"تل الذهب".. التخفف من دهون السرد / كريم كطافة

رواية قصيرة عدد صفحاتها "106" بالتمام، للكاتب حسن عبد الرزاق يمكن للقارئ أن يقرأها في جلسة واحدة، ليس لقصرها، بل لقوة الحبكة التي تمكن منها الكاتب بمهارة عالية أولاً وثانياً لتمكنه من لغة الرواية. أقول "لغة رواية" لأنه لم يتوسل لا بلغة الشعر ولا بلغة الصحافة المملة التي ترهق في العادة نصوص كتاب الرواية وتدفع بها إلى الترهل. كتبها بلغة روائية هجينة تزاوج بين السخرية والتراجيديا. الجملة عنده قصيرة مكتنزة بدلالات ومحمولات من السهل على القارئ استعادتها بعد حين وربطها بما مضى من أقوال وأفعال.. لغة خفيفة الدم خالية من الدهون.
أما حكايتها فلم تكن سوى رحلة داخل خرافة بدوية قادمة من زمن الأساطير، قابلها الراوي - الكاتب ومنذ البداية بـ "عفطة" عراقية! لكن "الحكاية" التي لم تستحق أكثر من تلك الـ "عفطة" كانت قادرة على سحب القارئ ليلاحقها حتى آخر صفحة.. وهذا ما حصل معي.
الراوي "ناجي نعيثل" جندي قد تسّرح حديثاً من جندية حروب دامت دهراً وهو في طريقه إلى مدينته الناصرية. يصطدم بإلحاح رجل عجوز في ساحة الطيران يعرض عليه كتاب قال له "أنه يفيدك". الرجل ليس من هواة الكتب أصلاً ناهيك أنه لا يبحث عن أساطير وخرافات، بل عن رائحة أنثى عسى أن يمن بها الحظ ويجمعه معها على ذات الكرسي في السيارة التي ستأخذه إلى مدينته. أنثى يستمتع بمجرد الاحتكاك بجسدها مع تموجات ومطبات الطريق. لكنه مع ذلك اشترى الكتاب بسعر زهيد. ولم يكن الكتاب سوى حكاية خرافية عنوانه "حكاية غدك".
من هنا يدخلنا الكاتب في وهم أو التباس متعمد بين حكايتين تتقاطعان في ذات المكان. والمكان عبارة عن أرض جرداء تحادد الصحراء فيها ما يشبه البستان وخيمة وحيدة لبدوي مع زوجته الشابة المليحة. هنا تتعطل السيارة ويخيم الليل ولم يبقى من المسافرين غير أربعة أشخاص لم يسعفهم الحظ بسيارة أخرى تقلهم؛ هم الراوي "ناجي نعيثل" الاسم الوحيد في الرواية، إذ ظلت الشخصيات الأخرى بلا أسماء مع طالب جامعي ظلت ملامحه باهتة على طول السرد لأن الكاتب أبقاه صامتاً مع قروي وزوجته. يبدأ الإيهام المتعمد بين حكاية هؤلاء المسافرين الأربعة وما جرى لهم وحكاية الكتاب.
حكاية الكتاب أو حكاية "ناجي نعيثل"، لم تكن غير ترجمة لمقولة قديمة "أرض السواد بستان قريش".. استعاض الكاتب عن قريش بقبيلة "الغوانم" كما استبدل سكان أرض السواد بقبيلة المغنومين. للغوانم كنز من الذهب تحت تل تركه لهم أسلافهم.. لكنه "التل" المحروس بكل أقوام الماضي التي تبادلت غنيمة أرض السواد. وما على سليل الغوانم الأولين البدوي الذي استضاف الأربعة في تلك الليلة؛ سوى أن يحصل على كنزه بمساعدة المغنومين الأربعة. المغنومون الذين يتحولون في الصباح من ضيوف إلى أسرى. من الآن تبدأ "حكاية غدك". يسوق البدوي مغنوميه الأربعة في سيارة مكشوفة إلى تل الكنز. لتتحول الرحلة إلى رحلة داخل الزمن باتجاه الماضي. يلتقون بثلاثة أقوام يتناوبون عليهم على التوالي أسراً وسبياً واغتصاباً..
ومع كل قوم يبتدع راوي الأسطورة وسيلة ينقذ بها المأسورين الذين اصبحوا الآن ستة بإضافة البدوي وزوجته الشابة المليحة. القوم الأولين الذين يتكلمون اللغة العربية الفصيحة عزلوا الرجال عن النساء.. حكموا على الرجال بالذبح وعلى النساء بالسبي والاغتصاب وكانت القروية والبدوية هما موضوع الاغتصاب المتعدد من الغوانم.. والقوم التالين رغم أنهم امتداد للأولين إنما لغتهم كانت هجينة وغير مفهومة وبدوا أنهم قد ملوّا فروج النساء واستبدلوها بالولدان المخصيين.. ويكون أول الضحايا هنا الطالب الجامعي لوسامته وشبابه.. أما القوم الأخيرين فلم يكونوا سوى الحمر البيض الذين يتكلمون لغة غير مفهومة.. "الإنكليز".. هؤلاء لا يذبحون ولا يغتصبون لكنهم يحولون المغنومين إلى جنود يحرسون لهم الكنز.. واضح أن الرسالة المضمرة هنا تشير إلى تأريخ أرض السواد الذي تناوبت عليه أقوام كثيرة بدءا من أولئك الذين يتكلمون العربية الفصحى إلى التالين من سلاجقة وبويهين وعثمانيين.. ووصولاً إلى الإنكليز.
وفي كل المراحل لم يستول الغوانم على كنوز هذه الأرض فحسب، بل استولوا كذلك على سلوكيات سكانها.. كل قوم يضيفون شيئاً من إرثهم الثقافي إلى هذه الأرض من عادات وتقاليد وأفكار تظل مزروعة إلى حين مجيء غانم جديد يبنى فوقها.. حتى وصل الأمر أننا نجد القروي المعاصر وهو سليل حضارات هذه الأرض القديمة "كما يُفترض" في واحدة من المحطات يلجأ إلى ذبح زوجته بالسيف، لأنها اغتصبت كسبية أمام عينيه! ورغم أنه لم يفعل شيئاً لإنقاذها بل حصل العكس هي والبدوية من أنقذهم من الأسر والذبح؛ بعد أن تخّدر الحراس بنشوة التناوب عليهما وناموا..
نجد هذا القروي الغبي المأسور فكراً وسلوكاً للبدوي والذي لا يعرف سوى الطاعة لأوامر البدوي، نجده يلجأ إلى الفعل الوحيد الذي سيطر على عقله ومشاعره ألا وهو "غسل العار". الفعل الذي لم يفعله حتى البدوي سليل عادات الصحراء بزوجته المليحة والتي هي الأخرى اغتصبت أمام عينيه، حتى هو يعاتبه بعد إتمام الجريمة:
- لماذا ذبحتها.. المرأة بهيمة..!
البدوي هنا نطق عن ثقافة أسلافه الأباعد، إذ المرأة عندهم مثل بقية أملاك الرجال ليست أكثر من موضوع للسبي والاغتصاب لمن يفوز بالغزو.. مرة تكون أنت الغانم ومرة يكون الغانم خصمك..!
رواية قصيرة سردت حكاية طويلة بطول دهور الاستلاب والغزو والاحتلالات التي مرت بأرض السواد. رواية كتبت بلغة متقشفة خالية من الإنشائيات التي تضخم روايات كثير من الكتاب المأخوذين بالحجم إذ كلما كانت روايته كبيرة الحجم كلما أشعرته بالزهو.. لغة جميلة.. لكن كان لها أن تكون أجمل وأكثر ألقاً لو ترك الكاتب شخوصه يعبرون عن أنفسهم وسلوكياتهم بلهجاتهم، علماً أنها ضمت بين دفتيها شخصيات متنافرة غاية التنافر في الخلفية اللغوية ليس أقل من التضاد بين الصحراء والريف، البدوي والقروي، الطالب الجامعي والجندي وسائق السيارة.. إلخ لكل من هؤلاء لهجته وطريقته في استخدام اللغة..
بالنسبة لي لغة الرواية ليست لغة الكاتب فقط، بل مجموعة من الأنساق اللغوية التي يديرها الكاتب ويضبط تناسقها مع بعضها كما يفعل قائد الأوركسترا بآلاته المختلفة والمتعددة النغمات والأصوات.. عدا هذا هي "اللغة" امتداد لشخوصها أبطال الحكاية. لكل لهجة محكية محمولاتها النفسية والانفعالية التي تعكس بالضرورة طبيعة المكان.. ناهيك عن أن اللغة وطريقة استخدامها تكشف عن مستوى وعي المستخدم والمستويات متفاوتة هنا كما هو التفاوت في الأمكنة والبيئات وتأثيرها على ساكنيها..
ما أريد الوصول إليه هو ما يسميه "النقاد" بـ "الفضاء الروائي" أي الزمان والمكان الذي على الكاتب أن يكون أميناً له. حين يمنح الكاتب لغته الأدبية لشخصياته مهما كان مستواهم الفكري وبيئاتهم سيحولهم شاء أم أبى إلى شخصية وحيدة هي شخصيته.. ناهيك عن حرمان القارئ من التنوع الموجود أصلاً في الفضاء الذي اختاره لكتابه.. أتمنى أن أقرا للكاتب حسن عبد الرزاق نصوصاً أخرى.