ادب وفن

"حديقة الأرامل".. التناص وتأويل الواقع / عبد علي حسن

تسعى قصص مجموعة "حديقة الأرامل" للقاص ضياء جبيلي نحو الدخول إلى الواقع عبر تقنية الغرائبي والعجائبي ، بعيدا عن افتراض الواقع الورقي المحاكي والممثل للواقع ، ولعل استخدام العجائبي محاولة سردية لتخليق جماليات العجيب للوصول إلى مناطق متخيلة فريدة ينفرد بها النص على سبيل البناء السردي للأفكار والرؤى أولا ولإيجاد مدخل يسهم في إزاحة المسلمات التي تفترضها الحركة المنطقية للواقع الخاضعة لسببية الفعل ومكونات الشخصية والأحداث التي تملك إمكانية الحدوث ، على سبيل الكشف عن الجمالي في ذلك العجيب بمغادرته المألوف في حراك الواقع من أجل تأويله ومنح المتلقي فرصة لم شتات تلك الأحداث العجائبية للوصول إلى تأويل يعود بالنص ثانية إلى الواقع بشكل جمالي وفني ، وهذا ما تمكنت قصص مجموعة "حديقة الأرامل" من التوصل اليه ، لذا فإن قراءة المتلقي ستكون تأويلا لتأويل منشئ النص ، ولعل هاتين العمليتين القراءتين تتجهان إلى فتح قنوات ومنافذ جديدة لقراءة الواقع وهو غائية الكتابة والإبداع والهدف النهائي للنص بغية إثراء الذائقة المعرفية والجمالية للمتلقي الذي ينشد دوما التفاعل مع المنجز المتجاوز والمخلخل للمسلمات الراكدة.
ومن الممكن ملاحظة هذه التقنية في قصص المجموعة وفق ما ذهبنا اليه ، إذ توافرت القصص على مقاربة الواقع مقاربة تخييلية غرائبية تخرق حجب المنطق السببي للأحداث ، ووجود هذا المبدأ قد اسهم في منح النص حرية الخلق والانطلاق لتشييد عوالم شكلت النص التخيلي الجواني للواقع ، ويمكن تلمس ذلك في القصص التي اختارتها الدراسة لتكون نماذجا تحليلية تسعى إلى تأويل التأويل الغرائبي الذي بنيت النصوص وفقه.
ففي قصة "عمر الورد" يحاول النص من خلال تخليقه لحدث الدموع التي تذرفها عين الصبية الذي يصاحبه ظهور العطر ، وهو فعل عجائبي لا يمكن أن يحصل في الواقع ، إلا ان النص يستثمره للوصول إلى جشع كل من الأم والأب ليكون طريقا للثراء عبر تزويجها من اغنى تجار العطور في المدينة الذين سعوا إلى الزواج من الصبية لتكون مصدرا لزيادة ثرواتهم لندرة نوع العطر الذي يصاحب بكاء الصبية التي تتعامل مع كل ما يجري ببراءة وحسن نية ، ولتعميق بنية الاستغلال فإن النص يلجأ إلى تفعيل خاصية الانتباه لما يجري من قبل الصبية فتكف عن البكاء مما يستدعي معاملتها بعنف من قبل الزوج التاجر لدفعها إلى البكاء ، الأمر الذي يجعل الصبية في حزن دائم بفعل ما تتعرض اليه يوميا من تعنيف وأذى لتذرف الدموع، العطر لتتدهور صحتها يوما بعد آخر ثم تموت وهي في عمر الورد ، لقد كان هذا الحدث الغرائبي مركزا تحركت حوله وفيه دوافع الشخصيات الصبية، الأم، الأب، التاجر ليكشف عن نزوع البشر نحو الوصول إلى غاياتهم باستخدام كل الوسائل التي تمكنهم من الوصول إلى ذلك بقطع النظر عن ما تسببه من آثار سلبية على الآخرين من آلام وأذى جسديا كان أم نفسيا ،وتبدت هنا قوة التخييل في بناء هذا الحدث وتأثيثه ليكون متسقا وهدف النص في تأويل ما يجري في أرض الواقع، لذا فقد كان هذا الفعل هو النص التخيلي للواقع والذي منح النص والحدث خاصية الفرادة.
وفي قصة "البحث عن الزمن المفقود" يتداخل الواقعي بالغرائبي على نحو تكاد فيه الحدود الفاصلة بين السردين تختفي حتى الفقرة الأخيرة من القصة التي يظهر فيها السرد الغرائبي على نحو مستقل عبر بناء الحدث المتضمن عناصر غرائبية يصعب تصديقها ، فالشخصية المركزية "زكي" الموظف في دائرة جمارك البصرة وهو على وشك الإحالة إلى التقاعد يقدم هدية إلى الموظف الشاب الذي سيحل محله وهي عبارة عن صندوق يحوي أجزاء رواية البحث عن الزمن المفقود لمارسيل بروست وقد كان بدوره قد استلمها قبل أربعة عقود هدية من الموظف الذي سبقه في قسم الصادرة والواردة والذي أحيل إلى التقاعد ، وعلى الرغم من عدم اهتمامه بقراءة الكتب إلا انه استطاع إكمال قراءة الرواية خلال العقود الأربعة التي أمضاها في الوظيفة ، ويكشف النص براعة في خلق العلاقة بين رواية بروست والوضع الجديد للشخصية المركزية بعد إحالته إلى التقاعد واقتصار مهمته على الاهتمام بحفيدته ورمي نفايات المنزل في المكب العام ، إلا ان مرور فكرة مفاجئة في رأسه أوحت اليه بضرورة البحث في المكب عن ما يمكن أن يكون مهما وتم وضعه في سلة المهملات بطريق الخطأ ، وعند الحاوية وجد العديد من المسنين المتقاعدين وقد افرغوا أكياسهم للبحث عما هو مهم وثمين إلا انهم كما وجده هو لم يكن ذو قيمة.
"وقد بدت للعجوز المتقاعد كأنها أعوامهم البائدة الصدئة" وهنا تتبدى ثيمة القصة وقدرة النص على استثمار تواتر الهدية بين موظف سابق وآخر لاحق ليؤكد على ضياع وفقدان زمن امتد على مساحة زمنية هي أربعة عقود من الوظيفة غير مجدية ، وحديث أستاذ زكي مع نفسه بعد انضمامه إلى مجموعة المسنين وهم يبحثون في أكياسهم يؤكد ثيمة النص واتساق رواية بروست مع حالة المتقاعدين "اذن..؛ كما لو انه سمع حكمة هز راسه في اثرها قائلا:- ؛هذا ما يسمونه البحث عن الزمن المفقود"! في إشارة إلى استحضاره الذهني لأحداث الرواية التي استغرق في قراءتها أربعة عقود ليعرف مغزاها ، ولعل لجوء القاص إلى تخليق حدث تجمع المسنين المتقاعدين عند حاوية النفايات وبحثهم في محتوياتها ان هو إلا تخيل غرائبي يشكل تأويلا لواقع المتقاعدين الذين لم يجدوا قيمة ثمينة لسنوات عملهم خلال الأربعة عقود وكأنها -- ارتباط برواية بروست-- فقد عدها النص زمنا مفقودا من حياة هؤلاء المسنين ، لذا فقد كان النص بسرديه الواقعي والغرائبي تأويلا لواقع المتقاعدين والمسنين.
أما في قصة "حديقة الأرامل" فإن الغرائبي يتشكل سرديا عبر التفاعل القرائي للصبي "آدم" مع رواية زوربا للروائي نيكوس كازنتزاكي ، إذ يتبدى استحضار الشخصية المركزية كذات فاعلة مؤثرة في بناء غرائبية الحدث ، فـ "آدم" المولع بقراءة الروايات يواجه معارضة شديدة من امه التي ما ان ترى كتابا في يده حتى تسارع إلى تمزيقه ماعدا الكتب الدينية التي تحث على مكارم الأخلاق إلا ان شغف القراءة يدفع "آدم" إلى إخفاء الكتب التي يصحبها إلى بيته عن عيون امه ، وفي احدى المرات وبعد قراءته لرواية زوربا خاف من ان تكتشف امه أمره فلجا إلى دفنه في الحديقة مموها مكان الدفن واضعا إشارة لمكانه ، وبمرور الأيام ومن خلال السقي للنبتة التي حاول إيهام امه بها ، لاحظ آدم ان ثمة فطر غريب أشبه بإبهام مقطوع قد نما في المكان الذي دفن فيه الرواية . وحينما حاول لمسه نهرته امه ، وبعدما كبر حاول قضمه بين أسنانه إلا ان الفطر نهره معترضا ، إلا ان تطور الحدث باتجاه بناء غرائبيته يعزز من فكرة النص التي كانت محصلة لوضع الأرملة المحرومة من المعاشرة العاطفية فتجد في الفطر الذي يتخذ شكل وصفات شخصية زوربا من يقاسمها الفراش ولشدة سعادتها لم تتمكن من كتمان أمرها فتشيعه بين الأرامل من جيرانها فيتجمعن في الحديقة الأمر الذي يدفع آدم إلى التساؤل "يا الهي! كم زوربا نحتاج لحديقة سوداء من الأرامل"؟ فقد كشف النص عن قدرته على مد الجسور السردية بين الواقعي والمتخيل الغرائبي من خلال استثمار وإدماج شخصية زوربا في الرواية بحالة الأرملة التي هي كما يبدو في أمس الحاجة إلى علاقة عاطفية وإذ تكفلت الشخصية المتخيلة بذلك فإن طرح معاناة الأرملة ومعالجتها وفق هذا البناء الغرائبي قد كان تأويلا لما يجري في الواقع وتحديدا ما تعانيه الأرامل عاطفيا ، فضلا عن تبيان قدرة الكاتب على توظيف الفعل القرائي للروايات في بناء أحداث غرائبية تنبثق من شخصيات تلك الروايات وتعشيقها بالسرد الواقعي ممكن الحدوث ، ولعل السرد الواقعي السابق لظهور البنية الغرائبية في النص يعد المنطقة التي يصطاد فيها النص متلقيه لينسجم مع حيثيات وتفاصيل الواقع ثم يفاجئه بظهور السرد الغرائبي الذي مهد له في القسم الأول من السرد واعني به الواقعي ، وتتبدى في هذا المقام خاصية التناص المباشر مع الروايات العالمية والمعروفة مثل رواية "البحث عن الزمن المفقود" لمارسيل بروست الذي تناص وتداخل معها نص بالاسم ذاته مستخدما العنوان ذاته ورواية "زوربا" لنيكوس كازنتزاكي الذي تناص معها نص "حديقة الأرامل" ورواية "مائة عام من العزلة" لماركيز الذي تناص معها نص العش وقصة "الشيخ والبحر" لهمنغواي والذي تناص معها نص انتقام المارلين وغيرها من الروايات التي تفاعلت وتداخلت معها نصوص المجموعة لكتابة نص جديد بفضاء سردي يتناسب والأحداث التي تضمنتها قصص المجموعة .
نخلص من تحليلنا لعدد من قصص المجموعة واتجاه القصص الأخرى ان حضور البنية الغرائبية كان حضورا فاعلا متخذا مركزية البناء السردي بعده مدخلا مهما من مداخل الواقع عبر عملية تأويل النص للواقع مما أضفى جمالية تجاوز المألوف على معالجات النصوص للأحداث والشخصيات المركزية التي تمتعت بحضور مؤثر بعيدا عن كل ما يجعل النص مترهلا ومفتقدا إلى جماليات السرد ، ولعل هذا الاتجاه الذي بدأ يأخذ فاعليته في السرد القصصي هو ما سيعيد للقصة العراقية ألقها وتأثيرها في المشهد السردي العراقي المعاصر ، لذا فإن السرد الغرائبي سيعد واحدا من سمات جماليات النص القصصي العراقي الجديد.