- التفاصيل
-
نشر بتاريخ السبت, 05 تشرين2/نوفمبر 2016 17:09
محمد علي الزرقة
كان المناضل محمد علي الزرقة قد استجاب لطلب صديقه الرفيق (ابو زياد) فكتب ذكرياته عن الرفيق فهد كمناضل وإنسان. وطبعت في كراس صغير عام 1993. ووافق مشكورا على اعادة نشرها في الملف الذي اصدرته (الثقافة الجديدة) ضمن ملف صدر في العدد 303/ ايلول – تشرين الاول 2001 وذلك بمناسبة مئوية يوسف سلمان يوسف (فهد). وها نحن نعيد نشر المادة احتفاء بمرور 115 عاما على ميلاد الرفيق الخالد فهد، حيث ولد في 8 - 7 - 1901.
اخي العزيز ابو زياد
تحية وبعد:
منذ سنة وأنت تلح عليّ ان اكتب لك بعض ما عرفته عن القائد الشهيد الرفيق فهد. فكيف استطيع ذلك ومعرفتي بالحزب الشيوعي العراقي، الذي كان يقوده الرفيق فهد بصلابة ووعي وشجاعة، لم تدم أكثر من أربع سنوات (1942 – 1946)، وإقامتي في العراق كلها لم تتجاوز سبع سنوات ونصف؟ وكان ارتباطي بهذا المنظم الماركسي الفذ عابرا، وغير مباشر، في معظم الأحيان؟ وإن إقامتي معه في بيت سريٍ واحد، مع مطبعة "القاعدة" وأجهزتها، لم تدم أكثر من أشهر معدودة، من عام 1946، وانتهت في حزيران باعتقالي ثم طردي من العراق. فلم يعد لي، بعدها، من علاقة مباشرة به أو الحزب إلا من خلال ما كان يوافيني به الرفيق الشهيد محمد زكي بسيم، من ملاحظات ووصايا يسجلها على هوامش الصحف اليومية التي كان يرسلها لي بين أسبوع وآخر من بغداد.
وقد علمت أن القيادة في الحزب قررت فور اعتقالي نقل المطبعة والجريدة من بيتي إلى أماكن أخرى أجهلها. وهذا تدبير احترازي طبيعي في كل عمل سري.
أما ما عرفته عن الرفيق فهد فلا يعدو أن يكون صفحة واحدة من مجلد ضخم كان قد سطره بنضاله البطولي خلال عشرات السنين قبل قدومي للعراق وبعد تركي له.
لذلك اعتذر إذا جاءت هذه الأسطر التي أسجل فيها لمحات من تجربتي القصيرة في العراق مختصرة وعادية. وإذا كانت أحكامي فيها شخصية وسريعة قد لا ترضي غيري، غير أنها كانت بالنسبة لي جدية كل الجدة، ومهمة في اعتقادي، ومجدية لي، من حيث أنها فتحت أمامي نوافذ للمعرفة وحوارا للفكر، جديدة كنت أجهلها.
وقد أسرني هذا الرفيق العالي المستوى لا بلطفه وحسن استقباله لي ورعايته.. بل ما كنت أكتشفه فيه من عمق ودقة وخبرة وحسن تصرف، ما دفعني لأن أكبر فيه العمق والصدق والشجاعة وشمول المعرفة. والقيادة الناجحة، لا تستقيم عادة إلا لمن توفرت فيهم هذه الصفات مجتمعة، وذلك نادر وقليل.
ولم تتزعزع عقيدتي هذه به حتى يومنا هذا، رغم ما طرأ على تفكيري وأحكامي العامة من تبدلات، أفرزتها الظروف العربية والعالمية المتجددة، التي لم تكن معروفة منا جميعا حينذاك.
حين قدمت إلى العراق في 15 /1 /1939، كنت هاربا من الاحتلال التركي لبلدي. كنت – آنذاك - عضوا نشيطا في حزب (عصبة العمل القومي) العروبية النزعة، الميال لعراق فيصل الأول، وخليفته غازي، صاحب الميول الوحدوية والذي كان يشارك - كما قيل - في إذاعة قصر الزهور، الموجهة إلى العالم العربي. وقيل أيضا إنها كانت سبب اغتياله. وكنا - نحن - أبناء لواء الاسكندرونة ننظر إلى العراق نظرة القوميين الألمان إلى روسيا حتى توحيدها على يد بسمارك.
ومنذ وطئت قدماي أرض (الكرخ) في سيارة عابرة للصحراء، لم أتوقف عن الاتصال بمن كان يمثل الاتجاه الوحدوي (في نظرنا). التقيت بوزير الدفاع السيد طه الهاشمي في مكتبه بتوصية من المجاهد فوزي القاوقجي. والتقيت بالعقيد صلاح الدين الصباغ في منزله في شارع طه على طريق الأعظمية, فقال لي وهو يصافحني بيده البضة: "إننا إذا لم نحقق الوحدة العربية خلال أربع سنوات نكون خونة لهذا الوطن". وتعرفت على صغار الضباط الشباب في لواء العروبة، الذي كان يقوده العقيد فهمي سعيد، احد العقداء الأربعة الذين كانوا يحكمون العراق بتوجيه من السيد أمين الحسيني، والذين عرفوا بالمربع الذهبي. وقابلت السيد يونس السبعاوي خريج جامعة دمشق في منزله، وحاورت خلال السنة الأولى من وجودي الكثير من ذوي النزعات المختلفة (اليمينية واليسارية). وحضرت اجتماعات نادي المثنى بن حارثة ونقلت إلى المرحوم محمد سعيد ثابت وساطع الحصري أحلام اللوائيين الوحدوية. ولطالما دخلت في حوارات مع الشبان اليساريين الذين كنت أحاججهم. وكان يبدو لي أن منطقي وحججي قد أقنعتهم في حين كنت اعترف - بيني وبين نفسي- أن هذه الحجج لم تقنعني. وقام صراع في نفسي يتناول كل قناعاتي السابقة. فتتضاءل وتتراجع أمام قناعاتي الجديدة التي تنمو وتتجذر في غلائل عقلي، وأحتفظ بها سرا في مكنونات عقلي الباطن.
عشت في لواء الإسكندرونة في غمرة الصراع العنصري (التركي العربي). وكان العدو الفرنسي الحاكم يمالئ الأتراك ضد العرب. فمن الصعب على شاب خارج لتوه من دور المراهقة أن يتجاهل مأساة قومه، فلا ينحاز بكليته إلى قضيتهم. وهكذا كنت.
أنا - أصلا - من عائلة فقيرة. مكانها في أسفل السلم الاجتماعي. وترعرعت في حي شعبي من أفقر الأحياء وأكثرها إهمالا وصخبا. وكنت أقرأ أحيانا بعض نشرات الشيوعيين السوريين عن العمال والفلاحين، أي عن طبقتي. فكنت أتمنى أن تتولى قيادة حزبي مثل هذا النهج. لذلك حينما أنهيت دراستي الإعدادية وبت عنصرا فاعلا في الحزب وفي جريدته (العروبة) في عامي 1937 و1938 بدأت أجتمع بالعمال والفلاحين ونقابات البحارة والصيادين، أكتب لهم عرائضهم وانشر عنهم المقالات الضافية في العروبة حتى غدا %80 مما كتبته في العروبة هو عنهم. وكان قادة حزبي يشجعونني على هذا النهج.. لذلك كنت - في حواراتي القومية - أنحو نحوا إنسانيا كنت أقول: إذا كان من حق العرب أن يتحرروا فلماذا لا يكون ذلك من حق الآخرين.
كنت في اللواء شابا ضئيل المعرفة، ثوريا نزقا. وكذلك صرت في العراق عندما كنت طالبا داخليا
في دار المعلمين العالية. وكنت قد اكتسبت الجنسية العراقية اعتمادا على قرار فريد أصدره رئيس وزراء العراق في أواسط الثلاثينيات المرحوم ياسين باشا الهاشمي (من يدخل العراق من العرب ويعيش فيه خمسة عشر يوما يحق له اكتساب الجنسية العراقية). ولم يكن هذه القرار وهما، فقد حصلت على الجنسية به. وقد عاونني مثلما عاون جميع اللوائيين، المرحوم السيد حمدي الباجه جي الذي ظل له الفضل الأول على كل من درس من اللوائيين في العراق.. أقول كنت نزقا، فقادني هذا النزق إلى تزعم الطلبة في أعمال التمرد على إدارة القسم الداخلي وما يصيب مواده من ضياع، فاكتشف بعض الطلاب الشيوعيين في المعهد صلاح خامتي للترويض فتقربوا مني وساندوني ضد الإدارة. وكان من أهم هؤلاء طالب مستجد يقارب سني (السيد كاظم حمدان) فصادقني وحدب علي وأمن لي الكثير من الكتب، ثم صارحني بأنه شيوعي من جماعة الرفيق فهد، وأخذ يحضر إلى القاعدة بانتظام.
لم أكن حتى عام 1940 قد قرأت شيئا أساسيا أو مهما من الأدب اليساري، عدا ما تكتبه الصحف وكان العداء بين التيارين (اليساري واليميني) واضحا. وكانت إذاعة برلين وصوت مذيعها (يونس بحري: حي العرب) تجد لدى الكثيرين إذنا صاغية. فبعد فشل ثورة رشيد عالي الكيلاني وإعدام قادتها وسيطرة الإنجليز اشتد العداء ضدهم وتغنى الشعراء برفضهم.. قال الشاعر الرصافي قبل وفاته عن هذه الكارثة وعودة الوحي من ركاب العدو:
زفت إلينا العروس وزوجها الإنجليس
زفت إلينا زفافــــا فيه الشقا والنحوس
المهر منـــــا دماءً والعرس يوم عبوس
وكان صراع التيارين في الجامعات واضحا أيضا، ولم أكن بعيدا عنه.
في هذا الجو المكفهر انتشر الأدب اليساري بكثرة، وتنوعت مجلاته القادمة من بيروت أو من القاهرة أو من القدس. وأصبح الشيوعيون يعتبرون الحرب العالمية القائمة حربا تحريرية ضد النازية بعد أن دخلها الاتحاد السوفياتي. وصار من حق الشيوعيين أن ينشطوا وكثرت مراجع هذا الأدب اليساري في المكتبات وبين أيدي الطلاب. وكانت الهزيمة المدوية للجحافل الألمانية في ستالينغراد بداية التراجع الألماني في جميع الجبهات، وعاملا مؤثرا في انتشار الأدب الماركسي الذي يمثل هذا الفوز, وكذلك الأمر في توسيع وتعداد المنظمات اليسارية التي يدعي كل منها أنه الأحق بتمثيل الحركة الشيوعية. وكان بعضها معاديا لفهد وحزبه. وقد وضح لي صديقي الجديد (كاظم حمدان) الكثير من هذا الجدل وشرح لي ما أمكنه من أسراره وأسبابه، وإن كل جماعة تمثل شريحة اجتماعية لها مصالحها. وقد بدأت أتعمق في دراسة بعض القضايا الشيوعية البارزة بجدية ورغبة كصراع الطبقات ودور البروليتارية وكفاحها للوصول إلى الحكم، وفرض دكتاتوريتها لمنع استغلال الإنسان للإنسان وإزالة النزاع الطبقي ومعه الدولة ومؤسساتها.
وكانت الخيبات التي أصابت العرب في النصف الأول من هذا القرن، وفقدان الفكر العقائدي المحلل والمعالج لهذه الخيبات، قد أبعدني تدريجيا عن المعسكر القومي المترنح الذي انتمي إليه. وبدا لي كأنه مركب تائه تتقاذفه أمواج عشوائية عاتية، وتضلله شعارات مثالية لا أجد لها تجسيدا في الواقع عند أي حزب أو جماعة أو مخطط فكري، ممن كان يقود هذا المعسكر. وقد قربني هذا التباعد الذي أخذ عقلي يتوه في تضاعيفه الغامضة من التيارات اليسارية الجديدة التي تغمر أسواق العراق. وكان أول ما قرأت رواية (الأم) لمكسيم غوركي التي ترجمت أسوأ ترجمة، وطبعت كذلك أسوأ طبعة. ومع ذلك قد انفعلت - أيما انفعال- مع الأم وولدها (باول) وبالجو الروسي الذي أحسنت الرواية رسم خطوطه العامة. ففتحت شهيتي لقراءة أي شيء يصلني من هذا الأدب. فلما أمعنت في قراءة الكثير مما كانت تخرجه المطبعة العربية عن هذا الأدب بأبعاده الشعبية والعقائدية وآرائه المستمدة من جدلية ماركس وأنجلز وإضافات لينين وستالين، استطاعت أن تحفر في أعماقي أخاديد عميقة لفكر جديد، ولتفاسير فلسفية لم تخطر لي على بال.
وتساءلت - بيني وبين نفسي - عن حقيقة ما يقال عن الصراع الطبقي، وعن جدلية الحياة وصراع المتناقضات وولادة الجديد من قلب القديم لتقويضه؛ عن التفسير المادي للتاريخ وقوانين الطفرة وبقاء الأصلح، ومن هو الأسبق المادة أم الفكر؟ وكيف تم نمو النظام الاقتصادي وتطوره منذ المجتمعات البدائية وحتى انتصار البرجوازية وسيطرة رأس المال وتحوله إلى وحش إمبريالي يلتهم كل شيء؟ وهل يصح ما اكتشفه ماركس وانجلز، وكف تحول نظام الأجور إلى قيود حديدية طوقت العمال ووضعتهم على ضفاف القوت الذي لا يحمي حتى من الموت، وكيف ينمو التناقض في رحم هذا التطور، عندما يتكتل العمال ويتحولون إلى قوة جديدة قادرة على تفويض النظام القديم، وهل يمكن أن يتم ذلك فعلا.. متى وكيف؟ وهل يستطيع التنظيم - أي تنظيم - أن يحمي نفسه، وأن يحرر جماهيره فعلا حتى من قادته - البشر - الذين تستبعدهم السلطة وتحولهم - أحيانا - من أنبياء مصلحين إلى مشعوذين وسراق وقتلة؟
كانت أسئلة متنوعة وكثيرة تتصارع - بدورها - في خيالي.. كنت أجيب على بعضها وأعجز عن الإجابة على بعضها الآخر. إلا أن معظم إجابتي كانت تقربني أكثر فأكثر من المنطق الماركسي، رغم كل ما كان يخالج نفسي من مخاوف أو أوهام. وبحثت عن كل كتاب حتى الممنوعات وحتى المعادة وكان (كاظم حمدان) يساعدني مشكورا، وكثيرا ما كنت أدخل معه في حوارات. كان يفوقني في تحليلها بحكم انه كان منظما ويعرف ما يريد. أما أنا فكان تبلبل فكري المبتدئ يتحول تدريجيا إلى يقين يتبلور في عقلي ويثير الشكوك في كثير من المسلمات التي كانت تتملكني وأنا في العشرينيات من عمري، وكم كنت أدافع عنها بكل حرارة الإيمان والألم. ثم ما لبثت قراءتي الجديدة أن هزمتها، واتاحت لي أن أتقبل أفكارا جديدة تناقضها ثم ما لبثت أن تجذرت في نفسي.
وتساءلت كثيرا - سرا - ألا يمكن أن نكون - نحن العرب - قد ضللنا الطريق إلى التحرر؟ ألا يمكن أن تكون الأفكار الجديدة التي تعززها الماركسية والنضال الشيوعي عندما يتجذر في النفوس العربية الطموحة أقوم من غيره وأجدر بالإتباع، وأقرب إلى بلوغ الهدف المطلوب من التحرر؟
وانضويت - عمليا - الى حلقة يوجهها صديقي (كاظم حمدان)، وبدأت أقرأ في حلقتي هذه بعض الأفكار الماركسية الأساسية ونناقش - دوريا - ما تنشره القاعدة ونتحدث عن أهمية ما يحيط بها من أحداث. وأيقنت أني أحسنت الاختيار وكان اختياري أن أكون عضوا عاملا في الحزب الذي يقوده الرفيق فهد الذي لم أعرفه إلا من خلال ما اقرأه له في (القاعدة) وما يتحدث به الرفاق عنه.
ومضت أشهر تخرجت فيها من الجامعة بامتياز يؤهلني لأن أصبح معيدا فيها. وقبل أن تفتتح المدارس أبلغت أن الإدارة قد حرمتني من هذا الحق (فالدوائر الخفية لم يعجبها سلوكي)، وعينت مدرسا في العمارة (جنوب شرق العراق)، ونفذت هذا القرار. وقبل ذلك جاءني مرة (كاظم حمدان) وصارحني بتردد أنه تخلى عن الرفيق فهد، وأن ثمة انشقاقا في الحزب قاده رفيق آخر ارتبط به كاظم، وطالبني بأن انضوي معه، فسكت قليلا.. ثم أفهمته بحزم إنني لست بيدقا في لعبة. وأنني أكره الانشقاقات. ومع أنني ضد الخطأ فلا أرى أن إصلاح الخطأ يكون بالانشقاق، وانفصمت علاقتي به ولا أدري ما حل به بعد ذلك. ولن أنسى فضله ولطفه رغم اختلافي معه.
تعرفت خلال نشاطي الحزبي الجديد على العديد من الرفاق الواعين الذين لم أكن اعرف عنهم شيئا ثم أكتشفُ أنهم من القادة، منهم ابن صفي في دار المعلمين العالية الرفيق يهودا صديق الودود ودمث الخلق الهادئ الذي يتمتع بعقل واضح. وتعرفت إلى شاب آخر موظفا، كان مناضلا جادا يجبرك على احترامه، هادئ الأعصاب قليل الكلام، كثير العمل، عميق التفكير شديد الود.. ومنظما خلاقا في هذا الباب هو الشهيد محمد زكي بسيم الذي كان يكاد لا يمر يوم دون أن أراه. وتعرفت إلى شاب نجفي، أديب، وشاعر شديد الحساسية، مشبوب العاطفة هو الشهيد حسين محمد الشبيبي. وكان على دماثته وخلقه الرفيع، شديد الثورة سريع الاندفاع، شديد الحرص أيضا على القراءة والتأليف. وكان حماسه يبلغ أحيانا حد الاندفاع وكنت أحب فيه هذه الصفات. وتعرفت إلى عدد آخر من النقابيين وزعماء العمال والفلاحين، منهم رئيس نقابة السكك الحديدية علي شكر، والنقابي صلب العود والريفي (فِعل ضُمد) وغيرهم. كما تعرفت على المحامي الكاظمي الشهيد محمد حسين أبو العيس الفارع الطول الذي يبدو كأنه مصارع بطل، والمحامي العاني الودود سالم عبيد النعمان.
وفي منزل الرفيق محمد زكي بسيم قدمني إلى رفيق جديد لم أعرف عنه شيئا. كان ربع القامة في الخامسة والأربعين - حسب تقديري - هادئ الطبع قليل الكلام، يحسن الاستماع ولا يشارك إلا بكلمة أو كلمتين، ولكنه كان يحسم بهما الحديث الذي نناقشه بأفضل واصح صورة، وعرفت أخيرا أنه الرفيق فهد.
كنت أعرف انه من أصل عمالي (يوسف سلمان)، من منطقة الناصرية، وانه تدرج في صفوف العمال وزار الاتحاد السوفياتي ورافق ديمتروف في الكومنترون، والتقى هناك خالد بكداش. لذلك كانت آراؤه وأحكامه قوية إلى درجة لم تبهرني فقط بل أدهشتني. لقد أتيح لي مرارا - حتى وأنا طالب - في الأشهر الأخيرة من دراستي أن التقي به. كان لقائي الأول - الآنف الذكر - في منزل الشهيد محمد زكي بسيم، الكائن في زقاق ضيق من أزقة الحيدرخانة القريبة من دار الحكومة. فكان الحديث عاما، وكنت معروفا بأنني من الطلاب المهتمين بالدراسة، فسألني عن مدرستي وعن دروسي وعن المدرسين، وعن أهمية ما يلقونه من دروس. سألني: ما هو اختصاصك؟ قلت: الاجتماع. وكان علم الاجتماع واسعا يشمل حتى الجغرافية والتاريخ. فأضاف: وما هو الكتاب الذي يكون مدار دراستكم في علم الاجتماع؟
قلت: كتب علم الاجتماع، لـ (ماك إيفر) وهو كتاب كبير وشامل.
قال: فقط ؟.... قلت: أهمها أنه جامع وشامل.
قال: كيف يعرّف ماك أيفر الدولة.. مثلا؟
واجمعت فكري وقلت: يعرّف الدولة، بأنها المؤسسة الاجتماعية الأكبر التي تضم جميع المؤسسات، تنسق بينها بحيث تستقيم في ظلها الأمور.
قال: لخدمة من؟ قلت: لخدمة المجتمع ككل، لضمان استمراره ونموه وبقائه.
فابتسم وأردف: ألم تدرس في حلقتك الحزبية النظام الطبقي في المجتمع، وصراع الطبقات، وتباين مصالحها؟ فلمن تقدم الدولة - وهي المؤسسة الأكبر - خدماتها من هذه الطبقات؟ ومن تمثل - أصلا - من هذه الطبقات المتصارعة؟
قلت: تمثل الطبقة الأقوى... وفي مجتمعاتنا الحالية: تمثل البرجوازية مالكة الرأسمالية وتنظم العمل لخدمة مصالحها هي، حتى لو تجاوزت على مصالح غيرها من الطبقات.
قال: أحسنت فهي إذن (أي الدولة) بقوانينها وأنظمتها، ليست أكثر من مقرعة تقرع ظهور العمال والكادحين، تنظم المجتمع وتديره للوصول إلى هذا الهدف الذي يدعم سلطتها ويحميها. ألم تكن كذلك في جميع العصور، منذ ظهرت الملكية الخاصة وانقسم المجتمع إلى طبقات مالكة (أي حاكمة) وطبقات مستغَلة (أي محكومة)؟ الدولة مجرد (عصا) في يد الحكام.
أليست القوانين والنظم والقواعد والمؤسسات أسلحة لها.. لا تتردد عن استخدامها في حروبها.. (في صراعها الطبقي)؟ هذه هي مهمتها الأساسية. وهي - إذن - ليست للمجتمع - لكل المجتمع - كما يقول كاتبك الكبير، بل لخدمة الطبقة الحاكمة.
كان كل ما قاله صحيحا. ومقنعا وكان علي أن أوافق دون أن يكون لأحكامي أو لآراء (ماك إيفر) القوة القادرة على الصمود أمام المنطق الماركسي كما عبر عنه الرفيق فهد حينذاك. وسار الحديث هكذا بقية الجلسة وتضاءلتْ أمام أقواله السديدة كل معلوماتي الجامعية، وبدت سطحية أمام تفسيرات هذا القائد العمالي الفذ. وبدا لي - في أول لقاء لي معه - عملاقا وعالما متفوها تفوق عليّ بسهولة، وأدرى بعلومي الاجتماعية الكلاسيكية التي كنت أعتقد أنني قد أحسنت دراستها. فاستوعبت قشورها ولم أستطع الغوص إلى أعماقها، إلى مضامينها وحقيقة مدلولاتها كما فعل.
لم يخبرني أحد من الرفاق الحاضرين أنه الرفيق فهد, ولكن منطقه عرفني به. وافترقنا يومها دون أن يصرح لي بشخصه ولكن مجرد مقارنتي المنطقية بين معلومات هذا العامل الواعي، القادر على إلقاء أضواء فلسفية على أقواله وتفسير القوانين والأحداث على أساليبها بشكل عجز عن مجاراته طلاب الجامعة من أمثالي، كما عجز عنه حتى المثقفون الذين عرفتهم ممن يحملون الشهادات في اختصاصاتهم أقنعتني بما ذهبت إليه. اكتشفت فيه من اللقاء الأول أنه جدير بأن يكون القائد الفعلي للحزب. اكتشفت فيه رجلا حاد الذكاء كبير المعرفة، لماحا، عميق الفكر، سديد الرأي. وكنت اعرف من الأحاديث العابرة عنه أنه زار الاتحاد السوفياتي ودرس في الكومنترن ولطالما حدثني - بعد ذلك - وفي لقاءات أخرى عن هذه الفترة من حياته المبكرة وعن نضاله.
وعندما تحدد سفري إلى العمارة، للالتحاق بوظيفتي مدرسا فيها لعدة علوم، سُعدت للتعرف إلى هذا الجزء النائي من العراق، والذي لم يسبق لي معرفته. وكانت وصية الرفيق فهد لي أن أتصل بمعلم صابئي أسمه (مالك سيف) وأن انضم إلى حلقته. كان قد مضى عليّ أكثر من سنة وأنا اعمل في حلقة من حلقات الحزب، وأتعرف ببعض كوادره، في شتى المناسبات. وكنت أعتقد أنني قد أصبحت شيوعيا عربيا يناضل في صفوف حزب قوي مدرب، منظم، وواع لأهدافه الكبرى ومهامه اليومية.. وله في جميع طبقات الشعب وفئاته العرقية والدينية والمنطقية (من منطقة) جذوره الشعبية الواسعة ذات الفعالية والأثر الواضح الذي يراه المراقب جليا في كل مناسبة ولاسيما في عمق الطبقات العربية الكادحة في الريف والمدن.
قلت: (شيوعيا عربيا) لأنني لم أجد ضرورة للانفصال نفسيا عن مثلي التحررية العربية، ولا عن قناعتي الراسخة في أعماق الضمير بإنسانية النضال العربي، ومجافاته لكل تلك الدعاوى الفجة التي كان يطلقها بعض العنصريين باسم القومية العربية وهم منها براء ومعظمهم من أبناء الموظفين الأتراك الذين تخلوا عن مواقفهم بعد انهيار الدولة العثمانية، أو الذين يدفعهم العداء للإنجليز إلى الانحياز للنزعات المتشبهة بالنازية. كنت أؤمن في أعماقي بأني عربي أولا، وأن العروبة هي عائلتي الأولى الأقرب، وان خدمتي لها لا تفترض فيّ معاداة بقية العوائل أو عدم التكاتف والنضال معها في سبيل تحقيق الأهداف الأبعد والأكبر. وان ما ارتبط به من عائلة هي الدائرة الداخلية الأقرب، لا تفترض بعدي عن الدوائر الأخرى الأوسع التي تحيط بها دائرة بعد أخرى. وأن الوشائج بين هذه الدوائر قوية، لا تعطل فهمي الجديد للفكر الماركسي الذي لا يطلب مني قط أن أبتعد عن عائلتي الأولى. ذلك أن عائلتي الأولى وما يليها من حي أو مدينة أو قطر يحيط بعضها بعض، إن هي إلا أجزاء متصلة متوافقة لا متنافرة. تلك هي القضية في نظري.. وإن نسيج الإنسانية بكامله إنما يتألف من هذه الدوائر ولو أن الدائرة الأكبر التي تضم جميع الدوائر هي الإنسانية. ومن المعجب والمفيد أن أعلن أنني وجدت في نظريات الرفيق فهد وتفسيراته الفلسفية المستمدة من الفكر الماركسي، أنها كانت تدعم هذه النظرة الاشبه بالعقيدة ولا تخالفها.
وبعد سنة ونصف من نشاطي هذا، وفي اجتماع رسمي للحلقة التي أنتمي إليها, فوجئت بالمسؤول عن الحلقة يقدم لي ورقة أمليها وأوقع عليها فيه طلب مني بقبولي الانتساب للحزب. فدهشت وقلت للمسؤول بشيء من الاحتجاج والعتب: ماذا كنت إذاً طوال هذه المدة؟
قال - بابتسامة لطيفة - كنت صديقا، آزرتنا واستطعت خلال ذلك، أن تفهمنا جيدا، وان نفهمك، وأن نتأكد من أنك عنصر واعد، جدير بأن تكون منا، وأن نخوض معا بقية معارك وطننا. وتلقيت أجابته الرصينة برضا ورحابة صدر، ولم أعلق. وبعد أيام بلغت أنني قبلت عضوا عاديا في صفوف الحزب. وبدأت أواظب - كعادتي - على اجتماعات حلقتي ثم انتقلت إلى غيرها من الحلقات الأقرب من القيادة.
لم أكن اهتم بالتفاصيل الشخصية التي يتناولها الأعداء أو المعارضون، أو المنافسون للحزب، أو الذين يجدون أنهم أجدر بالقيادة من الرفيق فهد. فكل تلك التفاصيل كانت تبدو لي وكأنها غريبة عني، لا أستوعبها جيدا ولا أعيرها التفاتا وكثيرا ما كنت أنساها فورا.
لم اهتم بماضي الحزب فأنا مواطن جديد وطارئ. ولست قديرا على التغلغل في أعماق الماضي الداخلي لأحزاب العراق. كذلك لم أهتم بقادته وكوادره العليا، بأسمائهم الحقيقية أو جذورهم الطبقية أو انتماءاتهم العرقية أو الدينية أو المذهبية. فكل هذه أيضا كانت غريبة عني. كنت مجرد عنصر طارئ بينهم ولا خلافات لي مع أحد منهم، فلا أستطيع - والأمر كذلك - أن أخوض في هذه الأمور. كنت - فعلا - قد حصلت على الجنسية العراقية. ولكن هذا لم يكن كافيا لأن يجعلني جزءا طبيعيا من النسيج العراقي الشعبي. كنت اشعر أحيانا بالغربة رغم ما يحيطني به الرفاق والقائد من رعاية وحب.
كان رفاقي الذين أحاورهم متعددي الأصول واللغات والمذاهب. كانوا عربا وأكرادا وتركمانا وآشوريين وكلدانا وصابئة ويهودا. كان المسلمون منهم سنة وشيعة، وكان المسيحيون كذلك. كان اليهود كثيرين بين الرفاق وكانت لقاءاتي معهم كثيرة وخاصة بعد إنشاء دار الحكمة للطبع والنشر، وتأسيس حزب التحرر الوطني، وتأسيس عصبة مكافحة الصهيونية. وقد استشهد بعضهم في المظاهرات.
لم التفت إلى هذه التفاصيل كنت أناقش أنشطة كل فرد من هؤلاء ومدى صدق تعامله مع القضية التي توكل إليه ومع الحزب، ومدى استعداد أصحابها للعمل الجدي والشجاع وللتضحية، مما يجعلني أثق بمعظمهم وأتعاون معهم بلا تلكؤ ولا عقد، مما كان يحفل به مجتمع العراق حينذاك. وأغلقت أذني عن كل تلك المقولات المعارضة أيا كان مصدرها.
أسعدني مجتمع العمارة فقد منحني المدير الطيب غرفة من غرف القسم الداخلي مع مجموعة من المدرسين المصريين الذين منحهم غرفا أخرى. وبدا لي مجتمع العمارة أكثر نقاء وتجانسا من مجتمع بغداد. واتصلت بالمعلم (مالك سيف) فضمني إلى حلقته الحزبية وكنا ثلاثة: هو وزميلي في الثانوية السيد علي السامرائي مدير المكتبة (الشاب الظريف الطيب الكريم) وأنا. ولم أنسجم قط مع مالك سيف، كان محدثا أشبه بالجاهل يقرأ علينا كراسا "أسس اللينينية" بقلم ستالين، مترجم للعربية، ومنقول بخط اليد، فكان يقرا وكأنه نائم فيدب النعاس إلى عينيّ، وكنت ضحية النعاس الذي أغالبه مضطرا، فلا أفهم شيئا مما يقرأ. فإذا ما انتهينا وخرجنا إلى مقهى شعبي نتناول "استكانا" من الشاي أشعر كأنني قد تحررت من كابوس.
وكما في بغداد تعرفت في العمارة الى شوارعها وأسواقها وأصنافها وسكانها الكرماء الطيبين، وأصبح لي فيها عدد وافي من الأصدقاء، وخاصة بين المتعلمين محامين أو مهندسين أو معلمين أو حتى من طلاب الصفوف العليا الذين لمست فيهم حبا أدهشني.
وعرف عني في المدينة وبين الطلبة والمعلمين أنني مدرس يساري متطرف. وكانت مشاكل الثانوية كثيرة، وخلافات الإدارة التعليمية مع الطلاب لا تنتهي. ونما لمدير المعارف (أظن أن أسمه الطالباني أو الطالقاني) أنني مدرس مشاغب، وأن الطلاب يتأثرون بي، وربما كنت محرضا لهم. فطلب من إدارة المعرف في بغداد نقلي من العمارة. ولما تأخر ذلك ثار وهدد بالاستقالة قائلا: أما أنا أو هو في العمارة. ولم يكن قد مضى على وجودي الأشهر الخمسة. ثم نقدم بشكوى إلى دوائر الأمن يتهمني، فصدر القرار بنقلي وتوقيفي وتقديمي للمحاكم في العمارة. ومر هذا القرار السري على أصدقائي فأنبؤوني به، وهيأوا لي وسيلة سرية للنقل إلى بغداد قبل الصباح وقبل تنفيذ القرار. وهكذا عدت إلى بغداد متخفيا. ولما كنت قد منعت من التدريس في مدارس الحكومة لجأت إلى المدارس الخاصة في بغداد لتأمين معاشي خلال السنتين التاليتين. ولم تحول إدارة العمارة الدعوى إلى بغداد فلم أوقف فيها، وتنوسي الأمر حتى عام 1945. وكنت بحاجة إلى الحصول على جواز سفر ولا بد من تسليم نفسي في العمارة ومحاكمتي، ولجأت إلى ضابط كبير كان قد تزوج فتاة لوائية فأتصل بزملائه فأنهوا هذه المشكلة بسلام.
وفي عام 1945 كانت قد بدأت في العراق حركة شبه ديمقراطية في وزارة أرشد العمري والوزير سعد صالح فأجيزت بعض الأحزاب الديمقراطية كالحزب الوطني الديمقراطي بقيادة السيد كامل الجادرجي صاحب جريدة الأهالي، وحزب الشعب بقيادة السيد عزيز شريف وحزب الاستقلال. وبدا للرفيق فهد أن الظرف مناسب للمطالبة بإنشاء حزب يساري (أي واجهة علنية للحزب الشيوعي) هو حزب التحرر الوطني. وطلب الرفيق فهد مني أن انضم إلى عدد من الرفاق محامين وأساتذة ومهندسين وقادة نقابيين وفلاحين فوضعنا نظاما لهذا الحزب، وتقدمنا بطلب إجازة كغيرنا ولكن السلطة لم ترخص لحزبنا العمل. وظللنا ننتظر موافقتها بدون جدوى ونصدر البيانات والكتب ونعقد الاجتماعات الشعبية باسم "الهيئة المؤسسة لحزب التحرر الوطني"، وكنت من أعضاء هذه الهيئة وربما من أنشطهم.
كما كلفت أن أنشئ شركة تجارية مساهمة للطباعة والنشر باسم (دار الحكمة) على أن أكون مديرها المسؤول، وجمعنا خلال شهرين أكثر من (6000) دينار تبرعات لقاء أسهم أعطيت للمتبرعين، وما زلت أملك (150) سهما موقعة باسمي بصفتي مديرا لها. واشترينا مطبعة كبيرة مستعملة وصرنا نطبع عليها كتبنا وكتب حزب التحرر، وكتب عصبة مكافحة الصهيونية وجريدتها (العصبة)، (وقد اهديتك مجموعة أعدادها وربما كانت المجموعة الوحيدة الباقية). وتحولت مكاتب (دار الحكمة) إلى ما يشبه بالنادي السياسي يؤمه الكثيرون من الحزبيين حتى الكوادر العليا، والعديد من الشعراء والأدباء والصحفيين والنقابيين ومندوبو المناطق. كما أصدرنا - بأمر من الرفيق فهد - مجلة شهرية باسم (واسط) كنت أتولى إصدارها وأكتب العديد من مقالاتها بأسماء مستعارة أو باسمي الشخصي. (كنا نكتب حتى المقال الذي يصدر باسم صاحبها). وقد نشرت المجلة مقالة لفهد ذاته عنوانها: "نحن نكافح في سبيل من؟ وضد من نكافح؟" نقلتها عما كانت تنشره جريدة العصبة من افتتاحيات بقلمه دون أن يذكر أسمه. وكان الرفيق فهد حريصا على الإطلاع يوما بيوم على معظم ما ينشر من مقالات أو كتب، فيصحح بعضها ويعدل بعضها، وقد يضيف إليها فصلا يرى ضرورة لنشره. وعندما كتبت كتابي (اقتصادنا الوطني) أضاف إليه بقلمه فصله الأخير. وكذلك فعل بالنسبة للكتاب الذي أصدرته الدار للدكتور يوسف عبود، العائد من ألمانيا، وصاحب مشروع إنشاء مصنع الصابون. وكان عنوان الكتاب (مستقبل العراق الصناعي) فأضاف إليه الرفيق فهد بقلمه وبموافقة المؤلف فصله الأخير عن الصناعة الثقيلة. ومن المهم أن اشهد بأن هذه الإضافات كانت تتناول أبعادا جديدة أهملها الكتاب، تعطيه قيمة أكبر، وتمكن القارئ من كسب فوائد جديدة. وكذلك نشرنا بنصيحة منه كتاب (تنظيم العمل والحركة الستخانوفية)، وكتاب (القنبلة الذرية)، وكتاب الرصافي (على أبواب سجن أبي العلاء) وقد كتبت مقدمة طويلة له. وكنت قد اشتريت كل المخطوطات التي خلّفها الرصافي بعد وفاته من خادمه، بقصد نشرها، وقد نشرت مخطوطة واحدة منها وظلت المخطوطات الباقية ملكا لدار الحكمة، حتى استولت الشرطة الجنائية على الدار ومحتوياتها ومنها مكتبتي الخاصة وكانت تضم ما يقرب من خمسة آلاف كتاب جمعتها خلال إقامتي في العراق، ومنها هذه المخطوطات التي نهبت وضاع أثرها. كذلك ترجمنا كتاب أنجلز (اصل العائلة) ونشرناه بمقدمة طويلة لي. كانت الكتب المهيأة للنشر كثيرة، تتجاوز العشرات حين أغلقت الدار ونهبت شرطة التحقيقات الجنائية محتوياتها.
كما تسلمتُ تنظيم طلاب الجامعات في بغداد. وأتذكر أن الشاعر العراقي الكبير المرحوم بدر شاكر السياب كان في بداية انطلاقه من هؤلاء المرتبطين بي حزبيا. وقد جاءني في نيسان من عام 1946 وقدم لي قصيدة طويلة لنشرها في (واسط) وكانت عمودية قيمة، تتحدث عن فيضان دجلة والفرات. فقلت له سأنشرها في هذا العدد طبعا ولكن بشرط قال: ما هو؟ قلت أن تضيف إليها بضعة أبيات انشرها في وجه المجلة كعنوان للقصيدة ودعاية لها. على أن تكون هذه الأبيات خطابا موجها إلى شعب العراق، تتساءل فيه: متى يحين فيضك أيها الشعب العظيم، مثلما فاض دجلة والفرات، ومتى تكسر قيودك مثلما كسر النهران سدودهما. فجاءني بعد يوم يحمل إلي الأبيات المطلوبة فنشرتها في صدر المجلة فعلا وكما وعدته.. وكانت تمثل الهدف الذي طلبت منه إضافتها من اجله. وهي هذه الأبيات والمجلة موجودة في مكتبتي....
رب ناج من الردى، خلّف الأنباء صرعى من المائج الهدّار
مثقل الظهر، بالسنين الطويلات، وبأشلاء بيته المنهـار
لاح لي فانطلقت أزجي إليه الشعر حرّان قاذفــــا بالشـــــرار
أيها المبتلى وأدعو بك الشعب وقد همّ غيظه بانفجـــــــــــــــــار
ذلك النهر فاض بعد احتباس، عاصفا بالــــدود عصـف أقدار
نبئني: أي ساعة أبصر الشعب وقد فاض بعد طوال الأسار
ساحقا في اندفاعه ما أقام الظلم في دروبه من الأسوار
ونشرت القصيدة كما وعدت.
وكان في الحلقات الجامعية التابعة لي شاب أرمني عرفوه علي باسم (اصطفان)، ولا أعرف إذا كان هذا هو اسمه الحقيقي أو انه اسم حركي. وكان أديبا يحب الشعر الأرمني الثوري ويرويه بافتخار. وكان يقضي معي الساعات الطوال يقرأ عليّ قصائد ارمنية ثورية تحرض العرب على غاصبيهم نظمها الشاعر الأرمني (أزادفشدوني) فيترجمها لي بلغة بغدادية عامية، فصرت أصوغها له بلغة عربية فصيحة. ونشرت له بعضها في مجلة واسط باسم مستعار آخر (أرمو)، وكونت منه دفترا صغيرا ما زلت أملك مخطوطته.
وعندما قرأتها على زميلي المدرس الأرمني في حلب في الخمسينيات، السيد (أوديك اسحاقيان) سرّ بها وأهداني ديوان الشاعر أزادفشدوني بالأرمينية وترجم لي قصيدة أخرى ضممتها إلى دفتري ولا أعرف الآن مصير الرفيق أصطفان الذي طالما أسعدني حسه الأدبي الشاعر.
وهكذا كنت جم النشاط طوال أعوام (1943 و1944 و1945 و 1946) بقيادة فهد والكثير من توجيهاته المباشرة. ولذلك رشحني الرفيق فهد للاتصال بالحزب الشيوعي (اللبناني السوري) باسمه وطلب إليّ أن أسافر في العطلة الصيفية لعام 1943 إلى بيروت وأن أحمل إليها مطبوعات الحزب وأدبياته، ولاسيما أعداد القاعدة ونظم الرفيق الشهيد محمد زكي بسيم لي حقيبة فنية فيها أرضية سرية جمعت فيها كل تلك المطبوعات، واخترت السفر على عربة شحن للبضائع كمساعد للسائق اللطيف الودود (عدنان)، وكانت هذه الشاحنات تنقل السلع العسكرية من بيروت إلى بغداد فطهران فالاتحاد السوفياتي وتعود فارغة. وكان أجرها زهيدا لي وممكنا، وكانت سفرتي معه ممتعة سجلتها لنفسي في عشر صفحات. ولم يفطن لما في الحقيبة رجال الجمارك لما تضمه حقيبتي الحقيرة. وقابلت في بيروت الرفيق الشهيد فرج الله الحلو فسلمته، فسرّ بها، وحدثته عن العراق والحزب وفهد وكل شيء، وكان متعاطفا، حملني تحياته وإعجابه، وتمنى عليّ أن أنقل إلى الرفيق فهد ضرورة اللقاء مع الكتل المعارضة وتسهيل عودتها للحزب. وقد فعلت ذلك وأسعدني أنني شهدت عودة الكثير من هؤلاء وتعاونت معهم في أعمال النشر ونشاطات حزب التحرر الوطني، وأصبح منهم أصدقاء لي لن أنسى عمق صداقتهم.
وفي عام 1945 طلب مني الرفيق فهد أن استأجر منزلا بأسمى، يظل سريا لا يعرف به أحد. ولا أتخلى عن مكاني المعروف وهو غرفة في منزل في عقد النصارى، ظللت اتردد عليه ولم أقطع صلتي به. واستأجرت المنزل المطلوب، وهو منزل عربي واسع نسبيا، فيه عقد كبير تحت مستوى ارض المسكن، في حي الشيخ عمر على مقربة من جامع الولي الشيخ عبد القادر الكيلاني. أقمت فيه طوال عام 1945 ومعظم عام 1946، حتى تم اعتقالي في حزيران من العام نفسه، ثم طردت في أواخر آب. فتكون إقامتي في المنزل سنة ونصف وفي العراق سبع سنوات وسبعة أشهر. ولم أعرف بعد اعتقالي كيف تم التنازل عن المنزل، وتسليمه لأصحابه، ومتى، ولو أنني عرفت فورا أن مطبعة الحزب وجريدته قد نقلتا من المنزل فورا إلى مكان سري آخر، أجهل كل شيء عنه.
لقد استخدمت هذا المنزل لإقامتي "المزعومة" لكن الرفيق فهد هو الذي أقام فيه. وكنت معه مجرد رفيق يحضر بعض اجتماعاته ويغيب عن أكثرها. وقد نقل إليه مطبعة القاعدة واتخذ من العقد (القبو) الواسع مقرا لها. وخزن فيه الورق والأعداد وكل لوازمها. وأخذت القاعدة تطبع في هذا المكان وتخزن فيه أعدادها وترزم وتوزع منه على جميع أنحاء العراق. وكان موقع البيت المنزوي بين الأزقة، وقدسية الحي المجاور للجامع الكبير وكثرة الأغراب الذين يؤمون الحي عاملا مفيدا لصرف الأنظار عنه.
كان الذي يدهشني في سلوك الرفيق فهد أنه لم يكن قائدا منظما فذا وموجها فكريا عميق النظر وبعيده، قادر على التنظير الفكري وتحليل الأحداث وفلسفة أسبابها ووضع الشعارات المنطقية المقبولة للمرحلة وأسلوب نشرها فحسب، بل كان إلى جانب ذلك عاملا بارعا كأكثر عمال الطباعة مهارة.. كان يصلح أجزاء المطبعة ويهيئ حروفها ويكتب مقالاتها ويصفّها مهيأة للطبع ويقوم بنفسه بطبعها ورزمها، يفعل كل ذلك معا وبمنتهى البراعة والدقة والتنظيم. وكنت أتقدم لمساعدته أحيانا.. ولكن كل مساعدة له كانت تبدو ضئيلة بالنسبة لعمله الكبير الذي لا يتوقف لا في الليل ولا في النهار. كان يعيش الرفيق فهد في هذا البيت معيشة المتصوفين والرهبان. وكنت ألحظ كيف كان يكرس كل لحظة من لحظات الليل والنهار، لإنجاز القضية التي وهب نفسه لها، على أكمل وجه.
كان الرفيق فهد في حدود الخامسة والأربعين - كما حددت ذلك من وجهة نظري - هكذا كان يبدو لي كالشاب النشيط المقبل دائما على العمل بكل أشكاله الفكرية والتنظيمية واليدوية. وكان قوي البنية - كما كنت أراه - جم النشاط. والغريب انه في جميع حواراته وأحاديثه العادية التي حضرتها في بعض سهراته مع الرفاق، أو في تصرفاته الشخصية، لم يشر إلى الجنس أو الكحول أو يقرب من ذلك بحسب علمي ورفقتي شبه الدائمة له في هذه الشهور من عامي 1945 و1946. وكان ذلك يثير فيّ المزيد من الإعجاب به وإكباره. كنا نأكل ما يتيسر أو بعض ما يحضره بعض الرفاق أو ما نشتريه من الأزقة التي تحيط بنا.
وفي عام 1945 رشحني الرفيق فهد لحضور المؤتمر المصغر للحزب (الكونفرنس) الذي عقد في يومين متتاليين في منزل أحد الرفاق في حي (العلوازية) فحضرته كعضو منتدب واستمعت فيه إلى تقرير الرفيق فهد، وتقارير بقية الرفاق من القادة. وحين جرى انتخاب اللجنة المركزية الموسعة، فوجئت أن الرفيق فهد قد رشحني لعضويتها، وانتخبت فعلا وحضرت اجتماعين من اجتماعاتها التي كانت تعقد مرة كل ستة أشهر.
وقد تعرفت بسب نشاطي الفكري بالكثير من الأدباء والشعراء الحزبيين وغيرهم. وكان الرفيق فهد كثيرا ما ينتدبني - بصفتي عضوا مؤسسا في حزب التحرر الوطني - للقاء بعض السياسيين والقادة المسؤولين. قد نبتُ عنه مرتين في مفاوضات مع السيد كامل الجادرجي، ومع السيد عزيز شريف ومع الشاعر محمد مهدي الجواهري في مكتب جريدته (الرأي العام) وكثيرا ما كنت أقرب من وجهات النظر بين الحزب وهؤلاء أو أخفف من نقاط الخلاف.
كان الهم الأكبر هو المشاركة في الدفاع عن الديمقراطية وعن حرية الأحزاب وعن مطالبة الآخرين بمناصرة حزب التحرر الوطني للحصول على الإجازة بالتنظيم والعمل، ورد الافتراءات عن عصبة مكافحة الصهيونية التي كانت تعلن عداءها العميق ضد الصهيونية. وقد نشرت دار الحكمة لأحد أعضائها (يوسف هارون زلخة) كتابا ضافيا في هذا الباب عنوانه (الصهيونية عدوة العرب واليهود). وقد التقيت في السجن بهذا المثقف اليهودي المعادي للصهيونية ولم أسمع منذ طردي من العراق أي خبر عنه، مع ما عرف عنه أو لمسته فيه من عمق وإخلاص في ما يعتقد ويقول.
كان يساعدني في عملي في دار الحكمة معظم الرفاق، حتى القادة منهم. كان الرفيق الشهيد محمد زكي بسيم يحاول أن يدربني على تنظيم أعمال الشركة وإدارة المكتب. كان لا يختلف عن المساهمة بجدية وإخلاص في كل عمل حتى الأعمال اليدوية كتنظيم الكتب والمقالات والمقاعد معا. كان في سلوكه يعلمنا بدون أوامر وبالمشاركة الفعلية. رأيته مرة يساعد خادم المكتب (عبد الزهرة) في تنظيم الكراسي وتنظيف المكتب. كان يشعر الآخرين - أيا كانوا - بأنهم أندادا محترمون، فيكتسب بذلك احترامهم وطاعتهم إذا كانوا حزبيين. وكان الرفيق الآخر حسين محمد الشبيبي لا يقل حرصا على الحضور والنشاط عنه، والمشاركة الفعالة وكأنه عنصر أساسي من عناصر المكتب. وكان يساعدني المحامي الكاظمي الشهيد محمد حسين أبو العيس، والمحامي العاني الصديق سالم عبيد النعمان وغيرهما.
كنا نؤلف عائلة واحدة يشارك الجميع فيها، كل فرد بما هو مؤهل له أو يستطيعه.
كانت القضية العربية الأهم - المثارة على نطاق العراق والأقطار العربية - وهي قضية فلسطين. وكان خطر التقسيم قد بات واضحا في عام 1946. وكان الحزب الشيوعي العراقي بقيادة الرفيق فهد ضده، وكانت مبادئه وأحكامه قد نشرت على النطاقين العربي والعالمي. وكانت جميع المنظمات والأحزاب قد أدلت بدلوها في بحث جوانبه مؤيدة أو معارضة. وكان الاتحاد السوفياتي في أول الأمر معارضا، وكان رفض الشيوعيين له مبررا. ولكن الإتحاد السوفياتي بدل من رأيه فيه وصار يرى في التقسيم حلا وحيدا ممكنا. وتابعته الأحزاب الشيوعية في تأييده لا من الغرب فحسب بل في الوطن العربي (في مصر والقدس وبيروت والشام) - ربما متابعة منها للإتحاد السوفياتي على أساس انه قائد المعسكر الاشتراكي - والمسيرة الماركسية برمتها. أيده الجميع إلا فهد والحزب الشيوعي العراقي. وجريدة القاعدة والجرائد الأخرى التي تسير معها كالعصبة وواسط، ونشرات حزب التحرر الوطني. وظلت هذه القوى العراقية الكبرى تطالب كما كانت دائما بزوال الانتداب الإنجليزي نصير الصهيونية في فلسطين وإعطاء الشعب الفلسطيني، و80% بالمئة منه عربي، حق تقرير المصير لإقامة دولة ديمقراطية يتساوى فيها جميع السكان عربا ويهودا. أو بكلمة أوضح: إقامة دولة عربية ديمقراطية في فلسطين.
ولم يكن هذا الكلام وهماً يمكن إنكاره؛ فقد سجلت صحف الحزب هذه المبادئ علنا ولاسيما بقلم القائد فهد ولم يبدل رأيه حتى استشهاده ولو أن من خلفوه في القيادة قد خانوا نهجه واعترفوا بما رفضه. (كان الحزب يثقف ويناضل ضد تقسيم فلسطين، وعندما أيد الاتحاد السوفيتي قرار التقسيم في هيئة الأمم، استقبل الرفيق فهد ومن معه من قياديي الحزب القرار بتحفظ، وطلبوا من قيادة الحزب خارج السجن التداول مع الاحزاب الشيوعية في سوريا ولبنان وفلسطين والاردن بهذا الشأن واتخاذ موقف موحد. فصدر بيان هذه الاحزاب بتأييد قرار التقسيم، جراء تقديرها بأن تطبيق القرار يمكّن الشعب العربي الفلسطيني من حقه في إقامة دولته المستقلة على جزء من أرضه – الثقافة الجديدة). ومن يريد تحري هذا الموقف الفريد، عليه أن يعود إلى افتتاحيات الرفيق فهد في جريدة العصبة (نحن نكافح في سبيل من) والتي نشرت بعد ذلك في كتيب خاص. ففيها الجواب الصحيح على الموقف العربي الواضح للرفيق فهد، وعندك أعداد الجريدة فعد إليها. كذلك عندي العدد الثالث من مجلة واسط التي نشرت في صفحتها الـ 14 فصلا من هذه المقالات (عم نكافح) يقول في أحد مقاطعها: (على الحكومات العربية أن تعرض فورا قضية فلسطين على مجلس الأمن، وتطالب بتأليف حكومة ديمقراطية) أي عربية لأن أغلبية السكان كانت في عام 1946 من العرب، وكان اليهود فيها أقلية لا تتجاوز العشرين بالمئة.
وكنت متأثرا بهذا الرأي ومساندا له. لذلك جاء في خطابي المنشور في العدد الخامس من مجلة واسط في الصفحة الثالثة بتاريخ 20 أيار 1946، تحت عنوان (ماذا يعني الانتداب في فلسطين) الكلمات الآتية: (إن حل مشكلة فلسطين لا يكون إلا بإلغاء الانتداب، وبإعطاء شعبها حق تقرير المصير، حق تأليف حكومتهم الوطنية الديمقراطية الحرة. ولكن من حق شعبنا العربي في فلسطين, وهو يكّون الأكثرية فيها، لأن يأخذ بيده المبادرة. فتتألف - بمعونة اليهود - حكومة عربية ديمقراطية تحقق لجميع السكان على السواء العدل الاجتماعي والتقدم)، وذلك في الصفحة السادسة من العمود الأول لذلك العدد.
إن من حقنا - اليوم - وقد مضى على استشهاد الرفيق فهد عشرات السنين، إن نبرز هذه الحقيقة لأنها الحقيقة الوحيدة التي تتفق مع العدل الإنساني ومع الشرع الدولي، وبخاصة مع الفكر الماركسي الصحيح، الذي كان يؤمن به فهد على حقيقته وبدون عقد عرقية أو دينية أو مذهبية أو غيرها. كان يؤمن بذلك كحق طبيعي ليس للعرب فحسب بل لكل الشعوب. ولأنه عربي فللشعب العربي بصورة خاصة. لا أقول أن الرفيق فهد كان قوميا عربيا بالمفهوم الخاطئ لهذا المصطلح ومعظمه مشوب بالشوفينية والعنصرية والتطرف وكراهية الغير. لم يعادِ العرب ولم يحارب نزوعهم الوحدوي، بل كان مؤيدا لحركات التحرر العربية. لأن ذلك التأييد كان من طبيعة فكره العلمي الماركسي.. الم يخاطب البلاشفة بعد عام 1917 جميع الشعوب المجاورة بالحب والتأييد دافعين بها للتحرر؟ أكان البلاشفة في سلوكهم هذا مخطئين؟ ذلك ما فعله الرفيق فهد. لقد فهم الوضع العربي على حقيقته واكتشف أن المرحلة التي يجتازونها هي مرحلة تحرر.. ولن يكون هذا التحرر ممكنا إلا بتوحيد نضالهم.
كان من طبيعة الفكر العلمي الماركسي في الأربعينيات أن تتكتل كل القوى العربية وأن تطالب بحق تقرير مصيرها، أي حقها في الوصول إلى حكم بلادها حكما ديمقراطيا عادلا. ومن الممكن بموجب هذا المنطق العلمي أن يكون التحرر القومي الإنساني غير المعادي للشعوب رديفا طبيعيا للكفاح الأممي.. هذا ما كنت اعتقد فهد يؤمن به.
وكان - كما عرفته - ينتقد - برفق طبعا - ودون تهجم أو شتيمة.
وعندما عدت الى دمشق في عام 1946 واجتمعت بالرفيق بكداش ومجموعة من كوادر الحزب أتذكر منهم السادة نجاة قصاب حسن، إبراهيم البكري، رشاد عيسى، ورفيق آخر نسيت اسمه من آل الشلق.. في مكتب الحزب في المزرعة.. طلبوا مني الحديث عن العراق وعن الرفيق فهد.
وحين اشتدت الدعوة لتقسيم فلسطين في أواسط 1946.. وبدأ البعض يأخذون بأضاليلها، وكنا في العراق نعاديها علنا وندعو جماهير شعبنا لمناهضتها، دعانا الرفيق فهد إلى التكتل مع بقية القوى الوطنية وأن تؤلف مجموعة من المثقفين (محامين ومهندسين وأطباء ومعلمين ونقابيين) لإصدار بيان صريح ضدها، ولدعوة الشعب للتجمهر أمام بناء كلية الهندسة والمسيرة في مظاهرة شعبية سلمية تندد بهذا القرار، على أن نطبع البيان وتنشره الصحف بأسماء واضعيه الصحيحة. وصدر البيان ونشرته الصحف وحدد يوم 26 حزيران موعدا لهذا التظاهر. وبما أن العراق كان يعيش منذ عشر سنوات - منذ انقلاب بكر صدقي - في ظل الأحكام العرفية وكان التظاهر جريمة يعاقب عليها القانون، فقد اعتبر بياننا جريمة توجب الاعتقال والمعاقبة، وقبض على جميع الموقعين إلا إياي فقد كنت في بيتنا السري الذي تجهله الحكومة، ودوهمت غرفتي في عقد النصارى فلم يعثروا علي. وقد رأى الرفيق فهد أن عدم اعتقالي وأنا أمثل الحزب تقريبا نوعا من الهرب. وأن علينا أن نواجه الحكومة ومحاكمها وأن نحول محاكماتنا إلى مظاهرات. وطلب مني الرفيق فهد أن أسلم نفسي وجمعت حاجياتي الضرورية في حقيبة يد وذهبت إلى الشرطة طائعا أسال عن سبب بحثهم عني.... فاستشاطوا غضبا وحولوا التحقيق إلى البحث: أين كنت أختفي؟ فقلت لهم: لم أغب عن غرفتي إلا مرارا للطعام وتأمين الحاجيات. سجنت مع الباقين وتمت المظاهرة والتجمعات في مواعيدها الأمر الذي ضاعف من غيض الحكومة، فلم تقدمنا للمحاكمة وحوكمنا شكليا وصدرت براءة جماعية لنا وخرجنا على وليمة أقامها لنا رفيق، كانت نوعا من الشوربة لعدم إرهاق معدنا الخاوية. وعندما ذهبت إلى مطعم العاصمة لأتناول طعاما، جلس إلى قربي شرطي سري، وقال لي عليك أن ترافقني إلى مدير الشرطة، وأدركت أنه اعتقال آخر. وبعد أن شتمني المدير وتفرس في هويتي العراقية ضمها إلى أوراقه، وقال لقد سحبنا منك الجنسية وعليك مغادرة العراق. وسنسلمك بأنفسنا باعتبارك من مواليد إنطاكية. ولم يفد احتجاجي بأنني سوري. ونقلت إلى موقف قسم الشرطة في (العباخانة)، وهو أسوأ سجن للشرطة في بغداد، مكثت فيه خمسة عشر يوما. قدمت لي فيه فتاة طيبة اعرفها باسم (نورية) فراشا وبطانية ومخدة. ثم نقلت إلى سجن قسم الكرخ، وهو أرقى وأفضل من سابقه. وبعد خمسة عشر يوما نقلت مكبلا بالحديد إلى محطة السكك الحديدية المتجهة إلى الموصل. وهنالك - في المحطة - وعلى بعد أمتار مني شاهدت عددا من الرفاق وعلى رأسهم الرفيق الشهيد حسين محمد الشبيبي, يودعونني بابتسامة رقيقة... ونهد القطار إلى الموصل. وبعد أيام في سجنها نقلت بسيارة من سيارات الشرطة مكبلا إلى مدينة زاخو حيث مكثت في سجنها أسبوعا. كان مدير السجن إنسانا شريفا أكرمني, وجنبني بعض الأذى. وعندما نقلت إلى الحدود التركية رفض الترك قبولي فأعادوني إلى زاخو، فالموصل، ومنها إلى محطة تلكوجك السورية. وسلمت لرجال الدرك السوريين مكبلا بالحديد دون أوراق، فلما سئل العراقيون عن الجريمة قالوا لا نعرف. وحينما رويت لهم السبب قالوا هذا موقف يوجب الثناء عندنا لا العقوبة. وبعد يومين حررت من القيود ونقلت إلى حلب وأمام موظف الإدارة السياسية المثقف السيد فؤاد اسود قبل مني أن اكفل نفسي وأن أذهب إلى دمشق للحصول على أوراق شخصية ففعلت وأصبحت مواطنا أبحث عن وظيفة.
ولم تنقطع صلتي الأدبية برفاقي في بغداد. كان الرفيق الشهيد محمد زكي بسيم يراسلني سرا بإرسال صحف بغداد إلي، يشحن هوامشها بتوصياته وأخباره حتى تم اعتقالهم بخيانة احد قادة الحزب. وبناء على توصياتهم ظللت صديقا للشيوعيين السوريين.
وأنني إذ أعيد ذكرياتي عن الفترة الثرية بالنشاط والفكر وصدق العمل المطوقة بغلائل الحب والاحترام والثقة التي طوقني بها الرفيق الشهيد فهد ورفاق العراق الطيبين، لا يسعني بعد مرور نصف قرن إلا أن انحني بكل إجلال أمام هذه الذكريات الحية في النفس... وأثمن من جديد مواقفه الواعية الشجاعة ومواقف رفاقه الشهداء الأبرار.... وشكرا.
دمشق 10 /10 /1993
* (الثقافة الجديدة)، العدد 303/ ايلول – تشرين الاول 2001، ص 59 – 73.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجلة "الثقافة الجديدة"
العدد 384
أيلول 2016