صحافتنا الشيوعية.. وسماء المسيرة المشرّفة *

وافر الامتنان لكم على تلبية دعوتنا، وحضوركم احتفالنا اليوم، الذي نتوّج به فعاليات إحياء الذكرى الثمانين لولادة الصحافة الشيوعية العراقية ، ذكرى صدور الجريدة الأولى للحزب الشيوعي العراقي "كفاح الشعب" في 31 تموز 1934.
هذا الاحتفال الذي كنا هيأنا، كما قد تتذكرون، لإقامته في مثل هذا الوقت تقريبا من عصر 30 تموز الماضي، في عشية يوم الذكرى، لولا ان "جنرال الصيف" تجاوز المعتاد بقسوة قيظه هذه السنة، فقطع طريقنا واضطرنا الى التأجيل.
وقد اجّلنا .. لنعود اليوم الى استذكار ذلك الحدث، الذي دشن الطريق المديد والحافل لاحدى اعرق مدارس الصحافة العراقية، واكثرها ريادة وتقحما، مدرسة صحافة الشعب.
آنذاك ، قبل ثمانية عقود من السنين ، لم تبلغ سعة الخيال بايّ ممن اسهموا في اخراج مشروع "كفاح الشعب" الى النور ، لم تبلغ - ربما - درجة ادراك مغزاهُ وأهميتِه الحقيقيين ، في اللحظة نفسها وعلى المدى الابعد ، سياسيا وطنيا ، واجتماعيا تقدميا ، وثقافيا تنويريا.
كان العراق وقتئذ قد استيقظ من سبات القرون الطويلة، وبدأ يبصر ويتسمع ما يضج به العالم المحيط وغير البعيد، من مظاهر تطور وتقدم من جانب، ومن انقلابات وثورات وتغييرات لا تكف ولا تكل من جانب ثانٍ. فبدأ يتململ هو ايضا متبرما بواقع حياته البائس القاتم، ويتحرك متطلعا الى عيش احسن واكرم، والى حياة حرة مستقلة في بلد ينمو ويتقدم، ومجتمع تسوده العدالة ويُحترم فيه الانسان.
وكان تأسيس الحزب الشيوعي العراقي في آخر آذار 1934، احد ابرز مظاهر ذلك التحرك الانعطافي في التاريخ الجديد للعراق والمجتمع العراقي. ذلك انه جسد ارادة التغيير الصاعدة، المنطلقة من ادراك الحاجة الى تحول شامل: سياسي - اجتماعي - ثقافي، ينقل العراق من حال الى حال، ويدفع به الى لجة الحركة والنمو والتقدم.
وانعكس ذلك في البرنامج الثوري للحزب الوليد، الذي لم يكن ثمة بد من اداةٍ تحمله الى الجماهير صاحبة المصلحة، وتنشره في اوساطها الواسعة، مبشرة باهداف الحزب وسياسته، وباثّة الوعي السياسي الوطني والطبقي في صفوف الكادحين وعامة الشعب، ومسهمة في غمرها بانوار الثقافة والمعرفة.
لهذا لم ينقض عام وبعض العام على تأسيس الحزب، حتى طلعت "كفاح الشعب" .. جرسا يرن عاليا مستنهضا الجموع، ورايةً تَخفق مؤشرة وجهة التحرك والعمل، لتحقيق حرية الوطن وسعادة الشعب.
وسجلت تلك اللحظة، انطلاق مسيرة الصحافة الشيوعية العراقية، التي راحت تشق طريقها في السر جريئة جسورة، وسط كوابح والغام العهد الملكي الرجعي، ثم واصلت مسيرتها في السنين والعقود التالية بعزم واصرار، مجددة ومنوعة منابرها، ومتحدية الملاحقة والقمع من جانب السلطات الحاكمة وبوليسها، ومقدمة التضحيات الغالية من ارواح محرريها وطباعيها وموزعيها، ومن معاناتهم متعددة الاشكال.
ورصعت افق هذه المسيرة، التي لم تحظ خلالها الصحافة الشيوعية بفرص الصدور العلني الا قليلا جدا اذا استثنينا السنين الاثنتي عشرة الاخيرة، رصعتها اسماء الكثير من الصحف والمجلات والمطبوعات والمنابر الاخرى الاذاعية والتلفزيونية، التي واصلت حمل راية "كفاح الشعب" ورسالتها: الشرارة، القاعدة، آزادي بالكردية، همك بالارمنية، الاساس، العصبة، كفاح السجين الثوري، كفاح الطلبة، جريدة الشباب، صوت الفرات، شغيلة الجنوب، حرية الوطن، راية الشغيلة، الثقافة الجديدة، اتحاد الشعب، طريق الشعب، ريكاي كوردستان، اذاعة صوت الشعب العراق?، الفكر الجديد، رسالة العراق، نهج الانصار، اذاعة الناس، تلفزيون ريكا الطريق، والعديد من المنابر الاخرى.
وفي سماء هذه المسيرة الصحفية المشرّفة، التمعت وجوه مبدعة مقدامة كثيرة، وهبت اعز ما تملك لقضية الشعب والوطن، وتخلدت اسماؤها، مثل الشهداء عبد الجبار وهبي (ابو سعيد)، وعدنان البراك، وعبد الرحيم شريف، وصفاء الحافظ، وشمران الياسري (ابو كاطع) (سنعود اليهم جميعا ضمن برنامج احتفالنا هذا).
لم تكن الصحافة الشيوعية العراقية يوما، ولن تكون، صحافة حزبية مجردة، ضيقة الاهتمام، وحيدة الجانب.
نعم، هي لسان الحزب، وحامل رسالته، وناشر فكره وسياسته. لكنها كانت دائما، وما زالت، بعيدة عن الانغلاق في حدود الحزب وبرامجه ورؤاه، كانت وما زالت - شأن الحزب نفسه - معنيةً بكل ما يعني شعبنا وبلدنا، منفتحة على كل ما له صلة بحاضرهما ومستقبلهما، على قواهما الفاعلة والناشئة حديثا، واصواتهما المتنوعة، متفاعلة معها وساعية الى التعلم منها والتأثير ايجابا فيها. وكم فتحت من الصفحات، سابقا ولاحقا، لنشر مشاريعَ وافكارٍ لقوى وحركات اخرى، لم تكن فرص النشر (حتى السري احيانا) متاحة لها.
و"طريق الشعب" التي تصدر اليوم، وكل يوم، هي الدليل على ما نقول. فهي جريدة اكبر من حزبية، حدودها الوطن وحريتُه وسيادته وأمنه، والشعبُ وتقدمه ورخاؤه وسعادته. (هذا طبعا اذا لم نتحدث عن العالم وسلامه، والانسانية وخيرها).
وانطلاقا من هذه الحقيقة كانت القضية الوطنية، قضية استقلال العراق وحريته وسيادته الوطنية الناجزة، في رأس اولويات صحافتنا الشيوعية منذ اول نشأتها. ومن يتابع مسيرتها يكتشف انها كانت رأس رمح حزبنا والحركة الوطنية عامة، في المعارك والهبات والانتفاضات التي كانت تخوضها ضد التسلط الاستعماري والارتباط بالمعاهدات المجحفة والاحلاف العسكرية العدوانية، وضد التبعية الاقتصادية، ومن اجل انتزاع السيادة والاستقلال.
وكانت صحافتنا الشيوعية في الطليعة دائما (وحتى اليوم بالطبع) حين يتعلق الامر بالقضايا المطلبية اليومية لجماهير الشعب، وبالنضالات التي تخوضها جموع الكادحين، لا سيما العمال والفلاحون، ومثلهم الطلبة والنساء والفئات الاجتماعية الاخرى، في سبيل حقوقهم المشروعة، ودفاعا عن مصالحهم ومطالبهم العادلة، ولتأمين التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي للبلاد.
كذلك كانت في الصدارة كل حين، عندما يتوجب النزول الى سوح النضال من اجل الحرية والديمقراطية والحقوق الاساسية للانسان والمجتمع، وضد القمع والقهر والارهاب.
وبجانب جبهتي الكفاح السياسي الوطني والاجتماعي التقدمي، انغمرت الصحافة الشيوعية العراقية، في مراحل مسيرتها كافة، في جبهة كفاح اخرى لا تقل اهمية، ان لم تكن الاهم في النهاية، وهي جبهة الثقافة والتنوير والارتقاء بالوعي.
ولقد ابلت الصحافة الشيوعية على هذه الجبهة ايضا بلاء مشهودا، ومعها بالطبع وسائل الحزب الاخرى، ما مكن الجماهير الشعبية الواسعة، في مراحل مختلفة، من خوض المعارك الوطنية والطبقية الظافرة، وما جعل الناس يبصرون في الشيوعي صنو المثقف العارف المدرك.
ولقد تلمسنا في السنوات الاخيرة بانفسنا، ولا نزال نتلمس بمرارة ما بعدها مرارة، هول الاضرار التي لحقت بالعراق شعبا ووطنا، واوصلته الى حاله المريع الراهن، والتي كان الانخفاض غير المسبوق لوعي فئات الشعب الواسعة سببا اساسيا فيها.
لكننا اليوم، وقد مر شهران على انطلاق الحراك الشعبي السلمي ضد الفساد والمحاصصة ومن اجل الاصلاح والتغيير، نرى بجلاء وأمل بوادر تحول في ميدان الوعي هذا. تحول ناجم ليس فقط عن التجربة القاسية للسنوات الماضية، بكل اهوالها وآلامها، انما ايضا عن الجهد الهادف الدائب المتفاني، الذي بذلته القوى السياسية الحية في مجتمعنا، لازالة الغشاوة عن عيون جماهير الشعب، وإعانتهم على رؤية واقعهم المحزن على حقيقته، وتشخيص المسؤولين عنه وعن ادامته، والتصرف بناء على ذلك.
ان هذا الوعي الجديد هو ما دفع ويدفع اليوم آلاف المواطنين المؤلفة الى الشوارع والساحات، مطالبين بحقوقهم، ومنادين بالاصلاح والتغيير. وان تعزيز هذا الوعي وتعميقه وتوسيع نطاقه هو المهمة التي تنتظرنا اليوم، وتنتظر بوجه خاص صحافتنا الشيوعية.
حقا، لا يمكن تصور هذه المهمة بمعزل عن المهمات الاخرى على الجبهات كافة، السياسية والاجتماعية والانسانية، الوطنية والديمقراطية - المدنية والتقدمية .. غير انها تبقى مهمة متميزة، ذاتَ اهمية مفتاحية كما يقولون. وعلى السعي الى تحقيقها يتوقف الكثير في ميادين العمل الاخرى جميعا.
ايها الاحبة
اننا اذ ننظر باعتزاز وافتخار الى مسيرة العقود الثمانية الماضية لصحافتنا الشيوعية، والمدرسة الصحفية التي ارست اسسها وطورتها، في اطار الصحافة العراقية، نتطلع بثقة وتفاؤل عميقين الى مستقبلها، الى مشوارها القادم الذي سنسعى الى ان تكون فيه اكثر التصاقا بعد، بالجماهير وبالشعب والوطن وقضاياهما، واحسن تعبيرا عن مصالح الملايين العراقيين ومطامحهم .. والى ان تنهض خصوصا وعلى افضل وجه بالمهمة الكبيرة التي تنتظرها على صعيد التنوير والنهوض بوعي جماهير الشعب واشاعة الثقافة والمعارف على اوسع نطاق.
في العيد الثمانين للصحافة الشيوعية العراقية نتذكر ونمجد شهداءها وروادها ورموزها، كما نتذكر شهداء ورواد ورموز الصحافة العراقية جميعا، ونبقى حريصين على ان نتعلم منهم ومن امثولاتهم وانجازهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
* نص كلمة الاحتفال بالذكرى، ألقاها الرفيق مفيد الجزائري.