افق اللغة الثالثة في رباعية شمران الياسري / عدنان منشد

ما زالت رباعية شمران الياسري الروائية قريبة الى ذائقتنا، عزيزة على نفوسنا، حتى وان بعد بها الزمن وتعرضت الى أحكام شتى، ضمن مراجعات وقراءات نقدية متعددة، خصوصا ما يتعلق بشكلها الفني ومضمونها الاجتماعي المحتدم، كونها تنطق بألسنة الفلاحين العراقيين التي اكتوت بعلقم الاقطاع وهيمنة الحكم الملكي المباد ضمن منطقة «الحي» في محافظة واسط، وما يتبعها من نهران وغدران وارض ساطعة تحت الشمس، وشياه وابل وجاموس وكلاب وحمير، بقلم روائي خصب قد لا يدانيه في الرواية الريفية العربية الا الكاتب المصري المبدع عبد الرحمن الشرقاوي في روايته الاثيرة «الارض».
ورباعية شمران الياسري في تقديري عملت في ثنائيات جدلية متعددة حول صورة «السيد والعبد» المعروفة في التاريخ والميثولوجيا بتنويعات مختلفة ومتفردة قوامها الاقطاعي والفلاح، السركال والمزارع المأجور، وجهاء الريف المتبطلين الاغبياء وشاعرهم المتستر الفصيح، مع مرأة الضياع والجور والشبق والرجل التقليدي الذي يتعامل معها مثل الديك، لا يترك لها من البيضة الا قشرتها ومن الفرخة الا ريشها.
مثير ومبدع ولوذعي شمران الياسري في سرد وصوغ هذه الرباعية بأجزائها المعروفة «الزناد، بلابوش دنيا، غنم الشيوخ، فلوس أحميد» التي لم تستهو وزارة الاعلام العراقية في تعضيد نشرها عام 1972 لأسباب واهية وغير مقنعة بالمرة، قد نتناولها لاحقاً في خضم اشكالية سلطة البعث، وهي تواجه نتاج كاتب ومناضل وطني معروف، خبر السجون العراقية والمعتقلات المختلفة مع معايشة ملزمة وسجناء قاع المجتمع كاللصوص والقتلة والمشعوذين وأصحاب السوابق الذين تطامنوا مع هذه السجون انصياعاً واستراحة لجرائم جديدة قيد التخطيط فيما اذا توافرت سبل تنفيذها في قادم الايام. اما من الناحية الحضارية فقد كان العراق يعاني من كل التناقضات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، حينما كانت الاوتوقراطية الملكية تترك ظلالها القاتمة على كل شيء، على الريف والمدينة والانسان. وبصفة عامة نستطيع ان نقول ان وعي شمران قد انفتح على العالم في فترة من احلك الفترات في تاريخ العراق وان حياته اشتبكت بكل ما في هذه الفترة من رؤى وظلال.
ليس غريباً أن نجد في هذه الرباعية الساخرة شيئاً من مستوى لغوي ثالث في سياقها العام، خصوصاً في قسمها الرابع «فلوس احميد» بعد ان كانت هذه الرواية تعمل على مستويين واضحين في السرد والحوار. الاول يخص بنية السرد الروائي في عالم الريف وبؤسه مع قدرة سلسة في الوصف المفعم بروح الشعر الذي ينفذ الى اعماق الشخصيات والاشياء، وصولا الى المخبأ والمستتر أو المسكوت عنه، ضمن تحولات وانتقالات وارهاصات تحيل السرد الى ألوان مختلفة من التأنق، وبوسائل شتى. وكان المستوى الثاني للرباعية ينهض بالحوار الريفي الشجني المعزز بالأمثال والحكايات والسخرية المريرة، من دون صخب وادعاءات استعراضية حتى وان كان القدر سببا لحلول البؤس والتراجيديا الحزينة.
اما المستوى الثالث والاخير في الرباعية، فهو اللغة الثالثة التي يختزنها شمران المبدع من خلال معرفته الدقيقة بشفرات السادة والشيوخ والحرامية التي درسها عن كثب في سجونه ومعتقلاته المتعددة قبل ثورة 14 تموز بمزاج يقوم على الروح المعنوية العالية، ولذلك كان ينزع في هذه اللغة الى السخرية المرحة، والى تعرية ما في الشخصية البشرية من زيف وتصنع دون تجريدها من انسانيتها او تجريحها، والى الاعتماد على المفارقة كأسلوب بنائي بارع يكثف طبيعة الشخصية من خلال الموقف. وقد ظلت هذه المفارقة احد العناصر البنائية المهمة في الرباعية ومنها «غياب حسين» شاعر القرية وحكيمها والمتنبئ الاول بالثورة قبل اندلاعها بفترة قصيرة، الموت المفاجئ لخلف كأكبر مناضل فلاحي معروف في ريف مدينة الحي، بعد يومين او ثلاثة من احداث الثورة العارمة التي قطعت الطرق والجسور إزاء جثمانه المتجه الى مقبرة وادي السلام، ثم صدمة الغاء العملة النقدية الملكية بقرار جمهوري وضياع «الصاية والصرماية» لفلوس الراعي «أحميد» بعد ان استولى على غنم الشيوخ وحولها الى اوراق نقدية تحت الارض فبارت وانتفت صلاحيتها دون علمه.
والآن، علينا ان نقترب من اللغة الثالثة لشمران من خلال الفصل الخامس للجزء الاخير من الرباعية «فلوس احميد» حيث نجد سيد حسين والشيخ محمد، وهما في زيارة تفقدية للراعي الذي سرق غنم الشيوخ ورحل بعيدا عن الديار، حيث يقول الاخير:
- «اولاد المداس، راح يسوون هرجة بالچذب ويختلقون عركة بيناتهم حتى يطردونا»!
- تمام.. فد مره سووها ويانا بالمريثه.. اولاد «النعل» طردونا غير طرده، هم بها الطريقة!
وحينما يهرع الراعي لملاقاتهما، ويخر على الارض من اجل تقبيل قدميهما، تبدأ اللغة السرية «الثالثة» بين الرجلين المذكورين، ومنها:
- «سوش خيدي بمداس ميدي» ومعناها بتفسير الكاتب «خوش مداس».
- «سنده ميدي. سوش خيدي. سلوس فيري» ومعناها «عنده خوش فلوس».
هنا يحيلنا شمران الى هامش توضيحي في اسفل الصفحة قائلاً: لست في معرض الحديث عن هذه اللغة ونشأتها، لكني سمعت «الموامنة» الذين يجوبون الريف يتخاطبون بها فوقفت على اسرارها. وتتلخص برفع الحرف الاول وجعله في آخر اللفظ، مضافا اليه «ي، د، ي» ويحل محل الحرف الاول دائما «س».
وتتعمق هذه اللغة اكثر للقارئ من خلال الشخصيتين المذكورتين:
- «سوفه خيدي – ستلك گيدي. سوفه خيدي» أي «خوفه. گتلك خوفه».
- «ساح ريدي، سحط ايدي. سلاو كيدي. سراسه بيدي» أي «راح احد كلاو براسه».
الطريف المبهر في سياق هذا الفصل ايضا ان يبرز الشقيقان «جنيدي ومهيدي» في مواجهة ذينك الشخصين ليتحدثا بلغة الحرامية، وكأنهما ليسا بابنين مطيعين لوالديهما الراعي البخيل، ليقولاِ:
- «ما معرشاف، محچتيسات، مصوشيجب، الموشيد» أي «ما عرفت حچي صاحب السيد».
- «مهوشيذا، ما محجش، محرشيمية، مهوشيذا، محجش معاشام» أي «هذا مو حچي حرامية. هذا حچي علام».
ويقول شمران في هامش الصفحة 123 من ذات الجزء: لغة الحرامية لا يمكن ضبطها بقاعدة دائماً وان تكن في الافعال الثلاثية، خصوصاً، محكومة بحروف زائدة متساوية. ومع ذلك لا يصح القول ان لها قاعدة دائماً، فطالما استبدلوا مواقع الحروف، او تحريكها، على نحو يعقد الامور على متتبع المتخاطبين وفقا لقواعد.
ويضيف: ولكن هناك ألفاظ يمكن رصدها بدقة مثل لفظ «عرف» فانه يتحول الى معرشاف. و»وصل» الى موصشال. و»كتب» الى مكتشاب. ولكن الامر يلتبس على المستمع و»تنلاص» اللغة اذا قال قائلهم: «ممو جيشب بمنفشيسته» أي انه «معجب بنفسه» و»مامريشاد محجشي المصدشيك» التي هي «ما يريد يحجي الصك». والعجيب في الامر سرعة تخاطبهم وتفاهمهم بها لدرجة لا استطيع متابعتهم مع اني اجيد التخاطب بهذه «اللغة» وفقا للقواعد التي تعلمتها على ايدي «الحرامية»!
وهكذا، يعري شمران الياسري من خلال اللغة الثالثة في رباعيته المفارقة الفكاهية في اعماق مجموعة من الشخصيات العابثة في المجتمع العراقي. ويكشف عما فيها من زيف واصالة معاً من خلال حوار على درجة كبيرة من الفكاهة والذكاء، اذ تتفجر فيه السخرية عبر التحقق المفاجئ من طبيعة الموقف ومن سوء فهم الشخصيات له، ومن خلال تحول الشخصيات الى الدفاع عن موقفها بنفس الاستماتة التي دافعت بها عن نقيضها القديم، ولكن، بلغة ثالثة.