ثورة 14 تموز والهموم المزمنة / د. إبراهيم إسماعيل

لم يكن ليمرّ إحتفال بذكرى إنتصار العراقيين في 14 تموز عام 1958، دون أن يعاد طرح ذات السؤال القاسي والمضّني عن السّر الذي مكّن عصابة صغيرة ومنبوذة من الإجهاز على ثورة شعبية فريدة، تلك الثورة التي محت مشاركة ملايين البشر فيها (يوم لم تكن فكرة المليونيات معروفة بعد) الطابع الإنقلابي الذي إتسمت به إنطلاقتها.
ويبدو أن أي حوار حول ذلك السر، لا بد أن يرتكز الى تحليل الفترة التي أعقبت الحدث مباشرة، والمآل التي صارت اليها أهداف الثورة. ففي نشوة النجاح في تفكيك النظام المتخلف والفاسد وإلغاء الأطر القانونية والتشريعية التي تعكز عليها والإقتصاص العادل من بعض أركانه على ما إرتكبوه من جرائم بحق العباد والبلاد، راح الثوار يدورون حول إنفسهم، دون أن يعقلنوا حركتهم أو يؤسسوا للغد، قائلين (من ها هنا سنسير)، فتسللت لصفوفهم أحلام غائمة، رغم مشروعيتها، وغمرهم وهم رومانسي بالقدرة على تحقيق كل شيء بضربة واحدة.
وتتحمل النخب السياسية والثقافية التي تصدرت المشهد أنذاك، في ظّني، القسط الأوفر من المسؤولية عما جرى، إذ عجزت تلك النخب عن طرح مشروع شامل متسق مع المطامح المشروعة للجميع وقادر على إجتذابهم وإحداث إصطفاف مجتمعي، يرتكز اليه نظام سياسي راسخ، ويمّكنه من الصمود في بحر التحديات التي احاطت به.
ومن أبرز ما يقف وراء ذلك، إفتقاد تلك النخب الى رؤية شاملة عن العلاقة الجدلية بين الحريات العامة والعدالة الاجتماعية من جهة، وعدم إيلاء المشاركة الفاعلة لمختلف مكونات الشعب العناية المطلوبة من جهة مكملة، وهو أمر، كان ولا يزال، بالغ الأهمية في بلاد متعددة الأعراق والطوائف، لم يسبق لها أن عرفت الدولة المدنية، أو توفرت لأبنائها إرادة وطنية ناجزة، بلاد نجح حكامها دوماً في وأد أية إرهاصات لتشكل هذه الارادة أو تفعيلها أو قيام مجتمع طبيعي متماسك يمكن تشخيصه بأنه مجتمع عراقي.
كما عجزت تلك النخب عن فهم ما يمكن تسميته بالجانب الموضوعي للتحول الديمقراطي، أي حزمة الأسس والمباديء التي يمكن بها تقييم الجوهر الديمقراطي لمؤسسات الدولة والمجتمع، ومدى إتساقها مع القيم الديمقراطية، وأهملت مهمة تحديث المجتمع كبوابة لا بديل عنها لهذا المسار. فقد كان البون بين المجتمع وبين الديمقراطية كثقافة ونمط حياة شاسعاً، في ظل غياب الهوية الوطنية الجامعة، وبقاء أغلب الناس سلبيين تجاه المشاركة في الحياة العامة وفي الخدمة المجتمعية، وإشتداد تلك السلبية تدريجياً جراء اليأس من تحقيق المرتجى أو الخشية من القمع أو خضوعاً لرجل الدين وشيخ القبيلة وللقائد الذي زيّنت صورته القمر او في تنامي ثقافة الإعتماد على الدولة في كل مجالات الحياة بعد تحسن الدخل القومي لاسيما واردات النفط.
ورغم إن الأغلب الأعم لتلك النخب، كان ديمقراطياً بفكره التغييري التجديدي الطامح لبناء مجتمع الأكثرية، الحر والخال من كل أشكال الأستغلال، فإن اقساماً واسعة منها وقعت أسيرة التناقض بين تمرغها في رومانسية الأمل وبين إستسلام قدري لإرادة قيادة الثورة، حتى بعد جنوح الأخيرة الى الإستبداد لمواجهة المشكلات الاجتماعية والسياسية التي برزت عقب إنتصار الثورة وكنتاج للمتغييرات التي ولدتها، بدل إستثمار التفويض الشعبي الهائل الذي حضيت به، في تطبيق حلول فورية لبعض تلك المشكلات أو تدريجية لبعضها الأخر.
وقد أدى التراخي تجاه التضييق على حرية الأحزاب السياسية وتزييف إرادة العديد من منظمات المجتمع المدني، الى إعاقتها عن تعبئة الناس للدفاع عن مصالحهم وحقوقهم وعن مراقبة أجهزة الحكومة والضغط بإتجاه تحسين سياسات الدولة والإداء الحكومي، مما أضعف من دورها كقنوات رئيسية في تحقيق مشاركة مجتمعية واسعة وتأمين حق الشعب بتقرير مصيره وتسيير شؤون بلاده، وهو ما يعده الجميع الشرط الأرأس للتحول الديمقراطي.
وهكذا تبددت أحلام الحرية، وصار عصّياً على قيادة الثورة (مهما إختلفنا أو إتفقنا على حسن نواياها) إنجاز مهام المرحلة الأنتقالية وبناء دولة المواطنة وإقامة مؤسسات ديمقراطية، كما أمكن وأد منجزات هامة كالأصلاح الزراعي والتقدم التقني والتحسن الكبير في ضمان حق الجميع في التعليم والصحة والسكن، وهو ما مكّن، بمجموعه، تلك العصابة الصغيرة والمنبوذة من الإجهاز على الثورة وقيادتها بيسر، وإيقاف عجلة تطور العراق، وإعادته الى الوراء متخلفاً في كل شيء كما هو عليه اليوم!