فؤاد سالم.. قلب بحجم وطن وقصة حب تملؤنا فخرا / فوزي الأتروشي

قلب بحجم وطن، ورحلة غنائية ركزت على إنسانية الإنسان أينما كان دون خوف من القمع أو التنكيل الذي بلغ أبّان النظام الدكتاتوري السابق في العراق حدّ محاصرة الأحلام والمشاعر وكل عواطف الحب بالأسلاك الشائكة.
انه فؤاد سالم الإنسان والمناضل والمبدع الذي حاز لقب فنان الشعب بكل ما يعنيه هذا اللقب من مغزى، لأنه جعل للأغنية رسالة وهدف، والرسالة هي التمرد والجرأة في جعل الكلمة واللحن والأداء صرخة مدوية بوجه الدكتاتورية، ولمسة حب وحنان لكل الناس في العراق والعالم.
وحين نقول لكل الناس فنحن نعني ما نقول من حيث أن هذا المبدع أبى ان ينطوي داخل ذاته القومية أو الدينية أو الطائفية، وإنما انفتح على ذاته الإنسانية ذات الفضاءات اللامتناهية للحب والأمل.
استهلّ فؤاد سالم مسيرته الخضراء مع اوبريت "بيادر خير" عام 1963، وهي البيادر التي مازلنا بانتظار أن تعمِّر حياتنا بالوئام والسلام والثراء المعنوي. وكانت بعدها رحلة حياة مليئة بالحزن والجراحات الغائرة بل وأحيانا بالضرب المبرح من قبل أزلام النظام الدكتاتوري فها هو الراحل يقول "ذات مرة استطعت أن اغني في مكان ما، لكنهم إنتظروني في الخارج وأشبعوني ضربا بأعقاب المسدسات وجعلوا دمائي تسيل على الأرض، فأيقنت أن لا مكان لي في العراق لأنهم سيقتلونني في المرات القادمة، فغادرت الوطن وكفي على قلبي".
كان ذلك في سبعينيات القرن الماضي حين فصل فؤاد سالم من معهد الفنون الجميلة ومنع من الغناء، لأن غناءه تغريد خارج سرب النظام.
لكن فؤاد سالم انتصر رغم الضرب والمنع من قبل فئة لم تقرأ أبداً أبجدية الموسيقى والفن والأدب، وانتصاره كان مدويّا لأن في قلبه الكبير شموعاً بقدر سكان العراق حين كان الظلام حالكا وقرر التصدي للعواصف وإن بقي هو الشجرة الوحيدة المقاومة في وقت سقط كثيرون غيره وغيّروا ألوانهم وأثوابهم كما الحرباء، ولم يركع ولم يستسلم رغم ان الموت كان قاب قوسين أو أدنى منه.
كلنا نتذكر في الأيام الصعبة لنضالنا ضمن المعارضة العراقية أن فؤاد سالم شكل بأغانيه قوة معارضة غاية في الأهمية معنا بالموسيقى والغناء والفن، ولكن أيضا بقصة حبٍّ أبدية لكل العراقيين فكان ان غنى لضحايا فاجعة "حلبجة" مثلما غنى للبصرة المدمنة على العشق والماء والنخيل، وغنى للعراق الافتراضي بعد ان غادره وكفه على قلبه كما صرح هو.
ولأن الحديث عن هذا العاشق الأخضر الجميل لا يكتمل إلا بالحديث عن يوميات حبه بكل تفاصيلها، ولأنه على سرير المرض ظل يطلب الحب والحنان والوفاء منا جميعا أكثر من طلب المادة التي لم يكن يوماً أسيراً لها، لذلك كان الشاعر "هاتف بشبوش" صادقاً جداً في نعيه للراحل بقوله
الليل يطول والجيتار يصرخ فينا
زيدوني حباً.. فبغير الحبّ يذوي صوتي
وبدون الحب.. لاتمتلئ السلال بالبرتقال
ولايعانق العامل ريح الشمال
ولا يضحك الحصاد في البيادر.. زيدوني حباً
حين خرج فؤاد سالم عام 1982 عنوة من الوطن حمل معه للذكرى كل الأشياء الجميلة من العراق ليكون متماهيا معه، حمل صلابة وشموخ جبال كردستان، وطيبة وعشق وطعم نخيل البصرة وتراث ثوراتها وتمردها على الظلم، وذكريات ضفاف دجلة التي منحت بغداد عبر التاريخ ميزة الشهرة بين المدن. حمل فؤاد سالم معه كحل نساء الاهوار وصور كدّهن وكدحهن اليومي من أجل الخبز والحرية، وحمل اسطوانات المواويل الجنوبية المخضبة بالدموع وبانتظار الأمل، مثلما حمل نبرات صوت ناظم الغزالي وحضيري أبو عزيز وداخل حسن وسليمة مراد وعفيفة اسكندر، ليكون كل ذلك عونا له على تجديد وإنعاش ذكرى الوطن الذي أهداه عام 2003 بشرى التحرر والانعتاق، لتكتحل عيناه مرةً أخرى برؤية البصرة السابحة في مياه الحياة. لكن هذه المرة جاءه القمع والمنع والحزن من نافذة المرض ليرحل عنّا بعد سنين من المعاناة ويتركنا نستحضره لحناً أبدياً وصوتاً يمنحنا جزءاً من هويتنا العراقية وسيرة حياة تميزت بربط النضال السياسي برسالة إبداعية مفادها ان الفنان يمكن أن يتحول إلى قامة مديدة وباسقة ومثمرة وحافلة بالتحدي للظلم بسلاح اللحن والأغنية.