مدارات

«الصفارة» جريدة رياضية ساخرة أصدرها الانصار الشيوعيون / يوسف أبو الفوز

أثر حملات الابادة الجماعية، المعروفة بأسم الانفال، في مناطق بهدينان، صيف 1988 ، التي شنها النظام الديكتاتوري المقبور ضد الشعب الكردي وفصائل المقاومة المسلحة من قوى الانصار والبيشمه ركة ، اضطر سكان القرى والقصبات لعبور الحدود الى ايران وتركيا ، ولعدم التوازن في القوى وامكانية خوض معارك جبهوية مع فيالق النظام المدججة بمختلف انواع الاسلحة ومنها الكيمياوية انسحبت ايضا قوات الانصار والبيشمه ركة .
ووجدنا انفسنا حوالي 120 نصيرا ونصيرة وفينا بعض العوائل بصحبة اطفالهم ، نقيم في مخيم للاجئين مع مئات العوائل الكردية من ابناء القرى ، في بقعة جغرافية نائية قاحلة لا ترحم ، المفارقة ان اسمها "زارعان" (اثارت التسمية حنق النصير ابو جاسم فصرخ "زارعان بس حتى شوك مابيها") ، حيث شيدت السلطات الايرانية مخيما اشبه بالمعتقل، تحيطه الاسلاك الشائكة والحراسات والخروج منه متعذر لأي سبب ، وبالرغم من ان الانصار الشيوعيين دخلوا بغطاء كمقاتلين في الحزب الديمقراطي الكردستاني ، الا ان السلطات الايرانية كانت تشك بأمرنا مما جعل اوضاعنا الامنية مجهولة المصير ومحفوفة بالمخاطر . كانت تشاركنا المخيم او معسكر الحجز مئات العوائل التي لا تعرف مصيرها ومستقبلها، وكانت المساعدات الغذائية محدودة والاحوال النفسية سيئة، والخدمات متدنية، فهناك حمام عمومي واحد خصصت ايام منه للرجال وايام للنساء . وهناك مكتبة فقيرة اغلب كتبها دينية. فكان كل يوم هناك شجار او تلاسن لسبب ما بين ابناء القرى خصوصا الشباب ، اذ لا يوجد لديهم عمل ولا توجد وسائل لهو لتصريف طاقتهم او غضبهم . هنا جاء دور الانصار الشيوعيين . كانت هناك مداولات، وكانت هناك افكار واقتراحات ، فولدت فكرة " دوري كرة القدم" .
يقول النصير ابو حاتم "مناف الاعسم " :
ــ (كان في المعسكر ساحة اصولية لكرة القدم مع الاهداف والشباك ، مما ساعد على تنفيذ الفكرة، وتقرر اشراك شباب القرى في الدوري ، لم يتم تشكيل الفرق على اساس القرى او المناطق ، بل تم اولا توزيع الانصار المعروفين بممارستهم للعبة كرة القدم ، ثم تم خلط اسماء كل من يرغبون باللعب من الانصار وابناء القرى وتم توزيعم الى مجموعات ، فكانت الحصيلة ثلاثة فرق رياضية متكاملة ، حملت اسماء (الانصار) ، (التقدم ) ، (الطليعة) وتم تحديد اللاعبين الاصليين ولاعبي الاحتياط وحماة الاهداف ، وتم اختيار لجنة للحكام على رأسها النصير ابو عليوي ، وبدأ الدوري بحماس كبير.)
النصير ابوطالب " الشاعر عبد القادر البصري " ، قال لنا :
ـ (كانت الاوضاع النفسية للجميع سيئة ، وحياة المخيم ـ السجن زادت الاوضاع سوءا ، فكنا بحاجة لاي شيء لكسر الرتابة ، حاولنا تنظيم صفوف دراسية للغات الانكليزي والروسي والفرنسي ، ونظمنا حفلات في مناسبات وطنية عديدة ، وقدمنا مسرحية ، الا ان هذه الفعاليات كانت محدودة بين الانصار ، فكرة دوري كرة القدم جاءت في وقتها ، خصوصا ان الانصار استطاعوا جذب شباب القرى ليساهموا فيها والكثير من اهل القرى من سكان المخيم ليكونوا متفرجين ، مبادرة النصير يوسف ابو الفوز لاصدار نشرة رياضية ساخرة خاصة بالدوري جاءت مساهمة طيبة لتضيف للاجواء شيئا من المرح وشخصيا ساهمت بالنشرة برسوم الكاريكاتير انطلاقا من هذا السبب ).
ولم تكن اوضاعي الصحية ، تسمح لي بالمساهمة في الدوري كلاعب ، فخطرت لي فكرة المساهمة ، بأصدار نشرة تهتم بشؤون الدوري ، فرأقت الفكرة للعديد من الانصار ، اقترحت اسم " الصفارة " للإشارة الى كونها ستكون مراقباً للدوري وتملك الحق ان تصفر للخطأ وان تنتقد أمراً ما . قام النصير ثائر (سلام كنون) بخط العنوان وتصميمه وخط العناوين الرئيسة للموضوعات بالالوان ، وصدر العدد الاول بحجم (A3)، وكتبنا في الكليشة (الصفارة ـ جريدة رياضية ديمقراطية مستقلة ) ، ولم تحمل اي رسم او صورة ، وكانت الكتابة بخط اليد بقلم الجاف ، ولم يكن خطي بالمهارة والجودة المناسبة مما اثار العديد من الملاحظات لضرورة تحسين شؤون "الطباعة" !! وحمل العدد الاول تعليقات ورصداً لما جرى في اليوم الاول من الدوري ومواعيد المباريات واسماء الفرق واللاعبين ، فأثار انتباه الكثير من الرفاق، وفي الاعداد التالية بادر النصير ابو بسام (الفنان ستار عناد) لتزويد النشرة برسوم كاريكاتيرية ، راقت كثيرا للانصار، وسرعان ما التحق به النصير ابو طالب (الشاعر عبد القادر البصري) فأضافت رسوماتهما الكاريكاتيرية حيوية للنشرة وصارت من المواد الاساسية التي يتابعها القراء . أيضا ساهم في تقديم الاقتراحات والتصميم والكتابة والتحرير النصير ابو سعد (الاعلامي علي محمد) ، وتوسع حجم النشرة في الاعداد اللاحقة ليكون بحجم صفحتين A3 . حرصت النشرة على ان تكون ساخرة ، ورياضية وتهتم بشؤون الدوري، وصدر منها خمسة عشر عددا على مدى ايام الدوري ، وكانت تصدر حتى في ايام استراحات الفرق . واستكتبنا بعض الانصار للحديث عن ذكرياتهم الرياضية ، وللكتابة باختصار عن اوضاع الرياضة في ظل النظام الدكتاتوري . لم يكن حجم النشرة ، وهدفها يسمح بنشر مواضيع طويلة، فقد كانت حريصة على رصد ما يجري في داخل الساحة وعلى اطرافها . فمثلا الحكم الاساس النصير ابو عليوي يقف في منتصف الساحة ، ويترك اللاعبين يركضون ويتقاتلون ومن على البعد يحدد الخطأ والصح اعتمادا على حدسه ولم يكن يجد احداً يعارض قراراته فلقد كان لها "وزنها" في الساحة، فكانت النشرة ترصد قرارات الحكم وردود الافعال حولها ! وخلال المباريات ظهر العديد من الالقاب والنعوت الطريفة للاعبين ، فالشاعر ابو طويلب الاسمر نال لقب "الجوهرة السمراء"، احد شباب القرى كان حين يجري يثير خلفه عاصفة من الغبار تعمي اللاعبين من حوله فسمي "العاصفة " ، بينما شاب اخر بدأ أشبه بممثل في مسلسل مصري يؤدي دور عمدة البلد فصار اسمه "العمدة" وهكذا .
يعود النصير ابو حاتم ليقول : (كنا نتلاقف "الصفارة" لانها وببساطة تصدر بنسخة واحدة وبجهد كبير وابداع لا يوصف برسم الكاريكاتيرات وخط اليد والتصميم ذو الذوق الفريد ، اما المحتويات من اخبار وتحليلات رياضية فكانت مثاراً للضحك والتعليقات ، مثلا كانت اللياقة البدنية لاغلبنا مضحكة فلا نستطيع الاستدارة نحو الكرة الا بصعوبة فمن يعاني من الاستدارة والمراوغة المطلوبة بلعبة كرة القدم ، اطلق عليهم تسمية "التريله" (مركبة طويلة) وكان في النشرة عمود ثابت لنقل اخبار التريلات .)
موعد صدور النشرة كان الساعة الثامنة صباحا حيث تعلق في الممر الخارجي بين غرف النوم في قسم العزاب، مما يتطلب السهر ليلا لتصميمها وخطها ، وكان النصير ثائر يخط اولا عنوان النشرة ، وبعد التداول حول حجم المواد المتوفرة، وبالتعاون من النصير ابو سعد يتم تصميم العدد بشكله النهائي، حيث يتم كتابة النصوص بالقلم الجاف ، ليعود ثائر ليخط عناوين المواضيع بالحبر الملون . بعد الظهر كانت النشرة تنتقل من بلوك سكان العزاب الى غرف العوائل فتدور عليهم بالتناوب ، وكانت تصل النشرة بأستمرار شكاوى حول التأخير في "التوزيع". لم يكن هناك تصور اولي لمدى نجاح النشرة والاستقبال الذي ستلاقيه ، لكن الاهتمام الكبير الذي ابداه الانصار وعوائلهم وترقبهم لها ، دفع بالنشرة لأن تكون اكثر مهنية، وتحافظ على مواعيدها في الصدور، وتحرص على التنوع في المواضيع .
للاسف ، ان اوضاع السفر والتنقل بين محطات مختلفة ادت لفقدان اعداد النشرة ، لكن عائلة عراقية رائعة مقيمة في ايران استطاعت الحفاظ على مجموعة الرسوم الكاريكاتيرية، وبعض القصاصات ، منها مقال النشرة في العدد الاخير وهو الخامس عشر، وكان تحت عنوان " صدى اللحظات الممتعة " الذي يقول ( حين ظهرت فكرة أقامة الدوري، ظهرت فكرة اصدار جريدة رياضية تتابع الدوري، وبذلت جهود متواضعة لتكون الجريدة مقبولة ومناسبة مع الحدث ، والى حد ما استطاعت الصفارة ان تصل الى قرائها بعد ان وجدتهم ووجدوها .