الـ "ق. ق. ج" والروح السردي والحذف الابداعي / داود سلمان الشويلي

ما زال جنس القصة القصيرة جداً يطرح مجموعة من القضايا المهمة، والاشكاليات المتعددة، والأسئلة الكثيرة والمتنوعة على مستوى التجنيس والكتابة الابداعية والفحص والنقد.
ومن هذه الاسئلة هي التي أطرحها على ذائقتي النقدية الفاحصة، وأنا أقرأ نصا من نوع القصة القصيرة جدا، سؤالاً مفاده: بماذا يتميز هذا النوع السردي؟ وهل هذا النص القصصي يعد فناً سردياً قائما بذاته، بحيث انتشر هذا الانتشار السريع في السنوات العشرة الاخيرة، ان كان ذلك على الصفحات الافتراضية، أو كان على الصفحات المادية، كمجاميع قصصية؟
سأحاول في هذه السطور الاجابة عن ذلك السؤال.
***
في الكثير من الاحيان، وعند صياغة أي شيء نقوم بكتابته ونقيده في بنية سردية قائمة بذاتها، كأن تكون رواية أو قصة قصيرة أو قصيرة جداً، نستغني عن بعض التفاصيل الدقيقة، والتي كثيرا ما تكون مملة أو مزعجة، لأنها لا اثر لها فيما نسمعه، أو نقرأه، ومثل هذا الامر يحدث عند سماعنا خبرا ما، او زائدة عن الحاجة، وكأننا نسرع لسماع النهاية، وما آلت اليه الامور في ذاك الخبر المسموع او المكتوب، ومثل هذا الاجراء لا يحدث لو اردنا ان نكتب قصة قصيرة، مثلا، لان مثل هذه التفاصيل الدقيقة، او تشعبات الخبر في الاحداث الرئيسة، تفيد عناصر القصة كثيراً، كالحدث، والوصف، والزمان، والمكان.
في القصة القصيرة جداً، والتي من اهم مميزاتها الاساسية الحجم الصغير، والتكثيف الزمني واللغوي، وكذلك في الصور، فإن مثل هذا الاجراء في تجاوز بعض هذه التفاصيل، قد تتطلبها القصة القصيرة جداً بصورة عامة، لأنها تأتي متوافقة وما تمتاز به من قصر، وتكثيف في نواح عديدة، بشرط عدم الاخلال "بالروح السردي" لها، لان اهم شيء تجب المحافظة عليه هو "الروح السردي" الذي يميزها عن الخبر العادي؟
إذن علينا ونحن نكتب قصة قصيرة جداً، ان نحافظ على الاتزان بين "الروح السردي"، وبين قصر واختزال ما نكتب، دون ان نخل بالأمور الاخرى لمواصفات ما نكتب.
***
امام الدراسة هذه نصان من نوع القصة القصيرة جداً، احدهما للقاص حميد نعمة عبد بعنوان "مكرمة"، يقول فيه:
"لم يمهله الجلاد رضع سيكارته، دفنها معه".
والنص الثاني للقاص تحسين كرمياني بلا عنوان، إذ يقول فيه:
"وضعوا حبل المشنقة حول رقبته .. قالوا له:
ـ هل لديك رغبة أن نحققها لك؟
قال:
ـ أدفنوا معي مكتبتي ؟".
النصان يتكونان من ثلاث حركات سردية، لان هذه النصوص تضم افعالا حركية، غير ساكنة، فهي نصوص متحركة، تضم "روح سردي" بين طياتها، كالزمان، والمكان.
والحركات السردية في النص الاول، هي:
- عدم الامهال.
- استمراره في رضْع سيكارته.
- دفن السيكارة معه.
وفي النص الثاني:
- عدم الامهال.
- سؤال عن تحقيق رغبة له.
- دفن المكتبة.
يختلف النصان في البناء القصصي، فبينما يبنى النص الاول على الرغبة الذاتية المتحققة من قبل الشخص نفسه، وهي رضْع السيكارة، نجد ان النص الثاني يبنى على السؤال من الشخص المعني عن رغبته الواجب تحققها.
إن تناول السيكارة هي رغبة نفسية لا يزال الملايين يكبتونها، أو يكشفونها، الا انها رغبة متحققة ذاتياً، وعند الاعدام تكون هذه الرغبة متأججة في نفس المعدوم.
اذن الاختلاف هو ان تكون الرغبة متحققة ذاتياً، ورغبة سيحققها الاخر.
***
في النص الاول نرى عبارة "رضْع سيكارته" والرضْع مصدر الفعل "رضَع" وهذا المصدر المخبأ داخله الفعل، لم يكن موجهاً للسيكارة، لان السيكارة لا ترضع، وانما علينا ان نقول "ارتشف" او "سحب نفسا من دخانها". والرضْع يكون للسوائل، كالحليب مثلاً، وهو مغذي حسي/ مادي، بينما دخان السيكارة مغذي روحي.
صحيح ان الدخان شيء حسي/ مادي الا انه له فائدة معنوية تفيد الاعصاب، بينما الحليب يمر بمراحل حسية/ مادية عديدة ومتنوعة.
اذن، جمع القاص فعلين في فعل واحد، هما فعل التغذية المادية، وفعل التغدية المعنوية/ الروحية، دخان السيكارة، لهذا نرى ان القاص قد وسع من مساحة "الروح السردي" في هذا النص، فهو قد تغذى مادياً، ومعنويا/ روحياً، أي انه قام بفعلين، وليس فعل واحد، فاصبح في القصة اربعة افعال، هي: فعل الامهال، فعلي الرضع، فعل الدفن. وبهذا فقد ازدادت مساحة السرد، وتحقق كذلك صغر الحجم وتكثيفه.
ان الفعل السردي الطاغي على مجمل الحركات السردية الاخرى في القصة، هو فعل الاعدام، لان وقت الاعدام عندما يحين، لا يؤخره أي امر آخر، ومن هذه الامور التي ذكرت في النص هو "رضع السيكارة"، فقد دفنت معه، لان الجلاد لم يمهله لفترة حتى تنتهي سيكارته.
اما النص الثاني فقد كانت امنية "بطل" القصة هو ان تدفن معه مكتبته، وهذه هي رغبته، فكما كان في الحياة من القراء المجدين، فإنه يحب ان يكون كذلك في مماته، او وهو ميت ان يكون قريبا من كتبه كي يقرأها.
لم نعرف هذه الامنية ان كانت قد تحققت ام لا، الا اننا نعرف ان اماني ورغبات المعدوم متحققة.
وليس من مهام هذه الدراسة تقديم فحص لصدق او كذب هذه الرغبة، الامنية، او انها ستتحقق، او بعد الممات، لأنها ليست من مهامها في الوقت الحاضر، لكنها تعلن للمتلقين ان هذه الرغبة، او الامنية، مع رغبة ارتشاف السيكارة، هما رغبات مطلوبة في الحياة العامة، وفي الواقع.
السؤال الذي نطرحه هنا، هو: ما هو الشيء الذي استغنى عنه القاص في القصة هذه، دون ان يفقد "الروح السردي" فيها؟
ان من الامور التي استغنى عنها القاص في نصه، الاحداث التالية التي اعتبرها القاص من الامور التي تجعل القصة مترهلة، وهي:
- استغنى القاص عن ما يكون من احداث اثناء عملية الاعدام. إذ ان القصة قد بدأت من لحظة الاعدام، من ساعة الصفر.
- استغنى القاص عن ذكر امور منها ان كل معدوم يجب ان يتمنى امنية لتحقق له قبل الاعدام، كما ترد في اغلب القصص القصيرة الاجنبية، او العربية.
- استغنى القاص عن وصف عملية الاعدام التي هي الفعل المركزي الذي تدور حوله الافعال الاخرى، كفعل الامنية، لأنه لولا الاعدام لما كانت الامنية، او ما هي في محل الامنية.
- استغنى القاص عن ذكر الزمان والمكان، واكتفى بالإيحاء عنهما فيما قاله في القصة، اذ المكان هو غرفة الاعدام، والزمان هو زمان الاعدام.
- استغنى القاص عن معرفة تحقيق امنية دفن المكتبة.
اذن الاستغناء عن امور لم تذكر عند كتابة أي نص هو ما نطلق علية تسمية "الحذف"، ولهذا يضع اغلب الدارسين للقصة القصيرة جداً قضية "الحذف" من اهم الاركان الضرورية للقصة القصيرة جداً.
***
لو كتب هذا النص كما لو انه قصة قصيرة، لوجدنا كيف كان القاص يتعامل مع موضوعه بإسهاب، ليس مملاً، ولا متوسعاً باطّراد، بقدر ما هو اسهاب ابداعي متوسع في الاحداث الى حد ما، والوصف، وفي كل شيء يجعل من النص نصاً قصصياً.
الحذف الذي نقصده هو الحذف الابداعي، وليس الحذف الاعتباطي اللا مسؤول الذي يخل بالروح السردي للنص، وهذا يتطلب مهارة عالية من قبل القاص نفسه في كتابة القصة القصيرة، والقصة القصيرة جداً، لان كتابة القصة القصيرة جدا لا تكفي في ان تنتج قصة قصيرة جداً، بل يجب ان تكون عند القاص معرفة كاملة ودقيقة في كتابة القصة القصيرة، ومن هذه المعرفة يمكن ان ينشأ الحذف الابداعي.
وعلى النص من هذا النوع ان يكون في انشائه متوازنا بين "الروح السردي"، وبين "الحذف الابداعي" لتكون عند ذلك الـ ق. ق. ج. مكتوبة بحرفية ابداعية كاملة.
***
النصان اللذان ناقشناهما في بداية هذه الدراسة هما من هذا النوع، فهما قد حافظا على الروح السردي مع وجود الحذف الابداعي، حيث استغنيا عن امور كثيرة والتي يتطلبها الخبر الصحفي لو نقل في الصحافة، او على ألسنة الناس.
"الروح السردي" و"الحذف الابداعي" من ضمن اركان القصة القصيرة جداً، ولا يمكن ان تولد قصة قصيرة جداً من دونهما.