الحرب في الشعر العراقي المعاصر - القسم الأول - / مهدي الحسناوي

الحرب كواقع لم تجلب الطمأنينة للإنسان العراقي، بل جعلته قلقا، بائسا، وساكنا في دائرة الحيرة وتضع تأملاته دائما إزاء طائفة من التعقيدات والمشكلات والاحتمالات الدائمة "الهزيمة، القتل، الجراح، الدم" وصور قاتمة ومروعة، ترى كيف يتجسد واقع الحرب بكامل إشكالاتها وتفاصيلها شعريا. عندما يكتب الشاعر العراقي في المنفى عن الواقع المعاش، لكون الموضوع خارج الذات، خاصة حينما يتفاقم الصراع وتتعدد نقاط محاوره فانه لا يستبعد ما يجري إمامه كأدوات تعبير، تمرر ما تضطرب به ذاته، وهو يتنفس علاقاته كحالة إنقاذ ، إلا كصورة معزولة هشة تسقط أنينها على الآخرين، عندئذ لا يبدو العمل الإبداعي مسحوبا إلى الخواء أو خارجا من ارض هشة متلفعا بكونية غياب يسعى إلى خلاص ضائع ذي تصور فرداني فمن المهم أن يدخل الشعر منطقة حدود الوعي في قنواته الأدائية، حينما تكون شريحة من الجمهور أدوات بيد السلطة، تزجهم في حروب ?متاهات الموت القسري، يقول - سعدي يوسف في قصائد ساذجة ..
الجنرالون لا يعرفون من أديم الأرض سوى بعدين
ما نتأ حصن
وما انبسط، ساحة
يا لجهل الجنرال
لكن (.ليبراسيون ) كانت اعرف بالتضاريس
فالفتى العراقي الذي احتل صفحتها الأولى كان متخما وراء مقود الشاحنة
على طريق الكويت - صفوان
بينما أجهزة التلفزيون: غنيمة المهزوم وهويته
أنها قصائد الفاجعة، ضحايا ينشدون نشيدهم جماعيا، أمام مرايا ملطخة بالدم،أنها قصائد الكورال، تدفق لغوي، لغة متلاطمة الكلمات والصور على الدوام، انها قصائد الصراع بين الحياة والموت، صور ذهنية ممتزجة بالواقع اليومي المعاش وتبدو وطأة المفارقة كبيرة على الشاعر العراقي في المنفى، وينعكس في سلوكه وطيات شعوره هو حتى في أحلامه، وهذا سر الشاعر الذي يكتب عن المفارقة فهو يجب ان يكون مفارقا في حياته ونظرته الفنية الفلسفية قبل شعره، وان لا يقتصر وجود المفارقة عنده في القدرة على رؤية الأضداد في حياته وخارج ذاته وفكره، بل?يجب ان تصبح جزءاً من فكره وشعوره، وهذا ما يؤكده (فلوبير)بقوله: (إن حسن المفارقة يجب إن لا يقتصر على رؤية الأضداد في إطار المفارقة، بل القدرة في إعطائها شكلا في الذهن).
والحرب بأشكالها رفضها الشاعر العراقي الذي يسعى إلى السلام والأمان،لما تحمله هذه الحرب من خراب ودمار وموت،والمنجز الشعري العراقي في العقدين (الثمانيني والتسعيني) من القرن الماضي عاش هذا المنجز. وواكب هموم الحرب وقرأ إبعادها المؤلمة،فهذا فاضل العزاوي يقول في قصيدة (فراشة في طريقها إلى النار)بان الجمال والفراشات تحترق في أتون الحرب التي لا فائدة منها سوى قوافل الأيتام والأرامل.
فيما انا أحدق من النافذة
منصتا لضجيج الغزاة في الشارع
يقودون عرباتهم في الظلام
متبوعين بغلمان يضربون على الدفوف
وعبيد أسرى في السلاسل
تلجأ الأشباح إلي،طارقة أبواب بيتي
الجلاد والضحية
والصورة الشعرية عند الشاعر العراقي المعاصر مشبوبة بنار معاناتها الذاتية ،تلتهب في خزينها خبرة الحياة وتضطرم في داخلها إسرار الحرب ومخلفاتها ، ليست الصورة التي تنتظر امتدادها من إضافات خارجية فحسب، ولا بالصورة التي تحتكر ذاتها لذاتها،أنها حية تتوالد وتتناسل،فامتدادها تجليات متوالية لبذرتها الأولى، الوحدة التحتية .تمسك بها من الداخل والكثرة الفوقية ترشح عليها من الخارج وبين الوحدة التحتية والكثرة الفوقية سر عميق، ذلك هو روح الشاعر.
إن الصورة الشعرية الجيدة ،أو الصورة التي تنتمي الى الشعر حقا، تتمرد على التحليل ألتجزيئي،لأنها تصدر من روح الشاعر الكلية، تتجاوز من المحاكاة وهي لا تضطلع بمهمة الوصف والتفسير،لآن طاقتها الساخنة تتعدى لغة الرقم ولغة التحليل، وهي ليست بديلا عن شيء أو حدث لأنها تسمو على كل قيمة احتياطية، الصورة الشعرية تخلق عالما جديدا،يفيض به كيان الشاعر كله ليؤسس.كونا مألوفا سابقا ،ان هذه الصورة هي الإبداع بذاته، إن نقد الشعر للحياة لا يكون بإظهار مساوئها لأنه أشبه بالمثل المثال ،والمثل والمثال يحملان بين طياتهما مهمة نقدية?راقية الصورة الشعرية الإبداعية تفلت من التلاشي البطيء أو السريع، تملك ناصية الزمن، ومن أسباب ذلك هو الاستخدام الروحي للكلمة وتوظيفها ضمن حشد من نظائرها وأضدادها، فأن هذا الفن الراقي من الاستعمال، يولد سيلا من الصور ،يشبه سيل الأحداث الناتج من العلاقات الكونية، إن هذا الاستعمال المرن المتدفق يخلق أو يحول النفس الإنسانية الى قابلية منتجة للرؤى، هي رؤى الشعر والشاعر،الرافضة للحرب والدمار، كما يرى الشاعر صادق الصائغ في قصيدة (قطار آخر للحرب قادم)
بأغنية حرب
بانتظار
بما يتطلب عن .شاعر ان يكتب عن كذا .و.كذا..وكذا
بميادين قلقة
بأصوات مدبلجة
بتعاقد جماعي مع الموت والجريمة
بتجريدات وألوان غنائية
بحلي
وسكائر
وبيانات
بمناجد قديمة وأخرى جديدة
بتنويعات عروضية
كان هاجس المسكين أبو العتاهية
بالات حربية
بلغة لاذعة كلغة الحطيئة
برأس مفصول عن الجسد
لنصرخ بسعادة
ثالثة ورابعة
قطار أخر للحرب قادم
وثمة ملاحظة على النتاج الشعري العراقي في العقدين الآخرين من القرن الماضي نراه يتسم بالسائد،ويسعى الى إتباع صيغ بالكتابة الشعرية وبلغة مغايرة مليئة بالشجون والبكائية الحادة واستخدام المضادات وتوظيف الرمز توظيفا دقيقا بعيدا عن المباشرة والتكرارية، وبالرغم من الحروب والموت التي واجهت الشاعر العراقي إلا أن الديمومة هي التي ميزت الشعر وزماكانيته التي يتحدث عنها الشاعر بنصوصه، ولم تستطع هذه الكوارث ان تحيل أعماقه الى حطب متكسر بل جعلته اشد صلابة، وهو يرفع صوته بوجه الطغاة والحروب، فيقول الكلمة - القصيدة، لا ينطف? ولا يستكين ولا يقف مادا يده عند أعتاب السلطان .
العراقي الذي تخذله الأعصاب
في الباص
يفور الجسد المثخن بالأوجاع
يستهدي بالرحمن
لاعنا ساعته
والحرب
ودهرا اجرد
ووحيدا
يقطع الأرصفة على غير هدى
وعبر ثنائية الأضداد التي ترشح من مفاصل القصيدة وتنمو في داخلها تستكمل المفارقة السياقية والصيغة الإبداعية في النص الشعري ،فالصور الشعرية النابضة المتمردة التي يرسمها الشاعر العراقي في المنفى،وان كانت معتمة بالموت والضحايا لكنها تقف ضد الهدم الذي يخيم على التراب القديم (الوطن)، كما تقف أيضا ضد موت الشاعر في منفاه،وحالة الإبحار بالورد والتفاح المذبوح بالرصاص، تقف في تضاد مع الأسوار والحواجز،فهو يسعى الى رسم صورة أخرى للواقع المأساوي كما يقول الشاعر محمد سعيد الأمجد في قصيدة(رصاصة من قاع البحر)
أصيح فيخشع المنفى
أنا - يا بحر - مملكة من الموتى
ولكن في دمي حي هواي
واسقط من سماواتي
فأبحر في عيون الموت
من زمن الضحايا
واحمل في يدي
تفاحة
ذبحت بمحض رصاصة سكرى