«الحلوة».. قصدية النص وتأرجح الزمن / أحمد عواد الخزاعي

احدى طرق كتابة السرد هي "أن يأخذ الكاتب جوا معينا ويجعل الفعل والأشخاص تعبر عنه وتجسده".. وهذا ما نحا إليه القاص وارد بدر سالم في روايته "الحلوة".. نص يحمل دوال فكرية واجتماعية وسياسية، ينزع إلى الرمزية في التعبير عن قصديته، يقترب من الواقع في الكثير محطاته ويلامسه بشغف كبير، وفق رؤية مغايرة للمألوف، استقطب فيها الروائي بؤرة اجتماعية نادرة الحدوث تأخذ بعدا قصديا له، يمتد إلى مساحة اكبر من أفق هذه الجزئية الاجتماعية الضيقة، فاختار الروائي ثيمة تناولت جواَ عراقياَ متخماَ بالقتل والفوضى والزيف والفساد، نتج عن سفر طويل من الحروب والانتكاسات، كانت خاتمته احتلال وطن.. مادة دسمة وظفت لها أدوات مادية وحسية لتجسد على ارض الواقع، بأسلوب اعتمد بالدرجة الأساس على تقنيات "الاسترجاع والارتداد والاستذكار والمونولوج الداخلي والمشاهد الصامتة"، على وفق زمن متأرجح يتنقل بين الماضي والحاضر والمستقبل.. فكانت الرواية نصاَ طويلاَ مفتوحا على نهايات دراماتيكية تكررت فيه الأحداث واجترت نفسها على امتداده، وتم تدوير المشاهد وإعادة إنتاجها وصياغتها داخله، بطريقة لا تشعر القارئ بالملل .. تبدأ الرواية بعتبة سردية على شكل بطاقات تعريفية للبطلة الحلوة "ريحانة"، ولخالها القادم مع الاحتلال طارق "مارك"، اعتمدت نظام الترقيم وتدبيب الأحداث والتأثير على إيقاعها ضمن سياق السرد، لتكون منطلقا للأحداث والقصدية التي تنشدها.. فتاة جميلة من جذور ريفية، ورثت مشطاَ قديماَ، منح جسدها عطرا مميزاَ، كان سبباَ في جذب الأنظار إليها، و جزءا مهما من محنتها.. تفقد هذه الفتاة والدها في فوضى الحرب الطائفية التي اجتاحت البلاد بعد الاحتلال الأمريكي لها، ليظهر على الساحة خال هرب منذ ثلاثين عاما من العراق، ليعود مع الجيش الأمريكي بصفة مترجم ثم يتحول إلى سمسار يدير صفقات تجارية مشبوهة، والذي تسحره رائحة ابنة اخته فيرتكب خطيئة زنا المحارم معها.. لتكون هذه الحادثة منطلقا لتداعيات ستغير من حياة البطلين، ونافذة لكشف الواقع العراقي بعد التغيير، وحجم الفساد الذي اعتراه، وإشارة إلى محنة وطن عبث به الاحتلال والإرهاب والفوضى والخيانة والفساد.. لتحمل هذه الرواية طابعاَ جمالياَ، اعتمد السيميائية المعبرة، ولغة ناضجة تحمل إشارات صوفية في بعض محطاتها، ووصف جميل ودقيق.. وطابعاَ أخلاقياَ قيمياَ، لحساسية الثيمة التي تناولتها، وقصديتها الفكرية والاجتماعية والسياسية، لتكون مثالاَ لمقولة الناقد الروسي ميخائيل باختين في الأدب "إن الأجناس الأدبية ليست شكلا جماليا فحسب، بل هي أيضا أشكالا عميقة من التفكير".. فقد قدم لنا وارد نصاَ طويلاَ، وضع الواقع تحت مشرط جراح خبير، شخص العلة الكامنة في الجسد العراقي العليل، ووضع له نهاية استشرافية متفائلة، على الرغم من إن الأحداث ولغة السرد والحوار كانا يسيران وفق إيقاع، غلب عليه الحزن والتشاؤم والإحباط.
أهم محطات الرواية:
1- قصدية النص: حمل النص دوال إنسانية وسياسية، ذات رمزية كانت تشير إلى قصدية متوارية خلف الأحداث والشخوص "ريحانة" رمزية بلاد الرافدين بكل جمالها وارثها الحضاري وغناها المادي.. الخال "طارق" أو مارك كان تجسيدا لكل المقامرين والمغامرين الذين جلبوا للعراق الويلات والدمار.. "الأب" كان أمنا واستقرارا افتقده العراق لعقود طويلة ، وصمام أمان ضاع في فوضى التغيير، في حالة استذكار خارج أسوار الزمان والمكان.
2- أرجحة الزمن: تميز زمن الرواية بأنه كان زمناَ مدور، لا يسير وفق هرمية حكائية تصاعدية، بل كان يتأرجح جاعلاَ الماضي يتداخل مع الحاضر والمستقبل، وهذا ما اكسب النص طابعاَ تجريبياَ حداثوياَ، زمن افتراضي يحمل معالم فنية، تبعثرت الأحداث على امتداده، وفقدت ترتيبها الهرمي .. أي حدث كسر لهذا الزمن داخل النص، حسب مستويات الزمن عن جيرار جينت، عبر تقنيات عدة، كان أهمها الاسترجاع والاستذكار، والتقديم والتأخير، بما يخدم قصدية النص.. فكانت الأنساق التي تقع فيها الأحداث ضمن تقنية "التداخل" كما عرفها الناقد البلغاري تودروف "أي تتداخل الأحداث وتتقاطع دون ضوابط منطقية".. فلم يكن زمنا خطياَ بل متعدد الأبعاد .. لذا يمكن أن نعد هذه الرواية ضمن تصنيف الرواية "المدرجة".. حيث كانت بين أوقات الحركة، وهذا الصنف من الروايات أكثر تعقيداَ، لأن الزمن يتناوب فيه بين الماضي والحاضر والمستقبل.
3- تعدد الأصوات: تقنية تعدد الأصوات كانت حاضرة بقوة في الحلوة، حيث تناوب على السرد عدة أصوات اختلفت في أمزجتها وأفكارها وثقافاتها، والبيئات التي انطلقت منها.. كان كُلاَ من هذه الأصوات يتناول جزءا من السرد، وفق الحيز الذي شغله داخل النص، وحسب رؤيته وتفسيره وتأثره بالأحداث وتعاطيه معها.. "سارد داخلي موازي للأحداث، يعرف جزءا منها".. إضافة إلى وجود السارد الخارجي وهو الروائي نفسه، الذي كان يعمل على سد الثغرات والفراغات في النص كونه "السارد العليم".
4- الصراع القيمي: برز الصراع القيمي والأخلاقي بشكل ملحوظ في رواية الحلوة، عبر شخصيتين مهمتين.. أم ريحانة "بديعة" التي كانت تمثل قيم وأخلاق المشرق العربي بصورة عامة والريف بوجه خاص، وأخيها طارق "مارك"، الذي كان مثالاَ عن تحرر القيم الغربية وانسلاخها الأخلاقي .. شكل هذا الصراع حالة من التجاذب والتقاطع، بين قيم الغرب، وقيم الشرق، وبين قيم الريف، وقيم المدينة .. غير إن الحتمية الميثولوجية لهذا الصراع انتهت بانتصار، قيم الفضيلة والخير، على قيم الشر والانحطاط.. حين بدأ الأخ القادم بثقافة الرجل "الكابوي"، يعيش حالة من تأنيب الضمير والشعور بالذنب على ما اقترفه بحق ابنة أخته ووطنه، بعدما نجحت الأخت بأن تعيد الحياة إلى ذاكرته المتعبة من جديد، وتعيد اليه الشعور بالانتماء، إلى أهله وأرضه وإرثه الأخلاقي والقيمًي .. في حوار له مع ابنة أخته ريحانة "وضعتك في حلق العار.. أنا أحمق.. بديعة شاطرة في فتح دماغي ولو بعد فوات الأوان".. وفي جانب آخر من الحوار "أمريكا علمتني أن لا دين في الحياة سوى ما نعيشه للحظتنا مهما كانت وكيفما كانت.. أمريكا وسخة.. أنت أجمل من أمريكا".
5- اللغة وتدبيب النص: كانت تقنية التنقيط وتدبيب النص التي طغت على الوجه العام للسرد، تمثل أسلوبا حداثويا، تحكم بإيقاع النص، أما اللغة فتميزت بوجود ثلاث مستويات لها:
أ- ارتفاع مستوى الخطاب "سردا وحوارا" إلى مستويات عالية من الثقافة والوعي، كما في كلام البطلة ريحانة في عدة محطات من النص، والتي كانت تمثل على ما يبدو، لحظات تجلي يفصح فيها وارد بدر سالم عن نفسه داخل النص، جاعلاَ من البطلة جسراَ لتمرير أفكاره ورؤاه وقناعاته، مما أعطى الرواية بعداَ "اتوبيوغرافيا" حين يتداخل الكاتب مع البطل لينتج لنا نصا تعبيريا ناضجا، كما هذا الحوار الافتراضي بين البطلة وزوج المستقبل عادل "هناك شرف ضائع يا عادل، وهناك ترقيعات موضعية تسترد الشرف، بالمال مرة وأخرى بالدم، وأنت تعرف الفرق بين هذا الشرف وذاك".
ب- في بعض محطات السرد، حدثت عملية مزج متجانسة بين اللغة العربية الفصحى واللهجة العامية، وهذا الأسلوب ليس غريباَ على وارد بدر سالم، فهو يتكرر عنده في الكثير من أعماله الأدبية.
ج- المستوى الثالث، نجد فيه تفاوتا في لغة الخطاب، وبالأخص عند الخال "طارق".. فتارة يلجأ إلى لغة سمجة فوضوية تعكس عنجهية الشخصية الأمريكية .. وتارة أخرى نجد لغة الخطاب قد تغيرت إلى لغة رقيقة شفافة ناضجة تفوح منها رائحة الفضيلة والوقار.. وفي مكان آخر نجدها تميل إلى المثال "النارسيني" كما أطلق عليه الناقد الجزائري سعيد علوش .. وهو الخطاب الاباحي الشبق الأناني، غير الخاضع إلى أية ضوابط أخلاقية أو عرف أو دين.. وهذا التفاوت في الخطاب هو انعكاس لشخصية البطل المتذبذبة والمتناقضة مع نفسها ومحيطها الاجتماعي.
6- الواقعية السحرية: حمل النص شيئا من الفنتازيا، زج بها الكاتب لإضفاء جمالية ومتعة غرائبية على النص، كما في القصص الأربعة التي رواها أهل القرية، عن سر المشط ورائحته الطيبة، لتكون هذه القصص محطات استراحة تسافر بمخيلة القارئ، وتنتشله من الأحداث الدراماتيكية الحزينة التي طغت على النص.
7- الخاتمة: يقول الناقد ايلمان كرانسو "هناك علاقة جدلية بين المنجز الإبداعي، وجماليات الحياة المتعددة كالحب والسلام والفضيلة".. لم تكن خاتمة الرواية ذات طابع تقليدي، أي ناتجة من تسلسل هرمي للأحداث، بقدر ما كانت نهاية مفتوحة على أفق أكثر تفاؤلا وأملاَ بالمستقبل ..
"ريحانة" تجري عملية في تركيا تستعيد فيها عفتها التي سلبها الخال منها، بمساعدة الخال النادم نفسه، الذي أشار الروائي إلى نهايته في موضع ما من الرواية، بأنه مات مقتولا في مطار بغداد بعد عودته مع ريحانة من تركيا، نتيجة لحماقاته الصبيانية مع بنات المسؤولين، وصفقاته المشبوهة .. لتعيد الحلوة ترتيب أوراقها التي تبعثرت بين، أب مفقود، وفوضى الغرائز المتمثلة، بخال خائن زان، وسراب زميلتها في العمل الشاذة جنسيا.. لتبدأ حياة جديدة كانت باكورتها، رمي المشط سبب بلائها ومحنتها في مياه البسفور، لتكون هذه الحادثة شاهدة على نهاية حقبة مريرة من حياتها وبداية عهد جديد.. "قذفت مشطي الأبيض وسط الأمواج بطريقة حاولت أن لا أبدو فيها عصبية، مشطي الصغير الذي أغرقني في رائحة عجيبة طيلة سنوات رمادية، جلبت لي الويلات وانتهكت عذريتي وحولتني إلى كائن هش".