تداعيات في الذكرى الثمانين لصدور الصحافة الشيوعية / عبد الرزاق الصافي

جرى الاعلان عن تأسيس الحزب الشيوعي العراقي في 31 آذار 1934 ولم يكن يمتلك صحيفة لتعلن هذا الحدث المهم في تاريخ العراق الحديث. ولذا كان يلجأ الى اعلان موقفه من الاحداث في البلاد، في بيانات. ولم يُصدر صحيفة الاّ في 31 تموز 1935. وكان اسم الصحيفة "كفاح الشعب" التي صدرت منها خمسة أعداد سراً، لأنه كان من المتعذر الحصول على امتياز من حكومة ياسين الهاشمي، لأن الحزب كان ايضاً يعمل سراً.
صدر من "كفاح الشعب" خمسة أعداد بمعدل عدد واحد في الشهر، ذلك ان أجهزة أمن النظام الملكي التي أسسها المستعمرون الانجليز وظلوا يشرفون عليها سنوات عديدة، حتى بعد اعلان "استقلال" العراق بعد عقد معاهدة 1930، وانضمام العراق الى عصبة الأمم" في العام 1932، استطاعت العثور على بيت المطبعة التي طبعت الجريدة فصادرتها واعتقلت عدداً من الرفاق الذين يعملون في الجريدة، في شهر كانون الأول 1935.
ويُروى أن وزير داخلية حكومة ياسين الهاشمي، رشيد عالي الكيلاني، جاء مزهواً الى وزارته بعد قمع عمليات عصيان عشائري ضد الحكومة، ووجد على الطاولة في مكتبه بالوزارة بياناً يحمل توقيع الحزب الشيوعي العراقي، فعلّق قائلاً: ان هذا البيان أخطر من العصيان العشائري الذي جرى قمعه يومذاك. وكان تشخيصه صائباً، ذلك أن اعلام الحزب الشيوعي العراقي من بيانات وجرائد وغير ذلك من وسائل النشر كان يقف بالمرصاد للحكومات العميلة الممالئة للاستعمار والحامية لمصالح الاقطاعيين والكومبرادور والمعادية لمصالح الشعب ومطامحه في الاستقلال والحرية والعيش الكريم، ويفضح مواقفها وسياساتها الرجعية، ويعبىء الشعب للنضال ضدها. ويُذكر أن هذا الاعلام كان دقيقاً لأنه كان نابعاً من وسط الشعب، الأمر الذي حمل الأستاذ الباحث حنا بطاطو على القول إن هذا الاعلام يمكن التعويل عليه لأنه أدق وأوضح من الاعلام الحكومي، وذلك بعد اطلاعه على نشريات الحزب منذ ثلاثينات القرن الماضي حتى خمسينات القرن.
إن جرائد "كفاح الشعب" و"الشرارة" و"القاعدة" و"اتحاد الشعب" كانت تعبىء الشعب للنضال ضد الطغمة الملكية الحاكمة وارهابها، ومصادرتها للحريات وغمط حقوق الشعب من العمال والفلاحين والكسبة والحرفيين لصالح الاقطاعيين والبرجوازيين الكومبرادور وكبار الموظفين من الفئة الحاكمة. وكانت تبث الوعي الوطني في صفوف الشعب، وتثقّف العمال والفلاحين والطلبة والشباب وكل أبناء الشعب بحقوقهم الدستورية في تشكيل منظماتهم النقابية والمهنية واطلاق حرية التنظيم الحزبي، وتقف بالمرصاد للمشاريع الاستعمارية والأحلاف العسكرية والمعاهدات الجائرة التي تصادر حقوق الشعب في الاستقلال والديمقراطية، كمعاهدة بورتسموث التي أحبطتها وثبة الشعب في كانون الثاني 1948، التي قال عنها مستر بيفن، وزير خارجية بريطانيا يومذاك، إنها عطلت المشاريع الاستعمارية في المنطقة مدة خمس سنوات على الأقل. وبالفعل، لم يستطع الامبرياليون من انجليز وأمريكان من فرض حلف بغداد الاستعماري بالحديد والنار الاّ بعد ما يزيد عن الخمس سنوات، على يد نوري السعيد، الذي حفر بذلك قبر النظام الملكي، الذي نخرته نضالات الشعب العراقي. وكان لصحافة الحزب الشيوعي العراقي السرية دورها المرموق في ذلك، الى جانب صحف القوى الوطنية الأخرى.
ورغم أن صحافة الحزب الشيوعي السرية هي التي كانت تحمل وجهة نظر الحزب وتوجهاته باستمرار، فان الحزب لم يترك فرص اصدار صحف علنية تعبر عن سياسته سرعان ما تقوم الحكومات الرجعية باغلاقها، مثل جريدة "الأساس" لصاحبها الرفيق شريف الشيخ التي صدرت في أعقاب وثبة كانون الثاني 1948، و"العصور" وجريدة "الهادي" التي صدر منها عدد واحد في عام 1949 وأغلقتها السلطة. كما لم يترك الشيوعيون أية امكانية تتاح لهم للنشر في الجرائد الوطنية العلنية مثل الجرائد التي كان يتولى تحريرها الاستاذ لطفي بكر صدقي وشاعر العرب الكبير محمد مهدي الجواهري وغيرها.
ولا يسعني الاّ استغلال هذه الفرصة لإدراج واقعة أخبرني بها الفقيد محمد علي الزرقا في دمشق في ثمانينات القرن الماضي، وهو شخصية وطنية سورية كان طالباً في دار المعلمين العالية أواسط الأربعينات وانتمى الى الحزب الشيوعي العراقي، وعاش مع الرفيق فهد في بيت واحد فترة من الزمن. والواقعة هي أن الحزب أصدر مطبوعاً باسم "واسط" وقال إنه يمتلك عدداً منه. فرحت بالخبر وكلفت أحد الرفاق في منظمة حزبنا الشيوعي في دمشق لأنني كنت على سفر للبحث عنه في مكتبته غير المنظمة. وذهب الرفيق الاّ انه لم يعثر على المطبوع مع الأسف، بسبب فوضى المكتبة.
* * *
كانت الجريدة المركزية للحزب حتى قيام حلف بغداد في أواسط الخمسينات هي "القاعدة"، التي صدرت في النصف الأول من الأربعينات بسبب استيلاء عناصر منشقة عن الحزب على جريدة "الشرارة". وفي مسعى الحزب الذي قاده الشهيد حسين أحمد الرضي (سلام عادل) من أجل تصفية الانشقاقات في الحركة الشيوعية في العراق ولتوحيد الحركة الوطنية في جبهة وطنية موحدة، رأى الحزب من الضروري اتخاذ اسم جديد للسان الحزب، فوقع الاختيار على "اتحاد الشعب" باعتبار ذلك هو المهمة الأساسية.
صدرت "اتحاد الشعب" في النصف الثاني من عام 1956. وعندما حدثت ثورة 14 تموز 1958 أصدرت الأحزاب التي شكلت جبهة الاتحاد الوطني، التي أقيمت في شباط 1957 وأعلنت في آذار نفس العام، جرائد تعبر عنها، مجازة من حكومة الثورة، الاّ الحزب الشيوعي الذي جرى حرمانه من هذا الحق. واستمر هذا الأمر الذي يتناقض مع الدور الذي لعبه الحزب الشيوعي قبل قيام الثورة، وبعد قيامها، وتجنيد جماهيره لدعمها.
ولذا لجأ الحزب في الأشهر الاولى من الثورة الى اصدار البيانات تعبيراً عن موقفه الداعم لحكومة الثورة، ولجأ رفاق من قيادة الحزب، الى نشر مقالاتهم في الجرائد العلنية مثل "صوت الأحرار" التي يصدرها الصحفي التقدمي لطفي بكر صدقي، وحتى جريدة "الزمان" التي يصدرها توفيق السمعاني. وفي تلك الأيام تعزز التعاون بين قيادة الثورة، ممثلة بالزعيم عبد الكريم قاسم، والحزب، ولذا فاتح الشهيد سلام عادل الزعيم بالأمر، بعد أن قام الحزب بحملة تواقيع دعماً لطلب اصدار جريدة "اتحاد الشعب" جمعت ما يقارب مئتي ألف توقيع. فأوعز الزعيم باجازة صدور "اتحاد الشعب" علناً، وكان ذلك في كانون الثاني 1959 حيث صدر أول عدد علني من "اتحاد الشعب".
ومنذ أول يوم لصدروها حتى اغلاقها في العام 1961 كرّست "اتحاد الشعب" صفحاتها لدعم الثورة ضد المؤامرات التي كانت تتوالى ضد الثورة، والإسهام في تعبئة الجماهير وتنظيمها في النقابات العمالية والجمعيات الفلاحية واتحادات الطلبة والشبيبة، واسناد حكومة الثورة في مفاوضاتها الصعبة مع شركات النفط من أجل انتزاع حقوق العراق التي تكللت بإصدار قانون رقم 80 لسنة 1961 الذي استرجع 99,5% من أراضي امتيازات شركات النفط، وتأسيس شركة النفط الوطنية. ولذا فقد كانت شركات النفط تضغط على الحكومة لإسكات "اتحاد الشعب"، الأمر الذي حمل الزعيم عبد الكريم قاسم على الايعاز بايقاف "اتحاد الشعب" عن الصدور. وكان هذا أحد المواقف التي تعكس تراجعات عبد الكريم قاسم أمام ضغوط الاستعمار والقوى الرجعية والمتآمرين ضد الحكومة، الذين أفلحوا في اسقاط حكومة الثورة في الانقلاب الدموي الوحشي في الثامن من شباط 1963.
بعد اغلاق "اتحاد الشعب"، سعى الحزب للاستفادة من امتياز جريدة باسم "صوت الشعب" سبق أن أُعطي للشهيد محمد حسين أبو العيس، غير أن الحكومة لم تسمح بصدورها. فاضطر الحزب الى اصدار "طريق الشعب" سراً، لكي لا يُحرم من ايصال وجهات نظره للجماهير بشأن تطور الأوضاع في البلاد، وتعاظم النشاط التآمري ضد الحكم. وركز الحزب في تلك الفترة جهوده على فضح التآمر على الحكومة، الاّ أن الزعيم استمر في نهجه التراجعيٍ. كما شهدت تلك الفترة اندلاع القتال في كردستان، فكرس الحزب الكثير من جهوده لحملة "السلم في كردستان"، وتلقى العديد من رفاق الحزب أحكاماً قاسية من المحاكم العسكرية الرجعية التي أطلقها قاسم ضد الحزب للحد من نشاطه الهادف الى حماية الوضع من التدهور ووضع حد لممالأة القوى المتآمرة على الحكومة.
* * *
استمرت "طريق الشعب" بالصدور سراً في عهد العارفين، عبد السلام وعبد الرحمن، وكذلك في الأشهر الخمسة الأولى من حكم البعث بعد انقلاب 17 تموز 1968، وصدرت علنية في أيلول 1973 في أعقاب توقيع ميثاق الجبهة الوطنية في 16 تموز 1973 بين الحزب الشيوعي العراقي وحزب البعث الحاكم. كان حزب البعث الحاكم مضطراً للسماح بصدور "طريق الشعب" علنية، غير أنه وضع أمام ذلك الكثير من العقبات وحرمان الجريدة من أن تكون مستقلة تماماً، وحرة في الوصول الى الجماهير، وحرّم توزيعها من قبل الرفاق الشيوعيين. ووصل به الحال الى اعتقال العديد من شغيلتها محررين وطباعين وموزعين وسواق بذرائع مفضوحة. كما وجّه الملاحظات والانذارات لإلزام الجريدة بتبني وجهة نظر الحكومة في العلاقة مع سورية الشقيقة وغير ذلك من الأمور. وعندما نشرت الجريدة تقرير اجتماع اللجنة المركزية في آذار 1978 جُنّ جنون البعث، وجندوا جريدة "الراصد" للهجوم على التقرير والحزب، وطالب بسحبه وشن حملة واسعة من الاعتقالات والارهاب والتعذيب ضد رفاق الحزب. وأعدم 31 من رفاق الحزب وأصدقائه بتهمة زائفة هي انضمامهم الى تنظيم شيوعي في الجيش. وحاصر مقر الجريدة بوكلائه السريين الذين يباشرون نشاطهم بشكل مفتوح، واُعتقل العديد من الرفاق الذين يرتادون الجريدة والعاملين فيها، وعرّضهم الى التعذيب الوحشي بقصد إسقاطهم سياسياً.
لقد شكلت الفترة التي صدرت فيها "طريق الشعب" علنية من أيلول 1973 حتى نيسان 1979 تجربة غنية جداً في العمل الصحفي، حتى أن أعدادها الخاصة كانت تدهش طارق عزيز الذي كان رئيس تحرير جريدة "الثورة"، لسان الحزب الحاكم، فيقوم بعقد اجتماع لمحرري جريدة "الثورة"، الذين يفوق عددهم عدد محرري "طريق الشعب" كثيراً، للبحث في الابداع الصحفي الذي تجسده "طريق الشعب"، وتقريعهم لعجزهم عن مجاراته.
وشكلت "طريق الشعب" في صدورها العلني مرحلة جديدة متطورة في الصحافة اليومية من حيث الابداع والغنى في المعالجات وتبني قضايا الجماهير ورعاية المواهب الشابة وتطويرها في مجالات التحرير والابداع الشعري والقصة وسائر فنون الصحافة، يصعب إدراجها في هذا السياق لطول الموضوع. وحبذا لو تلطفت هيئة التحرير بنشر مقابلة مطولة أجراها معي الرفيق داود أمين، وهو أحد خريجي مدرسة "طريق الشعب"، ونُشرت في الجريدة قبل سنوات، لأن المقابلة كانت شاملة وتعكس ما أسهمت به "طريق الشعب" بالنسبة للصحافة في العراق.
اما الأيام الأخيرة من حياة "طريق الشعب"، فقد كانت ملحمة نضالية للرفاق الذين وقع على أكتافهم ما قامت به أجهزة الأمن وجلاوزتها من محاصرة الجريدة والمطبعة، واعتقال العديد من الرفاق وتعذيب عدد منهم. أما بالنسبة لرئيس التحرير، الذي هو كاتب هذه السطور والعضو الوحيد من المكتب السياسي للحزب الشيوعي الذي ظل يداوم علناً في الجريدة، فكان يخضع طيلة أربع وعشرين ساعة لرقابة رجال الأمن الذين نصبوا خيمة عند البيت الذي يسكن فيه لمراقبته طيلة ساعات الليل والنهار. وكانت تجري ملاحقته أثناء النهار بالسيارة. وبلغ برجال الأمن الامر في اليوم الثاني من شهر ايار 1979 أن جنّدوا سيارتين لملاحقته، الأولى تسير أمام سيارته والأخرى خلفها، مع دراجة (موتورسايكل) تتحرك بين السيارتين للحيلولة دون الافلات من هذا الطوق. ومع ذلك أفلت منه بسبب غباء المكلفين بالمتابعة.
وكان التاريخ المذكور، 2 ايار 1979، هو اليوم الذي يسبق الرابع أو الخامس من شهر أيار، موعد انتهاء فترة تعطيل الجريدة لمدة شهر الذي صدر بحقها يوم 5 نيسان 1979. ولذا استغل جلاوزة الحكم فرصة اختفائي عن رقابتهم وعدم الدوام في الجريدة كذريعة لتعطيل الجريدة نهائياً.
* * *
وفي الذكرى الثمانين لصدور الصحافة الشيوعية يحتم علينا الواجب أن نتذكر ونمجّد روادها الأوائل وشهداءها الأماجد من الذين عملوا في "اتحاد الشعب" و"طريق الشعب" وغيرها من صحافة الحزب، وندرج من احتفظت الذاكرة الكليلة بأسمائهم: عبد الرحيم شريف وعدنان البراك (استشهدا في أعقاب انقلاب 8 شباط 1963) وشمران الياسري (أبو كاطع) وسامي حسن العتابي وكريم أحمد وسعدون علاء الدين واسماعيل خليل ومحمد حسن عيدان والمحامي أيوب عمر ، وعلي محمد تقي، ومحسن خشان، وراضي عطية، وثائر عبد الرزاق، والشاعر خليل المعاضيدي وقاسم محمد حمزة وياسين طه وحميد ناصر الجيلاوي وعبد الزهرة غلام وثائرة بطرس وهادي صالح وحاجي جمال وذياب كزار (أبو سرحان) وصباح جمعة.
* * *
ولابد من القول ان هذه التداعيات السريعة عن صحافة الحزب الشيوعي العراقي في ذكراها الثمانين يجب أن لا تنسينا الدور الكبير الذي لعبته هذه الصحافة في إشاعة الوعي السياسي والاجتماعي والارتقاء بدوره في عملية التنوير والتثقيف. فبالاضافة الى الصفحات التي كانت تكرسها الصحف الحزبية لقضايا الأدب والفن، فقد لعبت مجلة "الثقافة الجديدة"، وما تزال، دوراً رائداً في التجديد والابداع الأدبي، في الشعر والقصة والفكر العلمي والثقافة التقدمية، الأمر الذي لن تفيه حقه إشارة سريعة بهذه المناسبة، وكذلك "الفكر الجديد". اذ يتطلب أن ت?كرّس له دراسات واطروحات أكاديمية صدر قسم منها، الاً انه لا يفي هذه الصحافة حقها. ومما يبعث على السرور أن عدداً لا بأس به من الكتاب والباحثين الشباب عمدوا في السنوات الأخيرة، بعد زوال حكم البعث، الى تناول هذا الجانب في أبحاثهم وأطروحاتهم الجامعية لنيل درجة الماجستير والدكتوراه. ومع ذلك فانها أقل مما يستحقه دور الحزب وصحافته في هذا المجال.