الحداثة الشعرية: تحرير التقاليد المتوارثة وإدامة حيويتها / قيس مجيد المولى

رغم تلك المثالية التي ربطت الشعراء الأوربيين بالجمال لكنهم تنوعوا في موضاعاتهم وأشير هنا إلى تلك الموضوعات التي لاعلاقه لها بالجمال في ظاهرها سواء على اختيار المضمون أو باستخدام المفردات ذات البعد المألوف أحيانا وذات الأثر القبيح أحايين أخرى ناهيك عن تلك القفزات السحرية ضمن الخيال العميق والمتميز فقد كانت تفاهة الواقع تقود إلى أسراره وبفك أسراره يمكن استدراج المناطق الغامضة لتنسلخ الأشياء من وجودها وتصبح رهن اللغة ليصنع الشعر منها مايشاء ،هذا هو المفهوم المتداول بين النظريات الحديثة للخروج من سجن الواقع الضيق للبدء بتأسيس قوى أخرى قابلة لان تكون أكثر إثارة وأبعد توجيهات فيما يجعل كل شئ متعلقا بغير عصره ولذلك وجدت في المداخل النفسية وفي البحث في كواليسها عن كل ماينسجم وذلك الضياع وتلك الهوة التي شطرت الكائانات البشرية لتجعلها لصيقة الحاجة المادية وأهمال جزئها المنشطر الأخر.
تأمين متطلبات النص الجديد
ان مواجهة الظواهر الكونية وتفسيرها كانت أحد المنطلقات الأساسية في إكتشاف اللغة الملائمة والقادرة على محاكاة قدرات المخيلة التصويرية لإنتاج ذلك الكم من الصور المتشابكة والمتعارضة ليتمكن الجوهر الإبداعي في ذلك من اختيار موضوعات قد يكون البعض منها فخما وقد يكون البعض الآخر ضيقا وعاديا ولكن نتائج هذا الاختيار وفي الحالتين تكون على مستوى عال من التدفق ومن إرادة الحيوية وديمومتها التي حررت ما كان من التقاليد المتوارثة في اللغة وهذه الإرادة سهلت طريق إقامة بنى جديدة على صعيد اختيار ما يمكن الإفادة منه ضمن الوسائل المختلفة الرئيسة أو المساعدة لتأمين حاجة النص ومتطلباته وفق التوجهات التي لا تحفل بالعموميات ولا بالقوانين الوضعية التي لاكت الألسن ورهنتها عقودا طويلة، لقد ذهب الإغراق في الوصف بعيدا وأصبح الاسترسال الوصفي المقنن ميزة عوض ذلك وذهب التماثل بالتقريرية المباشرة وجف السطح ليوغل في الأعماق وتحول كل مخيف كان الشعراء لا يأتون على ذكره ليحل في المقدمة بل أن اللغة الساخرة جددت انتماءها الى مواضيع جادة وأخرج الشعراء منها أشكالا من المقدرات الجمالية قصدوا بها تشويه الواقع للاقتراب من الأحاسيس التي تثير موجوداتهم بدون عزل استدراكي لمناطق الوعي واللاوعي إذ أن المجهولية التامة بالواقع والصياغات الدرامية المزدوجة بالفكاهة واللا شعور بالحياة الوضعية وتقدير وبناء العالم الشعري المطلوب كل ذلك رتب العناصر الغازية للعقل وجعلها أمام مصير القوة العمياء التي تفترس المشابه والمتكرر والمرئي بصوره الطبيعية إن كل شيء هو ضمن تلك المسارات الدرامية التي تتوافق مع الإيقاع النفسي وهي مزدوجة الوظيفة والفعل والنتائج ،
لقد ذهب التشبيه والاستعارة إلى الجحيم وذهب ديكور الأشياء الى جحيم آخر وعرف الشعر كيفية الإفادة من الصوفي المطلق والرمزي المباشر والاعتزاز بالأنا كمولد حقيقي للإنجازات الجمعية.
لعل بودلير واحدا من هولاء الذين اجتهدوا في تنظيم تلك الرؤى الشعرية فصنع تقابلا مابين الأضداد أضداد الكلمات أضداد الألوان الأضداد الحركية، السمعية، البصرية وقد حوت مراحله الشعرية مراحل خطيرة في مستوياتها الإغرائية والعصية بدءا من بدايته من الأرامل و المهرج العجوز أو البجعة أو سأم باريس ناهيك عن مطولاته الأخرى المعروفة ولا شك أن ما كتبه قد شكل شعرا حقيقيا شعرا غريبا وعنيفا شعرا لاذعا وعميقا وهو وغيره وجدوا مظهر اللغة الحقيقي فتطورت الكلمة تطورت الفكرة وتطور الوجود الشامل الذي أصبح نمطا لها.
دراسة الجمال ومفاهيمه
على أثر تلك المغادرة باللغة تعمق الوعي شعريا بوعي الثقافة كمدخل لاستنباط العديد من الإشكاليات الفكرية التي تساهم في إمدادات جديدة للمخيلة وقد أخذت الحضارة تمثل وطأتها الثقيلة أمام حاجة الإنسان لما يشفي ذاته والتي بدأت تعيش شكلها الدرامي كمحصلة أكيدة لمحاولات التجديد وظهور النظريات والتيارات الفكرية وبهذا خلق من الرموز وجودا حيا ومن الباطن إطالة إنصات للتعبير بفخامة بدون الحاجة الى تسوية انسجامية ما بين العلاقات التي أثرت اللغة زمنا طويلا الأمر الذي ساعد على أن يتوغل النقد في أعماق الماضي بعد أن حاول إعطاء شفرات ما للأشياء التي لا بد من إعادة النظر فيها وخلال مائتي عامٍ من الجهد الإنساني الذي تعاقب عليه العشرات من الشعراء المهمين ضمن القارة الأوربية تم تقييم منجزات العصور الأدبية الحديثة وأعيد تداول المفاهيم الإغريقية القديمة بشأن الشعر وتم توظيف القدرات النقدية لدراسة الجمال ومفاهيمه وكان المسرح آنذاك وما كتب له هو الآخر قريبا مما كتب عن الشعر أو لصيقا له ولاشك رافقت ذلك تحولات سياسية وهزات كبيرة ومنها الثورات الأوربية كثورة نابليون في فرنسا والخارطة الجديدة لاوربا والعالم بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية وتداخل الصراع الديني وسيادة الاقطاع وازدهار الاكتشافات العلمية الأولية والسيطرة الاستعمارية وتنامي رؤوس الأموال بيد القلة في المجتمع واضطهاد العمل الذي تعرضت له المرأة والأطفال في المعامل والمصانع وشيوع التوق إلى الحرية ضمن شيوع مبادئ حقوق الأنسان التي أعلنها الرئيس ولسن.
النقد والكشوفات الأولية
بدأ النقد يكشف أن هناك تحولا كبيرا في مفاهيم ركائز الإنتاج الشعري ومنها اللغة ووظيفة المخيلة ومفهوم الخيال ومدرك الموجودات والملكات الإبداعية والعقل الباطن والشعور والإحساس والتناقض والعقل المتطفل والتصور والابتداع وكافة أوجه النشاط الشعري الأخرى التي تعني للنقد أن يخرج بحصيلة ما عن الشعر الذي كتب في الماضي والذي بدأ يكتب الآن وكيف يتعامل النقد مع هذين المنتجين عبر تلك الأزمات وما ولدت من آلام جمعية ساهمت في تفجير الوجدان الإنساني وفي النظر الى الحقائق والمتطلبات الكونية بنظرة من اليأس والتمرد وكان لابد من المعجزة التي توحد الذات ليس في الشعر فقط وفي الأجناس الأدبية الخاصة بالشعر، الأغنية ، الأنشودة الرعوية الملحمة، الدراما لإحياء وإيجاد ما كان لذيذا ومخفيا في الماضي، الإدراك الأهم من ذلك ولربما المعبر عنه أن الشعر مقدس خفي في ظلام الأسرار وهو حالة رفيعة بدون أن يطلى بشيء من الدينية أو أشكال التأثيرات الأخرى التي اعتمدت من البعض كعكاز للوصول الى المتلقي فقد تفرع النص الواحد إلى نصوص عديدة اتجهت إلى الابتعاد عن عقلية العصر وهنا أصاب النقد حين حلل أسباب هذا الاتجاه وأستخلص أن كل الذي جرى كان من الضرورات استجابة للمواء الذي في باطن الإنسان وهو مواءٌ يشبه الموت فنهضت قوة تشتيت الخيال وامتلكت اللامتناهيات زمامها لتتوالد الأحداث وتتناسل الأزمنة والأمكنة كل ذلك جرى بصوت الأنا الواحدة التي أنهت نظام الاتكال على حرفية الماضي ليبلغ الشعر ذروته الغريبة وما زال النقاد يعتقدون أن هناك الكثير الذي مضى والذي لا بد من الاستدلال على قواه الأخرى المخفية فيه كي يصار بعد ذلك الى نسيانه ووضعه على الرفوف شاهدا فقط على عصره.