الأدب ومقولة التاريخ (2-2) / سيف سهيل

قبل، وأثناء الثورة الفرنسية، وما بعدها، بدأت الحاجة تتحول في علاقتها مع الفرد ذاته: لم تعد مفهوماً لا واعياً بالنسبة إليه، يعبر عن كيان الجماعة ككل واحد، ويرضي فضول الوعي في سعيه لمعرفة ما هو مجهول. لم تعد بمعناها المادي الأفلاطوني، حاجة ذات اتجاه واحد متناغم.
مع الثورة الفرنسية، وبالذات في الفترة التي رافقت النهضة (أي الفترة التي مهدت للثورة)، أصبح الفرد واعياً بحاجته المادية، التي تلتقي مع حاجات فئة أو مجموعة والتي تضاد حاجة فرد آخر/ حاجات فئة أخرى، أو مجموعة أخرى. المعنى البدائي للحاجة، بوصفه دافعا لا إراديا مراد إشباعه بطمأنينة نفسية مصدرها إجابات مندفعة من اللاوعي (تخيلات، صور) لفرد أو لمجموعة أفراد عن تساؤلات وعي المجموعة بكاملها (التي لها قدسية عليا بشكل طوطم).
أقول إن هذا المعنى القديم، لكن اللامهجور للأبد و المستعاد لاحقاً على نحو واعٍ، للحاجة، قد حل محله معنىً ملغماً بوعي الماديّ وقوانينه، معنى ثنويّ في طبيعته: لقد تصدر إلى الأمام مفهوم المصلحة (Interest)؛ الآن وعي الأفراد صراعهم إنّ صيغة: "حاجة ضد/مع حاجة" صارت حاضرة ذهنياً. هكذا انتقلت الحاجة (need) أمام ناظرنا! من مفهوم معنويّ غير واع وغريزي على الأرجح إلى مفهوم ماديّ (يستمد دعائمه من دينامية الواقع) مُدرَك بشكل شبه تام. "العقول الكبيرة في السنوات الأخيرة على نهاية العصر (عصر النهضة)، مثل بيكون وميلتون، تعكس في كتاباتها فجر المصالح الجديدة".
خلال القرن السابع عشر توجهت الأفكار بشكل متزايد نحو المشاكل السياسية والمدنية، وعلى إثره وبشكل طبيعي صار الأدب مهموماً بمشاكل السياسات العملية!.
فيما ظلّ كاتب رومانطيقي مثل شكسبير بعيداَ عن مشكلات الساعة السياسية!.
لم تعد الآداب الرومانطيقية القديمة المليئة بالعاطفة، هذه العاطفة المتخذة كوسيلة وهدف في ذاتها، تعبر عن حاجات العصر. الدلالة الاجتماعية لتزايد ظهور أدب يعنى بالمشكلة السياسية بوسائل العقلي عوضاً عن العاطفي فيتزايد وعي الطبقة الوسطى بمصلحتها، هذه المصلحة التي كشفت ممارسة الثورة الفرنسية عن شكلها الطبقي، كما يستعمله ماركس.
سنحاول الآن أن نعرض للحدث الثاني ونتقصى دلالته في الأدب: أقصد ظهور موضوعة الإنسان على أعتاب القرن التاسع عشر الميلادي.
إن ظهور هذه الموضوعة، التي سادت في ميادين العلوم الإنسانية على مدى القرنين التاسع عشر والعشرين، لا بل وشكلت لبنة حقولها ومركز اهتمامها، قد جاء نتيجة للتغيير الذي طرأ على الأنساق والنظم الأساسية للمعرفة كما بيّنه البحث في ميدان آركيولوجيا المعرفة لميشيل فوكو. مع بداية القرن التاسع عشر، ونتيجة لهذا الانقلاب الذي حصل على مستوى منظومة الفكر، بدأ الإنسان يكتشف، إضافة إلى أرخانية خاصة باللغة، بالاقتصاد، بالطبيعة، أن له أرخانية (Historicity) تخص وجوده هو: لقد وعى أن له تاريخاً، كذات متكلّمة (في الأدب والأسطورة)؛ كذات عاملة ومنتجة ومستهلكة (في الاقتصاد)؛ كذات تعيش وتتكيف (في الطبيعة والحياة). بدأ الفكر ينقطع عن أن يكون فكراً؛ أن تفكر يعني أن تستعبد أو أن تحرر، صار الفكر في جوهره فعلاً، كما هو الحال في أفكار هيجل، ماركس، دي ساد، فرويد، نيتشة، و آرتاود. عندما نوجه نظرتنا إلى انعكاسات العصر الحديث في مرايا الأدب سنلمس وجوهاً عدة. ففي نهايات القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر انبعثت الرومانطيقية، لكنها لم تكن رومانطيقية القرن الخامس عشر.
لا يكفينا القول بوجود اتجاه رومانسي في الأدب بشكل عام، متوقفين عند حد الإشارة العامة والعابرة لتأثير الرومانطيقية على مرّ تاريخ الأدب، بل من الضروري أن نصرّ على وجود اختلاف كبير بين اتجاهي الرومانطيقية المفرزين أعلاه وتأثيرهما المنفصل في الآداب. فمن الواضح بأن حضور الطبيعة عند ووردسورث و سكوت يختلف تمام الاختلاف عن حضورها لدى شكسبير: زهرة الربيع في عين شكسبير هي ليست أكثر من "وردة صفراء جميلة" !. بالمقابل، ماذا نجد عند ووردسورث؛ سكوت؛ شيلي على سبيل المثال لا الحصر؟
بالنسبة لووردسورث فإن هدفه كشاعر كان "روحنة أمزجة الطبيعة"؛ الروح القارة تحت المظاهر الخلابة للطبيعة.
أصبحت زهرة الربيع أو زهرة النرجس أو أي نوع آخر تعني لنا، مع ووردسورث، "رسالة الطبيعة إلى الإنسان" ! شيلي يشترك في هذه النقطة مع ووردسورث يظهر كل منهما نبياً للطبيعة أكثر من كونه شاعراً بها. هكذا نرى أن نظرتيهما إلى الحياة تركز في فحواها على أنسنة الطبيعة. لكن شيلي يتميز عن ووردسورث وباقي معاصريه بنقطة هامة، وهي أن شيلي كان مُصلِحاً بقدر ما كان شاعراً.
مثاليته الاجتماعية كانت تتعاطى مع متغيرات الحاضر، وتسعى إلى المستقبل بقوة. وفي عدد من قصائده المبكرة ظهرت عدة مواضيع تتناول أوضاعاً اجتماعية كما في قصيدتي (الملكة ماب) و (ثورة الإسلام).
يمكن للمرء أن يخرج من دراسة أعمال شيلي الكاملة بملاحظتين، أولاهما: تكريس حياته للحرية، وثانيهما: "الإيمان المطلق بأن الحب هو عامل أساسي لأي ارتقاء إنساني". كانت الثورة في نظر شيلي نهضة روحية تؤدي إلى بدء حياة جديدة، أكثر من كونها انقلابا سياسيا. أما سكوت فقد تميز طابع أعماله بالنزعة الإنسانية، وخصّ من الطبيعة الأرضَ في أعماله، مؤنسناً إياها حد العبادة. الأولوية في الأهمية عند سكوت هي كتابته للرواية التاريخية (Historical Novel). إن عبقريته في هذا المجال تعود إلى تقنيته في إسقاط معرفة عصره على شخوص الماضي (شخوص عالمه القديم) مؤنسناً إيّاهم، مقيماً، بذلك، نقاطاً من الاتصال والانفصال بين الماضي والحاضر.
هكذا مرة ثانية، نكون قادرين على قراءة ما هو سياسي واجتماعي وفكريّ لمرحلة ما في نصوص آدابها.
في الأمثلة الأخيرة، نتبين تموضع الأدب في الفضاء المعرفي للقرن التاسع عشر.
الإنسان على أنه كينونة مكتَشَفة في ذاتها، الوعي بالتاريخ الإنساني، الطبيعة مأخوذة بانفصالها، هي معالم سادت معرفة القرن، وظهرت في نماذج الكتّاب الثلاثة أعلاه، وهي على أية حال في النهاية نماذج لا تعميمات.
وإذا كان ووردسورث لا يزال يحاول الإصغاء إلى أصوات الطبيعة، فلأنه كان يعيش على أعتاب نظامين معرفيين متباينين: كان صوت الطبيعة الجهوري في القرن الثامن عشر يتلاشى في أذنه وهو يتخطى حدود القرن الجديد تدريجياً!.
عبر كل ذلك، ومنذ البداية، لم يكن الأدب متأثراً فحسب، بل كان مؤثِّراً- وهنا نتبين ذاتيته- في الوعظ والتعليم والسياسة والمجتمع والاقتصاد. شكّل الأدب حلقة مكملة في سلسلة الأحداث، ولم يتوقف عند حدود الوصف المنمّق، إنما تجاوزه إلى أن يكون الموقف والسلاح الأول في الثورة والمعارضة والتغيير.
وربما يظهر هذا الدور على نحو أكثر فضاضة ووضوحاً في إطار الأحداث السياسية والاجتماعية منه في إطار الأحداث الفكرية (ذلك بالطبع، وليس دون شيء من التعميم، إذا أخذنا في الحسبان الحد المفترض بين المادة الصرف والمنهج لمؤرخ سياسي وهاتين اللتين تهمان مؤرخ أفكار).
لكنني أميل إلى القول بأن الحدث سياسياً كان أو فكرياً ظلّ يقيم صلاته مع الوعي البشري عبر التاريخ، وبالتالي فإنّ الأدب، وبالقدر الذي يكون عليه وعينا ومقدار ارتباطه بالحدث (بغض النظر عن نوع الحدث ما دام بشرياً)، يحافظ على ذات المكانة في التأثير.
وبعبارة مقتضبة، لقد كان أداة الوعي البشري في سعيه لتجاوز ذاته.
وسيصادفنا بصدد هذه المسألة عدد من الأمثلة الواردة لاحقاً.
عند هذا الحد، حاولنا (بشيء من التفصيل بالنسبة للتحليل، وبالكثير جداً من الإيجاز بالنسبة للمادة التاريخية) أن نثبت إنّ الأدب، تاريخياً، منذ أن رأى النور لم ينقطع عن أن يكون فاعلاً ومنفعلاً مع حالة محيطه؛ سواء ربطنا مسيرة تاريخه بالتاريخ السياسي والاجتماعي أو حلِلْنا تشابك خيوطه مع تاريخ الأفكار، فإن الأدب لا يكفّ عن أن يكون وظيفيّاً، مطلقاً، دائماً وأبداً.