الفاشية في زمن الدكتاتور فرانكو الى حقل الزيتون واطلقت عليه الرصاص، لا لشيء الاّ لأنه كان يحب شعبه، كان نشيدا خالدا من اناشيد الوطن، فعاش في قلوب ملايين الناس وترك في اذانهم انغام الحرية التي لا تموت مهما كان الطغيان والاستبداد، وبهذا يحيا لوركا.