ادب وفن

ساق البامبو ووعيد الأحلام من الفليبين الى الكويت / قيس مجيد المولى

عندما يقرأ القارئ ساق البامبو يبدأ بالتحرر من عقدة القضاء والقدر ويمارس حريته داخل الرواية، ومن هنا وبوجود البعد الجغرافي الهائل ما بين المكانيين "الكويت – الفلبين" فهناك البعد الأوسع في العادات والتقاليد والبنى الفكرية والإجتماعية والعقيدة الدينية وكذا المكون النفسي وأثر العامل الاقتصادي في هذا المكون، وهو العامل الذي يتقدم العوامل الأخرى ضمن ما آلت اليه أحداث الرواية، وعندما أقول العامل الاقتصادي فأعني أن الحاجة الى العيش قد فتحت الصفحات الأولى للرواية ليستمر الحدث بشكل معقد ومتواصل ضمن مقودي المنظور واللا منظور بما في ذلك القرار الشخصي وما نجم عنه من زعزعة التركيبة البنيوية والاجتماعية لعائلة الطاروف، إن رسم أحداث الرواية كان يسير ضمن السلس المثير والذي يشبه شعريا النص الذي يسمى بالسهل الممتنع، فالإثارة كامنة في الإيجاز وفي التفاصيل وفي الجهد التخيلي وفي التدليل المعرفي وفي الوقائع التاريخية كي يحكم الروائي سعود السنعوسي بناء روايته بناءاً محكما لافجوة فيه مستفيدا من قدراته الروائية وكذا من خزينه القرائي والإطلاع على التجارب الروائية العظيمة كما يخيل لي، أي أن الروائي السنعوسي لم يأت الى عالم الرواية وهو خال الوفاض، بل لدية نظرة تفحصية أو بالأحرى مسح شامل للرواية العربية والعالمية وكأنه أراد الخروج من المتشابهات في النمطية الروائية وبذلك قرر أن تكون ساق البامبو هويته الخاصة بإمتياز لمغادرة التلقين الروائي، والإعتماد التاريخي، والبنية العاطفية المطلقة لواقع روائي عربي ظل صريعا لهذه المقاربات، إن إضاءة المرئي الإنساني بضوء أكثف ضياءً يعني المساهمة في كشف هذا المرئي على مساحة واسعة من الكرة الأرضية أي نقله من المرئي الى المرئي المُتَحسس على صعيد "الحقيقة – الوهم - الابتذال – العاطفة – الواجب - النموذج – الخرق- التضحية – البؤس – الكرامة - القسوة..." وعشرات من المفردات التي قدمها الروائي ضمن خط سيره المتكامل للتدليل على ما يعنى وما أراد أن يقول عبر أنا قلت ما أعني، هنا نجد أن أكثر من قضية قد تركتها الأجيال قرضا من جيل الى جيل لتتناسل في الذات عبر حقب زمنية طويلة وبالتالي كونت جدارَ ممتنعاتها وخطوطَها الحمراء وإن تخطيها يعني الخروج على وصايا الرّب والقيم الأخلاقية لصد أي تفكير يرمي الوصول الى الاتجاه المعاكس، بل أغلبها مَثلَ أعرافا لابد من الانصياع اليها وبالتالي تناسلت هذه الأعراف لتتحكم بالمقود الاجتماعي في بلداننا العربية ومنها بالأخص منطقة الخليج وخصوصية هذه المنطقة من الناحية الجغرافية والبشرية والاقتصادية، لاشك أن رواية السنعوسي جاءت لتؤكد استمرارية هذا الصراع، صراع الوجود، صراع الهوية، صراع من أكون ولماذا كنت، صراع الطبقات الخفي بعضها مع البعض تحت لافتات اجتماعية متعددة، صراع الإنسانيات حين تتقابل بالمنجز الحضاري الروحي والمنجز المادي، صراع الخوف مع الخوف، صراع الوعد والوعيد للأحلام التي تمتد من فالنسويلا شمال الفليبين الى الجابرية وسط الكويت، وهنا لابد أن ترفع اليد لتأكيد أو نفي، مقولة جوزفين أن الأشياء تحدث بسبب ولسبب.أم أن الأشياء تحدث بفعل قدر خفي وليس بفعل عوامل السببية،
في الرواية أغلب الشخوص تكاد تكون شخوصا مركزية لاتصال حلقات السرد بعضا مع البعض، فالأبطال أمام القارئ وكذا الذكريات التي يخلفها الراحلون "حكاياتهم-أدواتهم- رسومهم على الطاولات أو على الجدران- وصاياهم". شخوص ساستهم مع ماينبعث من هذه الشخوص من متشابهات ومن فوارق كما هي مساحة الفارق ما بين "غنيمة وجوزفين" والفارق بين الصحراء والمناطق الجبلية، إذن كيف تستطع اللغة تهيئة متطلباتها لتحريك شخوصها وماهي تلك اللغة وما نوعيتها، إن لغة سعود السنعوسي في رواية ساق البامبو هي لغة تنظيم وظيفي أي لغة قائمة على الوسائل التعبيرية بهدف إقرار غاية معينة "وهو ما اصطلح عليه النقد الحديث" اللغة التي تخزن في ذاتها جماليتها وثقافتها وهواجسها ثم تسيح بفعالية على مجرى الأحداث بعيدة عن الشفرات والرموز لأنها أي لغة السنعوسي لغة عالم متغيّر عالم حافل بالتناسل الأفقي والعمودي فقد استطاع السنعوسي أن يرصد الوقائع ويسردها عبر والدته الفلبينية "جوزااا" وهو الاسم المختصر الذي كانت تناديها به غنيمة، السيدة المهابة الثرية والأرملة التي ترك لها عيسى الطاروف ولدا واحدا "راشد" و3 بنات "هند، عواطف – نورية"، وجوزفين أو جوزا كما يحلو لغنيمة، كانت لا تحلم بفستان أو حذاء جديد بل كان همها أن تشتري كتابا أو تستعيره كونها مولعة بقراءة الروايات، تركت أهلها للعمل خارج الفليبين عبر أحد مكاتب العمالة من أجل إعالة عائلتها، الأب المقامر والأخ العاطل والأم المريضة وتوابعهما وبعد اجتياز عدة معرقلات أخبرت بأن وجهتها ستكون الكويت حالها حال العشرات من العمالة الوافدة الى دول الخليج.
كان الجو العام في الكويت تحت تأثير الحرب العراقية الإيرانية حرب الثمانينات وصادفَ وصول جوزفين يوم تفجير موكب أمير الكويت ولربما انعكس ذلك على سوء طالعها مع الحوادث التي توالت أما الأم الكبيرة كما يسمونها فكان اهتمام الأم غنيمة براشد اهتماما له أسبابه ليس لكونه آخر أولادها في سلالة العائلة بعد أن اختفى الذكور من أسلافه مع سفنهم الشراعية في البحر بل أنها تؤمن ببقاء الإناث ورحيل الذكور بفعل السحر والذي عملته باعتقادها إيمانا مطلقاً. كان راشد شابا متفتحا، يحلم بكتابة رواية وكان يتفقدني ويكلمني بغير لغة الأوامر وكان يكتب مقالا أسبوعيا في إحدى الصحف ينتقد بلاده في انحيازها الى أحد طرفي حرب الثمانينات، لم يقل لي يوما راشد لم يقل لي جهزي أو حضري أو اجلبي أو اغسلي واكنسي فقد كان يعاملني بالحسنى، ذات يوم بعد أن جلبت له قهوته المعتادة في مكتبه في البيت حدثته في السياسة وأبديت أمامه سعادتي لزوال سلطة ماركوس ومجيء كورزان أكينو لتسيير أمور البلاد وعودة الحريات وفي عيد ميلاد بلادي في شباط من كل عام احتفل معي بهذه الذكرى وبادلني التهاني، وأردفت وكأنها ترى مشاهد الصور أمامها، يا خوزيه الفليبيني ويا عيسى الكويتي كان والدك هادئ في طباعه، يحب صيد السمك والسفر مع صديقيه غسان ووليد، غسان الفنان والشاعر والعازف الرجل الذي أحب هند الطارف وللأسباب الإجتماعية ذاتها لم يستطع الاقتران بها، ووليد الذي قتله خاطفو الطائرة الجابرية على أرض مطار لارنكا"
اتخذ راشد قراره بالزواج بي وبحضور الشهود ووثيقة موقعة من قبله وقبلي وممهورة بتوقيعي صديقيه غسان ووليد قبل أن تدركه حادثة لارنكا ، وبعيدا عن الشاطئ في مركب صيد قريبا من الوميض الأحمر كنت أنا في الرحيل الأول تاركا جسد والدي مستقراً في أعماق والدتي، ولد هوزيه، أعني ولد عيسى وبدأت مرحلة استباقيه لتهيئة قبول المولود الجديد فالجدران قائمة في عائلة الطاروف وكذا الخطوط الحمر القاهرة، إذ ذاك لم يجد راشد من مناص بعد أن عجز عن إقناع غنيمة لم يجد مناصا من حجز أول طائرة متجهة الى الفليبين لامرأة وطفل لم يتعد الشهر الأول من عمره مشفوعا بتعهد لوالدته على أن يعيش على أرض الكويت مستقبلاً، لتبدأ مرحلة التيه، تيه الاغتراب ، ليبدا السنعوسي التنقل بمهارة وبحرفية عالية بين وقائعة التي تتدفق فيلتقط مشهد خالته "يلدا" خالته التي تصغر أمه بـ3 سنوات والتي قدمتها العائلة بسبب الحاجة والحصول على مصدر للرزق قدمتها لسمسار وأصبحت يلدا كأي شيء يباع ويشترى ومن جراء تقاسم جسدها مابين الراغب وبين السمسار فلقد تلقفها الإبتذال فأدمنت على الشرب وتعاطي المانجوا وحملت أكثر من مرة وأسقطت حملها لكنها في حملها الأخير أبقت (ميرلا)في أحشائها ولم تخبر أحد بذلك الحمل إلا بعد أن أصبح من المستحيل إسقاطه،
ميرلا ابنة خالته، أخت جوزفين، ميرلا الجميلة والشجاعة، ميرلا التي لايُعرف أبوها حالها حال المئات من الفتيات المجهولات الأب، أليس من حق هوزيه أو عيسى سيان، أن يصر على أسنانه في تيهه العميق، أن يدنو من باب ما في السماء كي ينتمي الى حقيقة وجوده كي يتحسس كيانه الإنساني ولو فوق حبات من الرمل أو فوق بقايا أوراق نفضتها شجرة بائسة، كل شيء يحدث بسبب ولسبب تكرر جوزفين هذه المقولة،
في مرحلة جيدة أو بالأحرى في تيه جديد يصل عيسى الى الكويت ضمن الوعد الذي وعده راشد لجوزفين وتلك الفترة كانت وقائعها هائلة ومدوية على الأرض الكويتية ليعيش شعب كامل في تيه لا أول له ولا آخر، كانت القوات العراقية قد دخلت الكويت واحتلت هذا البلد المسالم البسيط، وقتل من قتل من هذا الشعب وفقد من فقد منه، وكان راشد أحد ضحايا هذه الحرب حين عثر على جثته بعد انتهائها في منطقة من مدينة كربلاء، رغم ذلك لم يفلح موت راشد في قبول الوافد الجديد وظل تحت رعاية غسان وفي مسكنه.
لا شك أن الأفعال الإنسانية أفعال غير ثابتة وتختلف من شخص الى آخر في عائلة الطاروف، كانت هند وهي داعية لحقوق الإنسان تمثل بشكل أو بآخر الفتاة العصرية الكويتية التي ترفض التزمت والتقاليد البالية ولكنها ليست صاحبة القرار في قبول عيسى ضمن أسرة الطاروف، بل بالمحصلة الإجمالية هناك خوف على مصير العائلة من وجوده بينها خوفا متأصلا في جذور البنى الإجتماعية متشابكا كتشابك جذور البامبو.
في شوارع الكويت يحدق عيسى في وجوههم، يتأمل حركات أيديهم وهم يعدلون "يشاميغهم"، كيف يشربون قهوتهم كيف يحركون سيقانهم كيف يبتسمون، كيف يتسوقون من السوبرماركت، يريد عيسى قطع مسافة ما من تيهه العتيد، يريد أن يرى أملا في وجوده عبر مجهوله، يحدث نفسه ألست أنا ابن راشد، أنا خوزية يخاطب نفسه عفوا أنا عيسى بن راشد بي عيسى الطاروف، أوراقي الثبوتية معي وجواز سفري الأزرق الكويتي معي وهنا أهل والدي هنا جدتي غنيمة وعماتي الثلاث، يبدو أن لا خلاص في الخلاص ولا حل في بقاء جذور البامبو متشابكة بعضها مع البعض، فالوجود أحيانا بمثابة الإشكالية الكبرى لإثبات الإنسان لوجوده في عالم يُسند بالخرافات والتقاليد وغياب تقرير مصير الذات فكيف لمزدوج الجذور المنشطر والمتشظي أن يجد ملاذه في تيه الواقع، في مطار الكويت حين نودي على الركاب للرحلة المتجهة الى الفلبين كانت دموع هند وعواطف ساخنتين فوق خديهما وهما يودعان عيسى، عيسى الذي سيكون هوزيه بعد ساعات حين يصل الى الفليبين، عيسى الذي ظل يلتفت الى الوراء حاملا معه تراب أرض والده في قنينة زجاجية صغيرة ليدخل تيها آخر عبر الأرض الشاسعة التي تفصل مانيلا عن الكويت ومعه أيضا مقولة والدته جوزفين إن الأشياء تحدث بسبب ولسبب.