خواطر متناثرة في الذكرى الثمانين* / عبد الرزاق الصافي**

عندما تسلمت طلب هيئة التحرير المحترمة للكتابة للمناسبة العزيزة التي تحتفل بها مجلتنا (الثقافة الجديدة)، فكرت بالكتابة في محور التحالفات التي دعا اليها الحزب او ساهم فيها، لسبق تناولي هذا الموضوع. غير اني فوجئت بالبحث الغني، الذي كتبه الرفيق جاسم الحلوائي للمناسبة فعدلت عن تناول هذا المحور.
وقررت كتابة بعض الخواطر المتناثرة عن دور الحزب في نشر افكار الحداثة والتنوير والديمقراطية ومساهماته الغنية في هذا المجال، ودوره في تعبئة الشعب بشتى فئاته من اجل الاستقلال الناجز والديمقراطية والتطور الاجتماعي.
حدثني الصديق الكاتب والروائي والصحفي المعروف خالد القشطيني انه التقى بأحد الدبلوماسيين البريطانيين قبل سنوات، وكانت اخبار الارهابيين الانتحاريين تملأ وسائل الاعلام وتوجه اليه بالسؤال: هل لاحظت ان الغالبية العظمى من هؤلاء، إن لم يكن كلهم، هم من غير العراقيين؟ فأجاب الدبلوماسي البريطاني: حقاً، ما هو سبب ذلك؟ فقال القشطيني ان الفضل في هذا يعود الى الحزب الشيوعي العراقي، الذي ثقف ليس فقط اعضاءه وانصاره، بل ومجموع الحركة الوطنية بضرورة الابتعاد عن الارهاب والأعمال الفردية كالاغتيالات السياسية وغيرها من اعمال ا?عنف غير المبرر، والاعتماد على العمل الجماهيري وتدريب المناضلين على تعبئة الجماهير لتحقيق الاهداف التي يناضل من اجلها.
وعندما اعود بذاكرتي عشرات السنين الى الوراء، فأجد ان الحزب الشيوعي كان منذ نشأته في العام 1934 حريصا على زج الجماهير في النضال، وساهم الشيوعيون حتى قبل قيام الحزب في النضالات الشعبية منذ اوائل الثلاثينيات في فضح معاهدة 1930 التي فرضها المستعمرون الانجليز بالتعاون مع نوري السعيد، وفي الإضراب العام ضد شركة الكهرباء وغيرها من المعارك النضالية. وكان الحزب من بين المنظمين الفعالين للمظاهرة الكبيرة في بغداد في العام 1936 ضد الفاشية، ومن اجل الديمقراطية.
وفي أربعينيات القرن الماضي يوم تصدى الرفيق فهد لإعادة بناء الحزب على اسس متينة عمل الحزب على تقوية الحركة الوطنية ودعوة القوى الوطنية جمعاء الى تأسيس الاحزاب الوطنية وثقف المناضلين بشعار (قووا تنظيم حزبكم قووا تنظيم الحركة الوطنية)، وخاض معركة تأسيس النقابات العمالية وافلح في إجازة ثماني عشرة نقابة عمالية، كان ست عشرة منها بقيادة الشيوعيين. وخاض العمال بقيادة الشيوعيين اضرابات عمال النفط والميناء والسكاير والنسيج وغيرها من التجمعات العمالية. ورغم الضربات القاسية التي وجهها النظام الملكي للنقابات العمالية ?قد ظلت هذه التجمعات تتذكر باعتزاز دور الشيوعيين في الدفاع عن مصالحها وتنقاد اليهم بعد ثورة 14 تموز المجيدة يوم ضم اتحاد نقابات العمال 300000 عامل يدفعون اشتراكاتهم طوعاً لتنظيماتهم النقابية.
وناضل الحزب منذ الاربعينيات من اجل وحدة القوى الوطنية باعتبارها الشرط الضروري لتحقيق الانتصار على الحكم الرجعي شبه الاقطاعي الممالئ للامبريالية والأحلاف العسكرية الاستعمارية. ورفع شعار (الجبهة الوطنية الموحدة طريقنا وواجبنا التاريخي) وهو عنوان الكتاب الذي ألفه الشهيد حسين محمد الشبيبي وكتب مقدمته الرفيق فهد. ويحوي الكتاب أول دراسة عراقية في ميدان الجبهة الوطنية. وأرفق ذلك بدعوات من قبل الهيئة المؤسسة لحزب التحرر الوطني الذي اريد له أن يكون الوجه العلني للحزب الشيوعي، للأحزاب الوطنية التي اجيزت في العام 19?6، بضرورة التوحد في الجبهة الوطنية، على الضد من شعار (حزب واحد للديمقراطيين) الذي كان في الواقع يعني حرمان الطبقة العاملة من حزبها السياسي المستقل. وكان الحزب الشيوعي عنصراً فعالاً في لجنة التعاون الوطني التي اقيمت في العام 1947 ولعبت دوراً كبيراً في وثبة 27 كانون الثاني 1948 التي احبطت معاهدة بورتسموث وأسقطت وزارة الخبز الاسود والإرهاب وزارة صالح جبر. واسهم الحزب في بناء الجبهة الوطنية الانتخابية في العام 1954 التي افلحت في ايصال عشرة نواب معارضين للبرلمان رغم ما رافق الانتخابات من تزوير. وهو الامر الذي ا?عب الاستعماريين وأقطاب الفئة الملكية وحملهم على الضغط لإلغاء نتائج الانتخابات فجيء بنوري السعيد ليترأس الحكومة والشروع بإصدار مراسيم ملكية تنتهك الدستور بفظاظة متناهية، وكانت باكورة هذه المراسيم مرسوم حل المجلس النيابي، الذي لم يعقد سوى جلسة واحدة انتخب فيها رئيسه. وشدد نوري السعيد على الإرهاب وتحدي مشاعر الشعب وحركة التحرر الوطني العربية، وقمع انتفاضة الشعب في خريف 1956 لنصرة مصر في تصديها للعدوان الثلاثي ومناهضة الاحلاف الاستعمارية وفي مقدمتها حلف بغداد. الامر الذي استفز المشاعر الوطنية وحمل الحزب على ال?حرك من اجل اقامة جبهة الاتحاد الوطني في شباط 1957 وإعلانها في اذار نفس العام، فكان المبادر، كما يذكر الفقيد محمد حديد في مذكراته، للدعوة لإقامة جبهة الاتحاد الوطني التي شكلت القاعدة السياسية لثورة الرابع عشر من تموز.
وكان الحزب وراء تنظيم الطلبة وعقد مؤتمر السباع في نيسان 1948 في اعقاب الوثبة وإعلان اتحاد الطلبة العراقيين العام. وعندما منعته سلطات العهد الملكي من مواصلة العمل العلني واصل العمل سراً حتى قيام ثورة الرابع عشر من تموز؛ حيث فاز في الانتخابات الطلابية بنسبة تقرب من 90 % من اصوات الطلبة في جامعات العراق والغالبية الساحقة من الثانويات. وحصل الاتحاد على نسبة تزيد على 80 % من اصوات طلبة الجامعات في العام 1967 الامر الذي اذهل اقطاب حكم عبد الرحمن عارف فبادروا الى الغاء نتائج الانتخابات.
ومنذ بداية خمسينات القرن ماضي بادر الحزب الى تنظيم اتحاد الشبيبة الديمقراطية الذي مثل العراق في مهرجانات الشبيبة الديمقراطية التي كانت تعقد كل سنتين مرة في عواصم الدول الاشتراكية في الغالب. هذا الاتحاد الذي نظّم ألوف الشباب قبل ثورة الرابع عشر من تموز 1958 ليضم في صفوفه بعد الثورة عشرات الالوف.
وبرغم تخلف الريف وانتشار الامية فيه على نطاق واسع جدا، عمل الحزب الشيوعي العراقي على بث الوعي بين صفوف الفلاحين عن طريق (جمعيات اصدقاء الفلاحين) منذ الاربعينات وقاد انتفاضاتهم البطولية في الخمسينات في قلعة دزه وهورين وشيخان وآل ازيرج والديوانية وغيرها. ونظم جمعيات الفلاحين سراً للنضال من اجل حقوق الفلاحين وتطبيق قانون قسمة الحاصلات الذي امّن للفلاحين بعض حقوقهم، وأسهمت في نصرة الثورة يوم الرابع عشر من تموز 1958 وشل القوى الاقطاعية والعناصر الرجعية في الفرقة الأولى في الديوانية عن التحرك ضدها، لتبرز بعد ال?ورة بالمئات وشكلت اتحاد الجمعيات الفلاحية الذي ضم مئات الوف الفلاحين في شتى انحاء البلاد.
واهتم الحزب بالمرأة وعمل على توعيتها وتنظيم طليعتها في جمعيات علنية لم تسمح سلطات العهد الملكي بتطورها، فعمد الحزب الى تشكيل رابطة الدفاع عن حقوق المرأة سراً. وبعد ثورة الرابع عشر من تموز 1958 برزت باعتبارها منظمة جماهيرية تضم عشرات الوف النساء وأسهمت في اعداد وسنّ القانون رقم 188 لسنة 1959، الذي يعد مكسباً كبيراً للمرأة وكان لمكانتها الكبيرة تأثير في اختيار رئيستها المناضلة الفقيدة نزيهة الدليمي لتكون اول وزيرة ليس في العراق فحسب بل في كل العالم العربي.
ولا يفوتني ان اذكر الدور الكبير للحزب الشيوعي العراقي في بلورة الشعارات الملائمة للحركة القومية الكردية في العراق؛ إذ رفع شعار الحكم الذاتي في العام 1956 في تقرير المجلس الحزبي (الكونفرنس) الثاني، ويوم مسخ الحكم البعثي الحكم الذاتي الذي اضطر الى الاعتراف به في العام 1970، صاغ الحزب شعار الحكم الذاتي الحقيقي لكردستان في العراق الديمقراطي وهو الشعار الذي طوره في العام 1991، إذ اضاف اليه (وصولاً الى الفيدرالية) التي تبناها الدستور بعد انهيار الحكم الدكتاتوري البغيض.
ولم يقتصر دور الحزب على ما ذكرت في النضال من اجل الديمقراطية وتنظيم الشعب، إذ لا بد من الاشارة الى دوره في اشاعة مفاهيم الحداثة في الادب والفن. فليس سراً ان غالبية الفنانين التشكيليين في العراق يحسبون على اليسار. وان ابرز وجوه الشعر الحر في العراق والعالم العربي كانوا في غالبيتهم يحسبون على اليسار إن لم يكونوا منتمين الى الحزب الشيوعي العراقي من امثال بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي في ميدان الشعر ومحمود صبري في ميدان التشكيل والعديد من كتاب القصة والرواية وفي مقدمتهم غائب طعمة فرمان. وحتى الجواهري ال?بير رد على من ارادوا ان يجعلوا من قربه لليسار والحزب الشيوعي سبة بالقول ما معناه إن لم اكن كذلك فلست بالجواهري. ويكفي في هذا السياق ان نذكر (الثقافة الجديدة) وما مثلته من دور في مجال الشعر والادب عموماً. وبودي ان اذكر واقعة سبق ان ذكرتها عند رحيل الفقيد يوسف الصائغ، الذي كرس اطروحته للكتابة عن الشعر الحر في العراق، وكان المشرف عليه الفقيد الدكتور علي جواد الطاهر وقيم الاطروحة بكونها تستحق درجة الدكتوراه، إذ اهدى الصائغ نسخة من الاطروحة الى الحزب الشيوعي ناعتاً اياه (ابو الشعر الحر في العراق). ويمكن الاشارة?الى الدور المرموق الذي يقوم به الحزب في رعاية الشعر الشعبي ومن ابرز وجوهه ومبدعيه في العراق من الشيوعيين: مظفر النواب وزاهد محمد وعريان سيد خلف وكاظم اسماعيل الكَاطع وغيرهم كثيرون.
هذه بعض الخواطر التي سميتها بالمتناثرة ادرجتها ليستفيد منها رفاق الجيل الجديد من الشيوعيين في التعرف أكثر الى حزبهم المجيد ودوره في الحياة السياسية والفكرية في عراقنا الحبيب الذي كلي ثقة بأنه يستطيع بفضل قواه الحية التخلص من الارهاب والفكر الظلامي ومواصلة السير لاستكمال بناء العراق المدني الديمقراطي الاتحادي الموحد المستقل وتحقيق شعار الحزب: وطن حر وشعب سعيد.
ـــــــــــــــــ
*عن مجلة «الثقافة الجديدة» في عددها الصادر اخيراً في آذار الحالي.
** الاستاذ عبد الرزاق الصافي، سياسي عراقي معروف، محامي وصحفي، رئيس تحرير جريدة «طريق الشعب» منذ صدورها علنية في 16 /9 /1973 حتى تعطيلها في 5 /4 /1979، وهو قيادي سابق في الحزب الشيوعي العراقي وما زال يواصل نضاله في صفوفه.