في ذكرى إصدار «طريق الشعب» في السادس عشر من أيلول 1973

عبد الجبار السعودي
لو قدّر لي أن أضع أولى خطواتي في مدينة البـصرة التي تحتضر حيناً وتنتفض حيناً آخر، أملاً بالعيش والحياة والتقدم، لكانت أمكنة البيوت الفقيرة التي نشأتُ فيها وترعرعت، وكل أبنية المدارس والأزقة والدروب الخربة وأماكن لهونا التي لن أجدها بكل تأكيد، ودور السينما والكازينوهات ومحال العطارين وباعة الأقمشة والأشجار التي غابت، ستكون محطات تجوالي الأولى بعد عقودٍ من الغياب القسري!
لو قدّر لي أن أزور ذلك الدرب الذي يمرّ على شط الخندق العريق وشجرات النخيل الثلاث التي تزين الشاطئ المتعب والحزين والتي كنت أستظل بدفئها ظهر الصيف القائظ، لما ترددت. ففي عبق الذكرى حول شجرات النخيــــل تلك وانحناءات جذوعها والتقائها في نقطة واحدة، وكأنها تنبع من جذر واحد ، معانٍ كثيـــرة، أهتز لها كلما أطالع مخطوطة اسم (طريق الشعب) إنْ اتشّح اسمُها باللون الأسود أوالأحمر. فهي تبقى زاهية، ناصعة، عبر عقود طويلة تمتد معها سنوات الكفاح اليومي وعشق الكلمات وبلاغة الأحرف والمواد التي تغتني بها صفحاتها وتزخر، وكأن?ا تلفظ كل يوم وبعناية، دروساً في علوم السياسة والأدب والفنون والحكاية الشعبية وكل ما يزهو به الفكر الإنساني التقدمي الذي تتطلع اليه عيون الناس، شيوعيون ووطنيون وعامة الناس، وهُم يترقبون صدورها كل يوم لتتكحل بها الطرقات والمكتبات رغم المضايقات التي كانت تتعرض لها من قبل سلطات النظام البعثي الحاكم خلال سنوات السبعينيات القلائل التي صدرت فيها بعد انتزاع حق صدورها بمرارة وبسالة في السادس عشر من أيلول من عام 1973 حيث صدر العدد (صفر) حينذاك والذي ترقبت الناس في أغلب مدن العراق بلهفة فاقت التوقعات صدوره، وحيثُ وز?ع مجانــــا تحت أعين ورقابة أجهزة الأمن والسلطات الحاكمة المختلفة.
سفرٌ طويلٌ وكفاحٌ يومي باسل خاضته جريدة "طريق الشعب" خلال سنوات السبعينيات، كرّست فيها أقلام الشيوعيين والوطنيين من صحفيين وكتاب وأدباء وقانونيين وفنانين وغيرهم لكي تبقى رائــدة بحق في الإصدار الصحفي العلني من بين العديد من صحف النظام وصحف بعض الأحزاب الأخرى آنذاك.
كلُّ هذا التألق وهذا البريق وهذه اللغة الحميمية اللصيقة مع المواطن ومعاناته اليومية ومشاكله المعيشية والشارع العراقي بمختلف شرائحه، لم ترق للسلطات الحاكمة آنذاك، فأخذت تمتحن إرادة الجريدة ومن يقف خلفها في البقاء،عبر تخرصات ومضايقات واعتداءات لم تتوقف، وهي تشاهد الاندفاع الكبير للناس بمختلف توجهاتهم لاقتناء الجريدة وانتظار وصولها بلهفة متزايدة للبائعين. فازدادت شيئاً فشيئاً طرق منعها من الوصول الى المحافظات عبر اعتقال سائقي السيارات التي تقلها ومنع وصولها، كذلك منع دخولها الدوائر الرسمية وأماكن التعليم من ج?معات ومعاهد ومدارس وغيرها. حتى تنوعت المضايقات باعتقال بعض محرريها وحتى من يقتنيها ويحملها والى اعتداءات مختلفة الأشكال تتصاعد مع طبيعة الصراع الدائر حينذاك مع السلطات الحاكمة. بالإضافة الى الإنذارات المتكررة التي كانت تتوقف فيها الجريدة تحت أعذار لا تمت بصلة الى حرية الصحافة التي كان النظام يتشدق بها، متزامنة مع اشتداد الحملة الدموية لملاحقة الشيوعيين والديمقراطيين التي ابتدأتها سلطات البعث الحاكم منذ منتصف عام 1977 رغم الاتفاق المهزوز والعلاقة المرتبكة مع الحزب الحاكم في تلك الأعوام.
في ظل تلك الأحوال المتعثرة، وفي الأشهر قبل الأخيرة من المنع النهائي لصدور "طريق الشعب" كان ما يرد الى مدينة البصرة، كحال بقية المدن العراقية من الجريدة ووسط التقييد والمضايقات على نقلها سوى القليـــل من الأعداد، بل كان رفاق تلك الأيــام يجازفون وبشتى الطرق لإيصالها الى مقتنيها، وما تبقى من يعمل منهم في ظل موجة الاعتقالات والمطاردات المتلاحقة من قبل أجهزة الأمن وأجهزة الحزب الحاكم. وفي ضوء تلك الأحوال العصيبة، ابتكر البعض أساليب غير مسبوقة وشجاعة لمواصلة توزيع أعداد الجريدة التي تصل بعيداً عن الأنظار بعد أن?مُنع بيعها في الأسواق.
شهـِدَ شاطئ شط الخندق في العشار بمدينة البصرة في أحد مواضعه، وبجانب الشارع الممتد طويلاً الى نهايته بين مخازن الحبوب والأخشاب، وحتى ضفاف شط العرب، حكاية ارتبطت بأحوال تلك الأيام وديمومة وصول الجريدة واستمرار تدفقها دون انقطاع رغم كل الظروف. فقد كانت تأتي من يوم لآخر الى ذلك الموضع، وفي ساعات حلول الظلام وحيث يقل المارّة، سيارة قديمة للأجرة تقف بالقرب من شجرات النخيل الثلاث تلك، لتلقي بحمولتها من أعداد محدودة متفق عليها من جريدة طريق الشعب، ثم تواصل سيرها لتوزّع ما تبقى منها في مواضع أخرى من المدينة. واستمر? الحال هذه لأسابيع عديدة وسط حالة من الحذر الشديد والترقب في عملية التوزيع لاحقا. وكان يتوجب لاحقاً على الرفيق المكلف بعملية التوزيع الفردي للجريدة في ساعات مقتبل الليل تلك، أن يعدّ عُلباً معدنية فارغة من عُلب (حليب نيدو) الذي كان يشهد شحاً في توزيعه ووجوده في الأسواق مع غيرها من المواد الاستهلاكية، يجمع عدداً منها مسبقاً من بيوت بعض أقاربه ومعارفه وأصدقائه دون أن يثير شكوكهم! حيثُ كان يُدّس في كل علبة فارغة كبيرة ما يقارب الخمسة أوالستة أعداد من الجريدة ويسير بها في سلال من البلاستك وسط الأسواق المزدحمة ل?ي توزع لاحقاً على الأماكن المتفق عليها ودون أن يجلب ذلك إنتباه عيون الرقيب والمخبر السرّي الذي تنوعت صنوفه وتمرّس بوحشية وسط آلة القمع المتفاقمة.
ووسط المضايقات والإنذارات المتلاحقة وتوقف الإصدار من حين لآخر لجريدة "طريق الشعب"، والتي استمرت حتى نهاية الربع الأول من عام 1979 والتي تخللها اختطاف واعتقال عددد من محرريها وهرب البقية منهم، توقف وبشكل نهائي صدور الجريدة، لتعود مرة أخرى للإصدار السرّي ولتختفي كليا من الأسواق وتختفي معها لاحقا شجرات النخيل الثلاث التي تم اقتلاعها تحت ما سُميّ حينذاك (حملة إعمار مدينة البصرة) المضللة بكل تفاصيلها!
بعد تلك العقود والأحداث والحكايات المريرة ،لو قدّر لي أن أزور مدينتي، فإني سأجلس في ذات المكان الذي لا أنساه رغم خرابه وبؤسه الآن، ورغم غياب شجرات النخيل التي عشقتها، وأتصفحُ ذكرى تلك الأعوام وذكرى البواسل الذين ربضوا ولازموا أماكنهم بشجاعة، وهم ينتظرون وصول أعداد الجريدة، وأعود الى تلك الدروب التي كنت أسيرُ فيها دون خوف، حاملاً نبضَ الكلمـــة الشجاعة، نبضَ طريق الشعب!