الليلة الأخيرة مع والدي / سلام العبلي

انتقلنا الى بيت حزبي جديد يوم الخميس 7-2-1963، اي قبل اليوم الاخير لجريمة الثامن من شباط . وكانت هذه الليلة أخر ليلة نجتمع فيها مع أبي وأمي وأختي سميرة وندى، وقد كان اسمي الحركي حينذاك سمير رغم أنني لم ابلغ الثامنة.

كانت ليلة جميلة وهادئة تناولنا فيها العشاء سوية، وكانت من الليالي النادرة التي نكون فيها معا وذلك لانشغال ابي بشكل مستمر. واصل والدي العمل على اوراقه الحزبية لوقت متأخر من الليل..صباحا حيث الجمعة المشؤومة جلسنا مجددا لتناول طعام الفطور وكان التلفاز يبث برامجه الاعتيادية، واذا بطرق على الباب وبعد التاكد من ان الطارق كانت بائعة الحليب وقد دخلت وهي تطلب استخدام الهاتف ثم التفتت علينا قائلة...(عيني ليش ما تعرفون، مو صارت ثوره!!.)..وفي هذه الاثناء انقطع البث التلفزيوني.اسرع والدي في ارتداء ملابسه ثم وهمس شيئا في أذن والدتي وخرج مسرعا، ولا أعرف ما قاله لها وقد خرج دون ان يلتفت لنا.هكذا كانت اللحظات الاخيرة مع والدي وهي النهاية الفعلية لجمعنا العائلي. عصرا جاء إلينا عم ابي ليبقى معنا ويبدو أن والدي قد كلفه بذلك.
مرت علينا ايام قلائل في ذاك البيت والدنيا لم تعد كالسابق، ترقب مستمر وانتظار للمجهول، ولكنها لم تستمر على هذه الحال طويلا، إذ أقتحم بيتنا الحرس القومي ليلا طارقا وكاسرا لباب البيت، دخلوا بشكل هيستيري وكأنهم يقتحمون معسكر جيش وليس بيتاً .
بعد احتلال البيت توجهوا بالسؤال لأمي، اين العبلي؟ وهل انت زوجته؟ اجابت لا اعرف اين هو وانا زوجته .قالوا لها يعني أنت المجرمة وردة ماربين،اجابتهم لست مجرمة ونعم اني وردة ماربين..اما انا واختاي كنا قد التصقنا بأمي خوفا حد الرعب الذي حل بنا .انتزعونا من أمي سحلا وفوهات بنادقهم موجهة على رؤوسنا ويهددون أمي بقتلنا اذا لم تعترف على مكان والدي. في هذه الاثناء صرخ احدهم فتشوا السرداب، وبالفعل سحلونا الى السرداب وهم يصرخون سلم نفسك وإلا قتلنا اولادك..تأكدوا من عدم وجوده هناك.
فأخذوا يطالبون أمي بصورة لوالدي وقد اجابتهم أمي بكل رباطة جأش,البيت امامكم ابحثوا .وبشكل مفاجىء وسريع اخذونا معهم الى سيارات كانت تنتظر .وفي السيارة الاولى رآيت هادي هاشم الاعظمي حيث كنت اناديه عمو وعند رؤيته لي ادار وجهه الى الجهة الاخرى ولم اكن اعرف بانه هو الذي جاء بالحرس القومي إلى بيتنا.
تم نقلنا الى ناد رياضي في منطقه الكرادة وتركونا جالسين على ارض ساحة لكرة السلة حيث البرد القارص جدا وأمي تضمنا اليها لتدفئنا وتهدئ من روعنا.اما جدي فقد نقلوه الى مكان اخر واستطاع الافلات من هناك ولم يكن مطلوبا لديهم.
كانت في تلك الساحة عوائل كثيرة، ولكن من نساء وأطفال فقط وكان يمنع علينا الحركة او الوقوف. كان احد جلاوزة الحرس يأتي الينا كل حين مهددا متوعدا بقتلنا وبلغة سوقية. ثم جاءنا حرس اخر كان لطيفا ويتكلم بهدوء وسأل أمي هل لك مكان أأخذ أطفالك اليه لكي يكونوا في أمان؟ اجابت نعم بيت عمهم ويقع بالزوية(الكرادة)وهو ليس بالبعيد، وعند الساحة الاخيرة، ومن هناك ابني يعرف الطريق. سألني هل تعرف الطريق؟ قلت له نعم.في تلك الاثناء جاء ذلك الحرس الموتور يهدد معترضا ويؤكد على وجوب قتلنا ثم ذهب الاثنان الى الداخل ومر وقت ليس بالقليل الى ان جاءنا ذلك الحرس اللطيف وقال قوموا معي. وذهب بنا الى بيت عمي انا وأختي سميرة، اما أختي ندى فقد بقيت مع امي لصغر سنها حيث لم تبلغ من العمر إلا بضعة شهور.
في بيت عمي كَليبان الذي كان مسجونا منذ زمن عبد الكريم قاسم. لم تكن توجد سوى زوجة عمي وابناء عمي الثلاثة وجدتي، وقد اوصى الحرس زوجة عمي بان تدعي باننا ابناءها وذهب.ولم تمض ساعة من الزمن حتى تم اقتحام بيت عمي بحثا عن ابي وعمي، وبالفعل ادعت زوجة عمي بأننا اولادها وهي لا تعرف شيئا عن والدي وما حل بعائلته، اما سؤالهم عن عمي فأجابتهم بأنه عندكم بالسجن. وكانت تلك هي الليلة التي افترقنا فيها عن أمي أيضا ، ولم نلتق معها إلا بعد انقلاب تشرين 1963 حيث اودعت سجن النساء المركزي. كانت اختي الصغيرة ندى قد كبرت وأخذت تمشي، أما أمي فقد أكل السجن منها كل سنوات شبابها في تلك التسعة اشهر المشؤومة حيث غزا الشيب شعر راسها. والدتي ورده ماربين نشر خبر اعتقالها في الصحف كونها من (الشيوعيات الخطيرات) وأودعت سجن النساء مع بقية الرفيقات وتحملت في هذه الفترة القصيرة ما لايحتمل.لم تكن تعرف مصير ابنائها ولا زوجها ولا مصير اخوانها الاربعة وقد اعتقلوا جميعا وهناك سمعت خبر استشهاد خالي جمال ماربين وخبر استشهاد ابي، وكذلك الشهداء الآخرين. وبذلك كانت والرفيقات الاخريات في عزاء دائم وطويل.
والدي محمد صالح العبلي خرج في ذلك الصباح المشؤوم ولم يعد ولم نره ثانية. تم اعتقاله ثلاث مرات على يد جلاوزة الحرس القومي ولكنهم كانوا في كل مرة يتركونه لعدم التعرف عليه، ولأنه كان يجيد التنكر والتمثيل. وحتى في المرة التي ذهب بها الى بيت الشهيد سلام عادل حيث نصب له كمين هناك بعد اعتقال الشهيد، وكانوا على علم انه الوحيد الذي يعرف مكان البيت (كان الشهيد سلام عادل قد انتقل الى هذا البيت ايضا يوم الخميس 7شباط، وكذلك الشهيد جمال الحيدري. وقد كان هادي هاشم هو الذي استأجر البيوت الثلاثة).. طرق ابي الباب الخارجية للبيت واذا الحرس يمسكون به ولكنهم وجدوه على هيئة عامل بناء (دشداشة) ملطخة بمواد بناء وعلى الرأس يشماغ ويتحدث بلهجة جنوبية ويسأل عن طبيب كان يسكن نفس البيت قبل ذلك، حاولوا سحبه الى الداخل لكنه بقي متشبثا بالباب الحديدية ومفتعلا ضجة مما حدا بهم الى تركه يذهب خوفا منه على افتضاح امر الكمين وهذا (نقلا عن زكية شاكر حيث كانت تنتظره على مسافة قصيرة).وكذلك ذهب الى بيتنا بحثا عنا والى بيت جدي ... في احدى المرات كان لديه موعد مع احد الرفاق في احدى كازينوهات شارع (أبو نؤاس), وقبل الذهاب الى الموعد استطلع المنطقة وشك بتواجد غريب. فأرسل احد الرفاق الى تلك الكازينو ليجلس بعيدا ويراقب الوضع وما سيحدث. وبعد مرور الوقت على الموعد قام الحرس القومي على الرفيق صاحب الموعد واخذوا يضربونه ويقولون له اين العبلي؟ وهو يجيبهم ويؤكد بان العبلي قد اتى الى هناك واكتشف الكمين وخرج. فيسألونه: كيف ذلك ونحن هنا وأنت ايضا؟ فيجيبهم قائلا: كيف لي ان اعرف قد يكون جاء بهيئة متسول او صباغ احذية..وهكذا تخلص من كمين اخر. كان اعتقال العبلي مهما جدا لهم لأنه كان مسؤول التنظيم في الحزب .وقد روى لي احد الرفاق حيث كان معتقلا في قصر النهاية ان المجرم منذر الونداوي وفي احدى زياراته للمعتقل قال له مسؤولو الحرس: انظر هؤلاء هم الشيوعيين وهنا كل حزبهم وقد قضينا على الحزب. فسألهم اين محمد صالح العبلي؟ فأجابوه لم يعتقل بعد. فقال لهم: اذا مازال الحزب باقياً. بقي العبلي طليقا مع الشهيد جمال الحيدري والشهيد عبد الجبار وهبي الى شهر تموز، وخلال هذه الفترة استطاعوا إعادة ما يمكن إعادته من التنظيمات، كما انهم تمكنوا من اصدار جريدة الحزب "طريق الشعب" .ولكن بعد حركة الشهيد حسن سريع في 3 تموز تم اعتقالهم في بيت الخطيب، ودليل الحرس القومي كان هادي هاشم ايضا ولكن الذي اعترف عليهم شخص اخر.
جربوا معهم كل صنوف التعذيب الوحشية ولكن بدون جدوى، واستشهد من جراء التعذيب الرفيقان جمال الحيدري وعبد الجبار وهبي، وبقي العبلي حيا الى ما بعد اذاعة بيان اعدامهم. وقد اتى اليه صالح مهدي عماش براديو واسمعه البيان، وخيره بين الاعتراف وتسفيره الى الخارج او تنفيذ البيان فلم يذعن لهم الى أن قام المجرمان سعدون شاكر وخالد طبرة بحفر قبر له ووضعوه في القبر وهددوه بالمسدس المسلط على رأسه، وطلبوا منه الاعتراف لكنه اجابهم بالسباب وبأنه لن يعترف لعملاء، فأطلقا عليه الرصاص. هكذا استشهد هو ايضا.. طبعا لم يدفنوه بذلك القبر، ويقال انهم رموا جثث الشهداء الثلاثة في نهر دجلة او ديالى..
ولم يلتئم شملنا ثانية الا بعد سنوات، حيث أن امي حكم عليها بالسجن خمس سنوات مع سنتين مراقبة، ولم تخرج من السجن الا في عام 1967.
****************
يوميات شباط الأسود 1963- أوراق