الانتصار اليوناني ونهوض اليسار في جنوب شرق اوربا* (1-4)

رشيد غويلب
ما زال الإنتصار التاريخي لحزب اليسار اليوناني يتفاعل وينعكس ايجابيا على الحراك في ساحة اليسار في البلدان الأخرى، وخصوصا في بلدان الأزمة في جنوب اوربا، وعلى الرغم من ان حكومة اليسار في اليونان مستمرة في صراعها الصعب مع المؤسسات المالية وبلدان منطقة اليورو، الا ان قيادة اليسار للحكومة اكدت حقيقتين اولهما قدرة اليسار على تعبئة الأكثرية، وثانيهما ان مواقف الحكومة اليونانية ومطالبها المتواضعة باستراتيجة نمو عادلة اجتماعيا، يقابلها اصرار مجموعة اليورو على سياسة تقشف قاسية جامدة، وقلق من ان تؤثر هذه المواقف ايجابيا في لوحة الصراع السياسي في القارة لصالح اليسار.
ولم ينحصر إهتمام وسائل الإعلام في بلدان البلقان في الحملة الإنتخابية ونتائج الإنتخابات وتشكيل الحكومة والمحادثات مع المؤسسات المالية، كما هو الحال في بقية بلدان القارة، وانما تركز الإهتمام هنا على التعاطف المفاجئ مع نموذج "اليسار الجذري"، ومازال هذا الإهتمام متواصلا. فعلى سبيل المثال في بلغاريا اكدت نتائج استطلاع للراي ان 55 في المائة من المشاركين فيه يدعمون نموذج حزب اليسار على غرار سيريزا اليوناني. وفي العديد من بلدان المنطقة يجري البحث بعد الإنتخابات اليونانية عن زعيم كـ "تيسبراس" او حزب مثل ""سيريزا".ولا يحظى بألإهتمام فقط وجوه قوى اليسار ذات التأثير المحدود في هذه البلدان، بل يتعدى ذلك الى شخصيات ليبرالية، وحتى محافظة تحاول توظيف التعاطف والإستفادة منه، عبر اعلان دعمها للكثير من المقترحات التي يقدمها حزب اليسار اليوناني خلال جولات المفاوضات.
ويبدوا ان هناك اربعة عوامل رئيسية تقف وراء التعاطف مع حزب اليسار اليوناني:
اولا:التشابه في هيكلية الأزمة بين اليونان وهذه البلدان، فبلدان جنوب اوربا هي الأكثر تضررا من الازمة وتعاني من تراجع كبير في الناتج الإقتصادي منذ عام 2009، فمعدلات البطالة وصلت ارقاما قياسية، وخصوصا في اوساط الشبيبة. وكذلك تقدم استراتيجية النخب الحاكمة في معالجة الأزمة على سياسة التقشف التي دمرت اليونان. وفي جميع بلدان المنطقة يجري الإصرار، خلال السنوات الست الماضية، على هذه السياسة التي ادت الى: خفض الإجور والمعاشات التقاعدية،الخصخصة القسرية، واجراءات الليبرالية الجديدة التي تفرغ قوانين العمل من محتواها، وتطلق حرية حركة رؤوس الأموال.
ثانيا: وفي سياق الأزمة اندلعت احتجاجات اجتماعية كانت على اشدها في سلوفينيا والبوسنه وبلغاريا. ومنذ بداية هذا العام اندلعت في مقدونيا احتجاجات شكل الطلبة والتلاميذ قوتها الأساسية، ماثلت وسائل التعبئة فيها احتجاجات بلدان الأطراف الأوربية، وكذلك تظاهرات الربيع العربي، ولكن المطالب السياسية لهذه الإحتجاجات لا تزال غير واضحة، ولم تتمخض الإحتجاجات عن تحالفات دائمة، او شبكات عالمية. ولكن اجزاء من الحركات الإحتجاجية اتخذت من ساحات اثينا رمزا ، ومن صعود حزب اليسار اليوناني مرجعية لها.
ثالثا: ادى انهبار التجربة الإشتراكية في هذه البلدان الى تحول معظم الإحزاب الحاكمة فيها الى احزاب اجتماعية ديمقراطية، انظمت الى "الإشتراكية الدولية"، ولم تشهد هذه البلدان تحولا نحو احزاب اليسار الجذري، كما هو الحال في المانيا الديمقراطية السابقة ما احدث فراغا في منطقة اليسار وحفز الفضول تجاه نماذج احزاب اليسار الجذري مثل حزب اليسار الألماني وحزب اليسار اليوناني.
رابعا: يبدوا ان تغييرا في الأجيال قد حصل ودخل جيل جديد معترك العمل السياسي، انطلاقا من تجربته المتشكلة في سنوات الأزمة الإقتصادية والمالية، ففتح فضاءاً جديدا لليسار. وعلى الرغم من ان هذا الجيل يعيش في مجتمعات تسود فيها المحافظة وقيم الليبرالية الجديدة، الا انه لم يتشرب معاداة الشيوعية التي كانت على اشدها في التسعينيات والسنوات التي تلتها. لان النخب الليبرالية الجديدة تجد صعوبة في القاء مسؤوليةالمشاكل الإجتماعية والسياسية الحالية على عاتق التجربة الإشتراكية، او اعتبارها ارثا لها. ولهذا يتنامى في بعض الأوساط وجود مجاميع مناهضة للرأسمالية، تقدم جيلا جديدا من الناشطين اليساريين، الذي استطاع في السنوات الأخيرة ان يثبت حضوره. ان نموذج "اليسار الجذري" يصبح جذابا بنحو متزايد لناشطين آخرين، وخصوصا في النقابات واوساط المثقفيين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* - عن مقالة تفصيلية لـ"بوريس كانزلايتر" رئيس مكتب مؤسسة روزا لوكسمبورغ الألمانية في جنوب اوربا، ومقره بلغراد