السوق وثوابت الدولة الوطنية

خليل الشافعي

السوق مرآة الواقع ، ومن خلاله يمكن تشخيص الحالة أو الكيفية التي تكون عليها الدولة وكذلك المجتمع وهو المكان الذي تعرض فيه ثمرات جهود العاملين من سلع و خدمات وتحديد اثمانها . اما جهود الحكومة في السوق فيمكن ان نتحسسها بمدى الاستقرار المتحقق و مدى النفع الذي تجنيه الاغلبية من السوق .
تجاذبات السوق هي المؤشر الاعظم لطبيعة الحراك الاقتصادي والسياسي في البلاد وهناك تأثير متبادل بين السوق والدولة وما تحتاجه السوق من الدولة ليس بالقليل، اولهما سيادة الامن وتشريعات ضامنة ومحفزة لفعالياته بالاضافة الى وفرة المواصلات والاتصالات وكذلك التسهيلات المصرفية وغيرها الكثير، ما تحتاجه الدولة من السوق الاستقرار الذي يتمثل في توازنات سعرية تمكن المواطن من الحصول على ما يحتاجه من سلع وخدمات بيسر وفي مختلف الاوقات .
على عاتق السلطة تقع مهمة تكييف توجهات السوق مع توجهات الدولة الاقتصادية ولا يحصل ذلك بطريقة قسرية بل عبر مقاربات مبنية على اساس تبادل المنفعة بين الدولة والسوق ولا وجود لسوق متحررة تحررا ً تاما ً من تأثيرات الدولة، وما يدعوه الليبراليون بالسوق الحرة ما هو إلا خدعة وتضليل هدفه تسخير مؤسسات الدولة لصالح الطبقة المتنفذة في السوق وفي اقتصاد البلد عموما ً ، وهذا يعني ان للدولة تأثير على الشأن الاقتصادي لا يمكن تجاهله ، ويظهر تأثيرها على أقل تقدير بالسياسية المالية التي تعتمدها الدولة وفي التشريعات التي تسنها وفي بسط الامن وتأمين المواصلات والاتصالات .
ضبط توازنات السوق ضرورة لتأمين المنافع العامة لذلك فهي من ثوابت الدولة الوطنية , والمقصود هنا تدخل الدولة في حدود ضمان انسيابية حركة التداول السلعي و الحفاظ على مستوى جيد للقدرة الشرائية للمستهلك والذي ينتج عنه زيادة في القدرة الاستيعابية للسوق ويعتمد ذلك بشكل كبير على مدى حيادية الدولة وصواب السياسية الاقتصادية للحكومة ولا يتوقف التوازن عند العام والخاص من المصالح بل ايضا ً بين اقطاب القطاع الخاص نفسه وعادة تكون لصالح الرأسمال الوطني، مثلاً، لا يجوز للتجار استيراد سلع منافسة او حتى بديلة للسلع المنتجة محليا ً او تصدير مواد اولية يحتاجها المنتج المحلي ..... وهكذا . ومجموعة الضوابط هذه تشرعها الدولة على انها ثوابت والعمل بها واجب وطني .
لذا تعتبر الدولة هي الجهة المتمكنة من تحقيق هذه التوازنات خاصة بين العام والخاص من خلال اعتماد آلية مرنة لتوزيع الدخل الوطني تضمن استمرارية حركة السوق وحماية القدرة الشرائية للمستهلك والتي تعتمد عليها بشكل كبير قدرة استيعاب السوق للسلع والخدمات وان لا تنفرد المصلحة الخاصة بالتحكم بحركة السوق وعلى حساب المصلحة العامة بل يجب ان يكون للاخيرة وجود مؤثر والتطرف لأي منهما ثبت فشله ومقولة الاقتصاد الموجه والتدخل المطلق للدولة في الشأن الاقتصادي تعني ان حركة الانتاج والتوزيع تتحكم بهما الدولة وفق منظور ايديولوجي ، و ادلجة الدولة يفقدها حياديتها ، جاعلة من مصلحتها رديفا للمصلحة العامة فالاثنان لديها واحد وتدخلها اللا محدود في حركة السوق تسلبه عفويته وتعطل آلياته وتفرض اسعارا ً لا تقرها تفاعلات السوق ، والنتيجة سوقً يعمل بنظام التسعيرة ونمط استهلاكي ثابت ، يتبع ذلك تدني في الكفاءة الانتاجية، هذا ما كان يحدث في بلدان المنظومة الاشتراكية التي اعتمدت الاقتصاد الموجه، يومها كان للدولة ثوابت ايديولوجية لا تقترب من متغيرات الواقع .
نستنتج مما تقدم ان تفرد رؤى ايديولوجية بادارة اقتصاد البلد على انها تمثل المصلحة العامة دون الاكتراث بالنشاط الخاص يعني انعدام التوازنات داخل البنية الاقتصادية ,و يكون نظامنا الاقتصادي مشوها راكدا خاليا من الابداع و المبادرة لانعدام المنافسة و التي هي ضرورية لتحسين الاداء الاقتصادي ، وثبوتية الانماط الاستهلاكية فهي متجمدة لا يطالها التغيير و يستقر العرض و الطلب عند نقطة توازن تكاد تكون متحجرة لانعدام التنوع و التجدد في السوق يصاحب كل ذلك رتابة و بطء شديد في النمو الاقتصادي , و معنى هذا ان اقصاء النشاط الخاص و عدم الاكتراث بتنميته و تطويره يضر بالمصلحة العامة .
و التطرف الآخر يتمثل في النهج النيوليبرالي , بصعود ريغان (لرئاسة الولايات المتحدة) و تاتشر (لرئاسة الحكومة البريطانية) اعتمدوا النيوليبرالية التي تؤكد على الحرية المطلقة لكل فعاليات السوق دون اية رقابة و يكون لنشاط القطاع الخاص السيادة الكاملة على اقتصاديات البلد تاركا للسوق حرية تقرير مصير الدولة و المجتمع , مدعيا تهميش دور الدولة وهو ادعاء مغاير للحقيقة كون الدولة اصلا تحرس و ترعى مصالح الطبقة المتنفذة بتشريعاتها التي تحمي ممتلكاتهم و تحمي نشاطاتهم , و المقصود بالتهميش هنا ان صناعة التوازن متروكة لعفوية السوق دون تدخل الدولة و بالتالي ان كفة الميزان تميل لصالح الاقوياء , و تفترس حقوق الاغلبية بهذه العفوية المفتعلة الجائرة , و يكون السوق سوقا منفلتا متمردا على القيم الوطنية و الانسانية , (دعه يعمل دعه يمر) هذا هو شعاره و المصلحة العامة فيه ليست هي الغاية و هي مجرد تحصيل حاصل لنشاطات القطاع الخاص .
لقد فشل هذا النهج في معالجة الازمات بل بالعكس كان هو المتسبب في حدوثها لتكدس الاموال بيد القلة و شحتها لدى الغالبية مما يؤثر سلبا على القدرة الشرائية و هذا ما حدث في ازمة الكساد الكبرى عام 1929 و كونه خارج رقابة الدولة و لا يكترث لما هو عام فانه يتسبب بحدوث مختلف الازمات و معظمها بنيوية و ازمة الرهن العقاري التي حدثت مؤخرا في الولايات المتحدة تسببت بأزمة مالية كبرى طالت حركة السوق و الانتاج معا , مما اضطر الدولة الى التدخل المباشر في السوق صراحة وعلانيةً في محاولة منها لوقف التدهور الحاصل , وهذا التدخل الصريح يعني انهيار احد ادعاءات الليبرالية و هو تهميش دور الدولة و يعني ايضا اعلان الحقيقة في تحيز الدولة لاصحاب رؤوس الاموال الضخمة و تدخلها المكشوف الآن لضبط التوازنات و منع تكرار مأساة عام 1929 .
تتأرجح الرأسمالية بين مدرستين الاولى مدرسة شيكاغو و منظرّها ميلتون فريدمان و تعود جذورها الى المفكر الاقتصادي ادم سميث صاحب مقولة اليد الخفية في تنظيم السوق و الثانية المدرسة الكينزية التي وضع اساسها المفكر الاقتصادي كينز (1833 - 1946 ) و تدعو الى ضرورة تدخل الدولة في حدود صناعة التوازنات و تحقيق الاستقرار .و جاءت الكينزية في عهد الاحتكارات حيث لم تعد عفوية السوق تعمل بطريقة اليد الخفية و غدت المنافسة محدودة و توجهات السوق تتحكم بها الشركات الاحتكارية الكبرى بعدما التهمت الشركات الصغيرة [ السمكة الكبيرة تأكل السمكة الصغيرة ] و اصبحت السوق ,سوق الحيتان و التماسيح لا سوق الضفادع و العصافير , وهي سوق متوحشة لا ترحم، تفترس المواطن و الوطن معا .
علينا ادراك ان مهمة بناء كيان اقتصادي وطني كفوء يعتمد بشكل كبير على ضرورة التكامل بين العام والخاص وعلى الدولة رعاية هذا التكامل، والتطرف فيه لا يصلح لبلدنا وحيادية الدولة ضرورية لخلق سوق تتحكم به التوازنات الضامنة لانسياب حركة السلع والخدمات وبأسعار مناسبة ، ويتحقق ذلك عبر الانفاق الحكومي بكل الاتجاهات للسيطرة على حدة المتغيرات وتجاوز الاختلال بالاتزان ، على سبيل المثال ازمتي السكن والبطالة لا يمكن تجاوزها بفترة قياسية دون تدخل الدولة ويكون ذلك ببناء مجمعات سكنية وشمول العاطلين بمرتبات تضمن لهم معيشتهم وكذلك التوسع في مشاريع البناء والاعمار ] بناء المدارس والمستشفيات ، شق الطرق والجسور .....الخ ] كلها تساعد على امتصاص نسبة كبيرة من العاطلين عن العمل وتحقق لهم دخلاً يحسن من قدرتهم الشرائية ، بالمقابل اقراض الناشطين في القطاع الخاص قروضاً بفوائد مناسبة وتسهيلات مصرفية مشروطة بضرورة العمل ضمن الثوابت الوطنية التي تضعها الدولة ولا يتعارض معها .
السوق المنفلتة والمتمردة على القيم الوطنية والانسانية لا يمكنها ان تكون ركيزة متينة لقيام دوله محصنة اقتصادياً وسياسيا ً ، و نهج الانفتاح على الوافد من الخارج دون ضوابط وطنية هو بمثابة تآمر على الاقتصاد الوطني وبالتالي فان الاستقرار الاقتصادي الذي تنشده الدولة والمجتمع يكون في مهب الريح وسيادتنا الوطنية تتعرض للابتزاز .
ماذا يعني الاقتصاد الوطني ، ان من جملة ما يعنيه هو احلال التكامل بدل التعارض بين نشاطات القطاع الخاص وتوجهات الدولة الوطنية الاقتصادية والسياسية ، وهو جملة النشاطات الانتاجية والفعاليات الاقتصادية كافة التي تمارس على ارض الوطن وتتحرك وفق التشريعات التي تسنها الدولة ولا تتقاطع معها .
ان موضوعة التوازنات بين المنافع العامة والخاصة و بين المشاريع الطويلة الاجل والقصيرة الاجل هي مهمة السلطة وتعتمد بشكل كبير على مدى تقارب الرؤى بين الكادر السياسي والكادر الاقتصادي .
تكمن قوة الدولة في كيانها الاقتصادي لذا من غير المعقول ترك شأن هذه القوة لحسابات ورغبات فردية قد لا تلبي الحاجات الاساسية للمجتمع وتتنافر مع توجهات الدولة الوطنية ، ان مدى التقارب المتحقق بين متغيرات السوق وثوابت الدولة الوطنية يعني اننا نؤسس لاقتصاد وطني مقتدر وكفوء ينعم اهله بالاستقرار والتقدم .