اضواء على قصيدة إحسان احمد حسون "النشمي الراقي .. حمد العراقي" / عيسى مسلم جاسم

يمتلك المبدع، ما لا يملك غيره، فهو الذي يجيد الغوص في اغوار الماضي وسبر مجاهيله، وبعثه من جديد "مع توشيحة بلمسة عصرية" باطار جديد متألق، وهو ايضاً من يمتلك عيوناً فولاذية ثاقبة فهو المؤهل برؤية، ما لا يراه الآخرون. وان لم يكن كذلك فهو ليس بمبدع، كعموم الناس، وعليه دسّ قلمه في غمده، حفاظاً لماء الوجه.
شمعة القدح لهذه "الديباجة" قصيدة شعبية "حمد العراقي- للشاعراحسان احمد حسون"المنشورة في الصفحة السابعة أدب شعبي، والمنشورة في جريدتنا الأثيرة طريق الشعب، بعددها 81 لسنة 79، ليوم الخميس المصادف 5 كانون الاول 2013.
جاءت القصيدة على لسان امرأة، وهذا الجنس وفي عموم العالم، وحصة الأسد في بلادنا، عانت الويلات اثر الويلات، كذلك وضح الشاعر أن هذه المرأة هي "أم" وهذا الرمز كبير جداً، وكما اسلفت عانت وتحملت هموم الأب والاخ والابن عبر صراعات طويلة ومريرة.
- أماه خلّ الدمع لليوم الحزين/ ان جفّ دمعك في مآقيك الحبيبة/ ماذا عساكِ ستذرفين على رفاقي/ بعد موتي. أخشى وداعي الاّ يكون بلا دموع- مقاطع من قصيدة الغريب لـ"ممتاز كريدي"- هكذا هي الأم أميرة الاحزان وحمالة الأسى والأنين الصدر الحاضن للبطولات، وجور السنين، والأم كذلك هي الرمز التواصلي الولود، وهي الحياة بامتدادها العتيد، وهي الثدي الذي يزق اللبن المركز بالحب والثورة، والفجر الآت بعد ليل طويل.
نجد في القصيدة تكرر كلمة "حمد" وهي مفردة تجيب على لسان ترسانة الحب الكبير الأم الحنون الصابرة والسند المتين من قساوة السنين، وهي صياغة ذهبية دقيقة لمفردة "محمد احمد" والموروث الشعبي المتداول "خير الاسماء ما حُمد وعُبد" لقد وظف الشاعر ذلك بدراية عالية، نعم تكررت هذه المفردات "حمد" وجاءت دافئة نابعة صادقة من الأم الأنسانة المربية المضحية الفاضلة، جائت لـ"ست وخمسين" مرة وهذا الرقم ليس عادياً، فهو يمثل مرحلة تاريخية مهمة حاسمة، ناضجة في تاريخ العراق، وفي غمرة التحالفات الجبهوية، مما أثمرت ثورة 14 تموز 1958. اض? لذلك هذا العدد يمثل سنة 1956 تأميم قناة السويس، وردود الفعل الجماهيري العراقية، وتقديم الضحايا، كما في مدينة الحي الواسطية لربما ادرك ذلك الشاعر أو لم يدرك.
ناهيكم عن أن هذه المفردة، وظفت بشكل خلاق للحكايا والبطولات القصصية، وفيها جميعاً يكون "محمد" هو النموذج البطولي الأيجابي الاسطوري الخارق "السوبرمان" ولست ادري هل هذه التسمية ليست بمعزل عن "الانسان" الذي اختارته "السماء" لاجل انقاذ البشرية، ونقل المعمورة من الظلام والهمجية الانسان العربي ابن الجزيرة العربية (محمد"ص"). وهذا توظيف "للفنتازيا" الروحية.
جاءت القصيدة طويلة ملحمية فقد احتوت على "ثمانين سطراً ونيفاً" وهي بلا شك تواصلاً مع الذكرى الثمانين لميلاد رمز الحركة التقدمية الثورية في بلادنا، وجاء "النيف" يشير الى الامتداد الـ"لا محدود حسب اللغة الرياضية، وهذه اشارة ذكية اخرى من الشاعر.
فقد قسمها الشاعر الى "احد عشر " مقطعاً وقد تراوحت سطورها بين 7-9 سطور، الشيء المميز ان "ثمانية" مقاطع أحتوت على سبعة سطور، يعني طغيان العدد "سبعة" وهو رقم مبارك في "الميثالوجيا" بنوعيها الاجتماعي والروحي معاً، وهنالك نصوص عديدة جداً لا يتسع المكان لسطرها، والتي توثق وتعزز هذا الرأي، ولست أدري هل جاءت على السليقة او بافتعال من الشاعر على كل حال أحسن الشاعر، بذلك او بغيره من المفارقات المشار اليها. الشاعر وضع قصيدته في مقاطع على الرغم من وحدة الموضوع، الاّ أن لكل مقطع "ثيمة" خاصة، وقد نعرج الى بعضها لاحقاً.
المتابع للقصيدة يجدها خريجة المدرسة الواقعية الاشتراكية وبامتياز: أريد رباي منك يا بعد عينك/ دين بدين وگوم فك دينك/ واريدك يا شهم كل مايل تعدله- النص من المقطع "العاشر". أضف لذلك فان القصيدة "هندسياً" وفق مبدأ قصيدة "التفعيلة" مع طغيان القافية "الهاء المتصلة" وحرف الروي اللام" الى جانب التفاوت الكبير في عدد التفعيلات، لذا نجد ان الايقاعات الموسيقية لها حضورها الفاعل وهي صالحة جداً "للمنابر" وتحظى بقبول الجمهورين الأفقي والعمودي معاً، وهذا نجاح كبير، وعموماً هذه سنّة هذا اللون الأدبي، ولاسيما جيده، فهي بمثا?ة الحداثة بالنسبة للأدب الشعبي على أقل تقدير.
ولاجل العناية اللازمة في عيون وافكار الشاعر، فكانت الام والمرأة عموماً هي البطل المحوري لذا نجده يقول وفي المقطع "السابع": - حمد يبني اريد الثار/ أريد النار تسعر نار/ أريدك يا شهم مغوار/ تاخذ ثار كل مظلومه من مثكوله لو رمله- نعم النص، ومهما يطول لا يفي بهموم وويلات ومصائب المرأة، وهي تتوسم بهذا "الحمد" ان يرد الحيف، فهو المنقذ المنتظر، لا ريب لم يكن حلماً طوباوياً، أو أمنية عسيرة التحقيق، وهذا "حمد" هو اكبر من البشر يقتحم الأهوال لذا نرى الشاعر يقربنا من الصورة اكثر: حمد واترس شواجيرك/ درب ثوار وانت الزين ?ندله "لا توجد حركة ثورية بدون نظرية ثورية- لينين "لكن السؤال، ما دواعي تحفيز "حمد" لهذه الثورة، نجد الجواب: حمد طبع الوفه طبعك/ حمد راحوا خطاطيرك/ حمد وگعن نواعيرك- النص يترجم الظروف الموضوعية الحتمية والضرورات لهذه النخوة.
أيّ "حمد" هذا الذي ليس من دم ولحم، بل هو اكبر من ذلك بكثير، انه قضية قدسية، وفكر خلاق من طراز جديد يمتد عميقاً في تربة البلاد، كالنخيلات الباسقات والجذور العميقة، لا ريب هذا طريق ستراتيجي لكنه ولا كل الطرق، فقد انتشر في عموم البلاد "كالثيل" او انتشار النار في الهشيم، فعمّ البلاد طولاً وعرضاً – حمد بديالى راية نار والأنبار والحله/ حمد ابن الجزيره وموصل الحدباء والكحله- النص من المقطع السابع، ويعدد الشاعر مدناً عراقية ولم يضع حواجز فهي "القصيدة" عابرة "للأثنيات" فقد تضمنت القصيدة اكثر من "عشرين" مدينة او مكا? على امتداد العراق وبكل تضاريسه والوانه واثنياته، عراق واحد موحد، هو مسرح "حمد" البطل الأسطوري والفكري الثوري والقضية المجربة للنجاح والعادلة دوماً رصيدها الشعب اصلاً.
لم ينسّ الشاعر الجانب الرومانسي، فلم يكن عاشقاً للمتاعب ولا راغباً بالحزن، بل يحلم ويسعى لتحقيق احلامه الوردية التي تتجسد في الوطن الحر وفي الشعب السعيد، وهي مهمة ليست يسيرة، بل طريف ذلك معبد بالعرق والدموع، وموشح بالدماء الزكية. نجد عينة رمزية رومانسية: - هله وليدي وهله بحسك/ هله ويخسه الذي يمسك/ هله وعرس الشعب عرسك/ حمد عطاب.. فوگ الجرح يتخله- النص هنا أتوقف عند البيت الاخير "وحمد عطاب فوگ الجرح يتخله" ضربات الشاعر ذكية، سيما رصيده الثر في "الموروث الشعبي" والعطاب هو قطعة قماش على الاغلب تؤخذ من "يشماغ" ?لرجال ويشعل بالنار، ويوضع على الجسد المصاب وهو "العلاج" أي حمد أنت يا "حمد" لك الحضور الفاعل في كل حدب وصوب.
- حمد يبني سميتك.. السطر الاول من النص- وحينما سمته "حمد يعني وهو الجدير برفع راية هذا الاسم، لان من يتشرف بهذا الاسم عليه مهمات تقبله، والأم تتوسم به كل خير وتتوقع منه النهوض بهذا الشرف الرفيق، وعلى الرغم من تكرار اسمه لعشرات المرات، والام تعدد مزايا وخصال "حمد" لكنها تؤنب نفسها وتشعر أنها "مدينة" لهذا الـ"حمد" تأملوا وضع ثلاث نقاط في السطر الاول من المقطع الاول، وهذه تعني الوصف اللا"منتهي" للمزايا، وحسب المنطق الرياضي –كما اشرنا-، لقد أحسنت يا شاعرنا، فالوصف يعجز لهذا "الحمد".
- حمد ورد الربيع الفتح بنيسان واجمل واترف واحله/ حمد سالوفه للحلوات لمن كبر واتجله/ حمد نشمي وسبع ليله/ حمد يلما بطل حيله/ حمد ديوان عالي الناس تندله- النص والسطور الأخيرة من المقطع الأول والمؤلف من تسعة سطور، وهذا المقطع لوحده يغنيك عن عشرات السطور في القصيدة وهو سرية استطلاعية لمحتويات القصيدة، والمقطع لوحده هو القصيدة.
عودة للمقطع الأول ونتوقف عند الورد الذي فتح بنيسان، وهو بالتالي الذي يعني ميلاد الفكر العالمي التقدمي وهو الذي يشاطر الطبيعة بهجتها بالربيع الأخضر، ثم اشارة للجمال والكمال والترافة والذائقة الطيبة، وهذا هو ديدنه، ولكن رياح الطغاة لا يروق لها الجمال وسيادة الحياة الاصلي. وان سيرته هذا الرمز "حمد" هو السالوفة الامتع والسفر الأخلد، والريح الأعطر، وهو الشاب الذي يغازل الحلوات باحلى ايام العمر. فهو الشاب المتجدد، خلافاً للكائنات الاخرى، فهو شباب في شباب مع مرور عقود ثمانية من عمره المديد، مبارك لك يا "حمد".
- حمد يبني الشعب منهوك وجاع وباع ما خله/ حمد يبني ولوانه الجوع واحنه الخير والغله/ حمد يبني ولفانه الموت يحصد بينه بالجمله/ حمد طبع الوفه طبعك- نص من المقطع الثالث، وهو يمثل تجسيد عملي للفكر العلمي التقدمي، كذلك لقوانين الصراع، والظروف الذاتية والموضوعية.
ففي السطر الاول يترجم الظروف الداعية لاستنهاض "حمد" من جوع، وبيع ما يمكن بيعه وهي ترجمه ايضاً للقهر والاستبداد وذروة ذلك الحصار الاقتصادي، وفي الشطر الثاني يتناول بمرارة ظاهرة الجوع ونحن من الدول الغنية الأولى في العالم، وهذه حالنا، وكأن "برناردشو" يقول عن العراق وخيراته "غزارة في الخيرات، وسوء في التوزيع، وفي السطر الثالث مصيبة المصائب الموت المجاني، والمرارة تكمن بالجملة، وهذه على نوعين، اولاً موت تحت سياط ومشانق السلطات القمعية، والثاني بالحروب العدوانية التي لا طائل ولا مسوغ لها الا النزوات الفردية.
- حمد ردناك والينه/ حمد ليام مو زينه/ صحت وين الشهم وينه/ اليجي ويعيد ضحكة الاطفال ويفرح كل طفل مشدوه لو طفله- هي السطور الأخيرة من استغاثة الأم وهي رمز الحياة لولدها "حمد" الفكر الثوري، لأن ولغاية اليوم، كما تقول أم حمد "حمد ليام مو زينه- النص وتنتظر الأم من حمد الكثير الكثير، لا زالت استغاثة الأم لابنها "حمد".